إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 1 مايو 2014

1386 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الدعوة إلى العقل -> فلسفة رجل الدولة 5- فلسفة رجل الدولة





1386


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الدعوة إلى العقل -> فلسفة رجل الدولة

5- فلسفة رجل الدولة


هنا نحس بعقل جبار قوي-رجل واحد على مدى قرن، متمكن من الفلسفة ومن السياسة على حد سواء. وقد يشوقنا أن نقف على تفكير الفيلسوف في السياسة، وتفكير السياسي في الفلسفة.
وعلى الرغم من أنه كان لبيكون منهج في الفلسفة، وأنه ترك عرضاً حسن الترتيب لفكره، باستثناء المنطق، فإن اتجاه أفكاره كان واضحاً، ولو أنها اتخذت شكلاً يدل على رجل كان لزاماً عليه كثيراً أن يخرج عن هدوء الفلسفة لينظر في قضية


    صفحة رقم : 9607    


قانونية، أو ليقف في وجه المعارضة في البرلمان، أو ليمحص الرأي والنصح ملكاً لا يجدي معه الرأي والمسورة. ويجدر بنا أن نجمع آراءه من تعليقاته العابرة ومن نبذه الأدبية، بما في ذلك "مقالاته" (1597، 1612، 1645). وفي إهدائه هذه المقالات إلى بكنجهام، وفي غرور صناعة الكتابة، كتب بيكون ، "إني أرى.... أن الأثر قد يبقى ما بقيت الكتب". وكان أسلوبه في رسائله متكلفاً ملتوياً، حتى لقد اعترفت زوجته: "إني لا أفهم كتابته الملفوفة المليئة بالألغاز(50)". وبذل في "المقالات" جهداً أكبر، وراض قلمه على الوضوح ووصل إلى قوة هائلة في التعبير، لا تباريه فيها إلا صحائف معدودة في النثر الإنجليزي، من حيث المادة ذات المغزى الهام الزاخرة بالتشبيهات المشرقة الواضحة في صياغة دقيقة، وكأنما أولع تاسيتس (مؤرخ روماني-القرن الأول الميلادي) بالفلسفة، وتنازل ليكون واضحاً.
إن حكمة بيكون دنيوية إن ينصرف عن الميتافيزيقا(ما وراء الطبيعة) إلى الخفي أو الطائش من الأمور، وقليلاً ما قفز طموحه الوثاب من الجزء إلى الكل. ومهما يكن من أمر فإنه أحياناً أنه يخوض في مادية حتمية: "لا يوجد في الطبيعة حقاً، شيء عدا الأجسام الفردية التي تؤدي أعمالاً فردية صرفة طبقاً لقانون محدد(51)". وإن البحث في الطبيعة ليأتي بأحسن النتائج حين يبدأ بالفيزياء وينتهي بالرياضيات(52) ولكن "الطبيعة" هنا قد تعني العالم الخارجي. لقد آثر بيكون الفلاسفة المتشككين قبل سقراط، على أفلاطون وأرسطو. وامتدح ديموقريطس الفيلسوف المادي(53). ولكنه حينئذ يرتضي تمييزاً دقيقاً بين الجسم والنفس(54)، ويستبق بيرجسون للفكر على أنه "مادي أساسي". "إن إدراك الإنسان يتأثر برؤية مل يجري في الفنون الميكانيكية.... ومن ثم يتخيل أن شيئاً شبيهاً بهذا يجري في الطبيعة للأشياء(55)". ويرفض مقدماً البيولوجيا الميكانيكية عند ديكارت.
ومع ما يعتمل في نفسه من عواطف متصارعة نحو الدين، نراه "يتبل" في حرص، فلسفته "بالدين، وكأنما يتبل بالملح(56)" "الأفضل عندي أن أصدق الخرافات التي


    صفحة رقم : 9608    


في حياة القديسين وفي التلمود وفي الكتب المقدسة، على أن يكون هذا العالم بلا عقل(57)". ويضع الإلحاد في مكانه في قطعة تكررت مرتين(58). وإن تحليله لأسباب الإلحاد لتوضح فكرة هذا الكتاب:-
إن أسباب الإلحاد هي الانقسامات في العقيدة، إذا كانت كثيرة، لأن أي انقسام أساسي يلهب حماسة الفريقين كليهما وغيرتهم، ولكن الانقسامات الكثيرة تقود إلى الإلحاد، وثمة سبب آخر، وهو أعمال القسس المخزية. وأخيراً، عصور المعرفة، وخاصة إذا سادهم السلم والرخاء، فان المتاعب والعداوات تزيد في اتجاه عقول الناس إلى الدين(59).
إن بيكون يؤكد قاعدة أن "الدين يحد من كل ألوان المعرفة(60)". وطبقاً لما رواه قسيسه راولي "كان يذهب كثيراً إلى الصلاة في الكنيسة، إذا سمحت ظروفه الصحية"... ولقي ربه على العقيدة الصحيحة للكنيسة الإنجليزية"(61). وعلى الرغم من ذلك، فإنه أفاد، مثل خلفه العظيم وليم أوكهام، من التمييز بين الحقيقة اللاهوتية والحقيقة الفلسفية، فقد يتمسك الدين بمعتقدات لا يجد العلم والفلسفة عليها دليلاً، ولكن الفلسفة يجب أن تعتمد على العقل فقط، كما أن العلم ينبغي أن يلتمس تفسيرات دنيوية صرفة، على أساس سبب ونتيجة ماديتين(62).
وعلى الرغم من تحمس بيكون للمعرفة، فإنه يخضعها أو يضعها في المحل الثاني من الأخلاق. فليس ثمة نفع للإنسانية إذا لم يؤد التوسع في المعرفة إلى الخير. "إن طيبة النفس هي أهم مزايا العقل ومنازله الرفيعة(63)" ومهما يكن من أمر فان حماسته المألوفة حين يتحدث عن الفضائل المسيحية. ومن الواجب ممارسة الفضيلة باعتدال، لأن الأشرار قد يخدعون غير الحكماء(64). وقليل من الخدع أو الرياء ضروري للنجاح، إن لم يكن المدنية. والحب ضرب من الجنون، والزواج نوع من الشرك أو الفخ: "إن الذي له زوجة وأولاد، يضع عقبات في سبيل النجاح، لأنهم عوائق في سبيل المغامرات والمشروعات الكبيرة...


    صفحة رقم : 9609    


إن أفضل العمال وأعظمها أثراً على الناس نبعت من أناس ليس لهم زوجة ولا أولاد. "وأقر بيكون-مثل اليزابث وهلدبراند-عزوبة رجال الدين". إن حياة العزوبة تصلح لرجال الكنيسة، لأن الصدقات لا تكاد تروي الأرض، إذا كان لزاماً عليها أولاً أن تملأ بركة(65)" (لاحظ نزعته إلى الاستعارة والمجاز والإيجار الأنجلوسكسوني). إن الصداقة خير من الحب. وإن المتزوجين ليكونون صدقات غير مستقرة. إن بيكون يتكلم عن الحب والزواج بأسلوب رجل ضحى بالعواطف الرقيقة في سبيل الطموح، ورجل أمكنه أن يحكم مملكة أفضل من أن يحكم بيته.
أما فلسفته السياسية فقد واجهت حالات وظروفاً أكثر مما واجهت نظريات. وأوتي من الشجاعة ما امتدح معها ماكيافللي. وارتضى صراحة المبدأ القائل بأن الدول ليست مقيدة بالقانون الأخلاقي الذي تلقنه لرعاياها. وأحس-مثل نيتشه، بأن الحرب الجيدة ترحب بأي سبب، "ويجب ألا نستمع إلى رأي أساتذة وفلاسفة العصور الوسطى الذي يقول بأنه ليس من العدل أن تشن الحرب إلا إذا سبقها وقوع الضرر أو الاستفزاز... إن الخوف الحقيقي من خطر محدق، ولو لم تحدث أية ضربات، سبب مشروع للحرب." وفي أية حادثة "فان الحرب العادلة الشريفة هي الطريقة المثلى" للمحافظة على الأوضاع السليمة للأمة(66). وإنه لمن أقصى درجات الأهمية، من أجل الإمبراطورية والعظمة، أن تؤمن الأمة بأن "سلاحها هو مناط شرفها، وهو هدفها وشغلها الشاغل". والبحرية القوية ضمان لاحترام الجيران. "والسيادة على البحار هي الرمز الحقيقي للملكية(67)". وفي شباب الدولة تزدهر الأسلحة، وفي وسط عمر الدولة، تزدهر المعرفة، ثم تزدهر الأسلحة والمعرفة كلتاهما معاً لفترة من الزمن، وفي عصر اضمحلال الدولة تنتعش الأعمال التجارية والتجارة(68). وسكان المدن محاربون ضعاف، والفلاحون أو القرويون أفضل منهم في الحرب، ولكن صغار ملاك الأرض الأحرار أفضل الجميع. ومن ثم فان بيكون مثل مور، استنكر المساحات الزراعية الكبيرة


    صفحة رقم : 9610    

المسورة، لأنها تقلل من نسبة ملاك الأراضي في السكان. واستنكر تركيز الثروة على أنه سبب هام من أسباب الفتن والثورات:
وأول علاج أو مانع لهذه، هو أن نزيل بكل الوسائل الممكنة، السبب المادي... وهو الحاجة والفاقة... ونهتم بكل ما يخدم التوسع في التجارة وتوازنها، وتعزيز الصناعة والقضاء على الخمول، والتبديد والتبذير، بسن قوانين الحد من الإنفاق وتنظيمه. وتحسين التربة وعدم إرهاقها وتحديد أسعار الحاجيات المبيعة وتخفيف الضرائب.... وفوق هذا كله، انتهاج سياسة حكيمة في عدم تجميع ثروات الدولة وأموالها في أيد قليلة.... إن المال مثل السماد، لا خير فيه، إلا إذا انتشر(69).
وارتاب بيكون في البرلمان، بوصفه مشكلاً من ملاك الأراضي والتجار غير المتعلمين المتعصبين أو وكلائهم، وفكر في أن جيمس الأول، بالمقارنة بهؤلاء، متعلم يتحلى بروح إنسانية، بل أن نظرية الملك في "الحكم الاستبدادي المطلق" بدت في نظره خيرة كبديل عن الزمر الجشعة والمذاهب العنيفة. واعتبر-مثل معاصره ريشيليو-أن تركيز السلطة في يد الملك، وإخضاع كبار ملاك الأراضي له، خطوة ضرورية لإقامة حكومة منظمة. وذهب، مثل فولتير. إلى أن تعليم رجل واحد أيسر من تعليم الجماهير. إن الثروة الهائلة الخاصة لم تزعج الملك. وكان جيمس مشدوداً في عناد بالغ إلى التبذير والضرائب والسلام.
وسخر بيكون من "الفلاسفة" الذين "يسنون قوانين خيالية لدول خيالية، إن مقالاتهم أو محاضراتهم، كالنجوم التي لا تعطي إلا قليلاً من الضوء لأنها على ارتفاع شاهق". ولكنه في أيام سأمه، أغرى بأن يصور نوع المجتمع الذي يريده للناس ليعيشوا فيه. ولا ريب في أنه قد قرأ "يوتوبيا" مور (1516)، وكان كامبانللا قد نشر لتوه كتابه "مدينة الشمس" (1623)، والآن في 1624


    صفحة رقم : 9611    


كتب بيكون "القارة الجديدة" (The New Atlantis) "أبحرنا من بيرو التي كنا قد قضينا فيها سنة كاملة إلى الصين واليابان عبر البحر الجنوبي": هدوء تام، أرزاق محدودة، جزيرة تحوطها العناية الإلهية، شعب يحيا حياة سعيدة في ظل قوانين سنها لهم المغفور له الملك سليمان. وبدلاً من البرلمان. مجلس سليمان-مجموعة من المراصد والمعامل والمكتبات وحدائق الحيوان والنبات، مزودة برجال العلم ورجال الاقتصاد والفنيين والأطباء وعلماء النفس والفلاسفة، مختارين (كما هو الحال في جمهورية أفلاطون) بعد اختبارات متكافئة بعد فرص تعليمية متكافئة، ثم (دون إجراء انتخابات) يحكمون الدولة، أو بالأحرى، يحكمون الطبيعة، لمصلحة الإنسان. ويشرح أحد هؤلاء الحكام المتبربرين القادمين من أوربا فيقول: "إن غاية مؤسستنا هي معرفة أسباب الأشياء وحركاتها الخفية، وتوسيع حدود "إمبراطورية الإنسان، من أجل التأثير في كل الأشياء الممكنة(70)"، وفي هذه "الفتنة" التي في جنوب المحيط الهادي اخترع سحرة سليمان بالفعل الميكروسكوب والتلسكوب والساعات الذاتية الملء، والغواصات والسيارات والطائرات، واكتشفوا المسكنات والتنويم المغناطيسي، ووسائل المحافظة على الصحة وإطالة العمر، ووجدوا طرق تطعيم النبات وتوليد أنواع جديدة، وتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، ونقل الموسيقى إلى أماكن بعيدة. وفي مجلس سليمان ترتبط الحكومة والعلم معاً. وكل الأدوات وتنظيم البحث، وهو ما كان بيكون قد توسل إلى جيمس أن يزود به البلاد، موجودة هنا، في القارة الجديدة، كجزء من عدة الحكومة وأدواتها. والجزيرة تتمتع باستقلال اقتصادي، وهي تتحاشى التجارة الخارجية لأنها شرك ينصب للحرب. إنها تستورد المعرفة لا السلع. وهكذا يحتل الفيلسوف المتواضع مكان رجل الدولة المزهو بنفسه، كما أن نفس الرجل الذي كان قد نصح بالحرب أحياناً عند الاقتضاء، بوصفها دواء مقوياً أو منشطاً اجتماعياً، نراه الآن، وقد آذنت شمس حياته بمغيب، يحلم بجنة من السلام.


    صفحة رقم : 9612    

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق