إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 1 مايو 2014

1385 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الدعوة إلى العقل -> التجديد الكبير 4- التجديد الكبير





1385


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الدعوة إلى العقل -> التجديد الكبير

4- التجديد الكبير


كانت الفلسفة لأمد طويل، الملجأ الذي يلوذ به بيكون هرباً من عناء العمل، إن لم تكن حبه الدفين الذي يطوي علية جوانحه، وأسعد ما يصبو إليه ويقبل عليه؛ وكان بالفعل قد نشر في 1603-1605 مؤلفاً عظيماً The Proficience


    صفحة رقم : 9599    

and Advancement Of Learning (إتقان المعرفة والنهوض بها) ولكن بدا له أن هذا مجرد برنامج تمهيدي وليس إنجازاً. وفي 1609 كتب إلى أسقف إلي Ely: أرجو أن يأذن الله لي في أن أكتب كتاباً مستفيضاً منصفاً في الفلسفة...(32)"، وفي 1610 كتب إلى كازوبون (عالم لاهوتي وكاتب فرنسي معاصر له): "إن ما أهدف إليه هو أن أحدث تنظيماً أفضل لحياة الإنسان... بفضل التأمل الصحيح الصادق(33)".
وفي أثناء السنوات التي أزعجته فيها المناصب، كان بيكون قد أبصر-في افتراض طائش في أيام السعة والثراء-بخطة وقورة لتجديد العلم والفلسفة. وقبل سبعة شهور من سقوطه، أعلن الخطة في كتاب باللاتينية موجه إلى كل أوربا، أسماه في جرأة "التجديد الكبير". وكانت صحيفة العنوان نفسها تحدياً، ذلك أنه قد رسم عليها قارب يعبر بأقصى سرعته أعمدة هرقل إلى الأطلسي، ووضع بين العمدة أحد شعارات العصور الوسطى "لا تذهب إلى أبعد من ذلك" وكتب بيكون "إن كثيرين سوف يمرون عبره، ولسوف تزداد المعرفة والعلم". وأضافت المقدمة المزهوة "إن فرانسيس فيرولام (بيكون) قد تدبر هذا بينه وبين نفسه، وحكم بأنه من مصلحة الأجيال الحاضرة والمستقبلة أن تتعرف على أفكاره(34)".
ولما وجد أن "ما يجري في مجال العلم الآن ليس إلا مجرد دوران حوله، وحركة دائبة تنتهي إلى حيث تبدأ، خلص إلى أنه":
ليس ثمة إلا سبيل واحد أمامنا.... وهو أن نحاول الأمر كله من جديد، وفق خطة أفضل، وأن نشرع في أن نقيم من جديد، إقامة تامة، صرح العلوم والفنون العملية، وكل المعرفة الإنسانية، على أساس سليم.... وفضلاً عن ذلك فانه لما لم يكن يعلم كم من الزمن قد ينقضي قبل أن تتيسر هذه الأفكار لأحد غيره.... فإنه


    صفحة رقم : 9600    

عقد العزم على ان ينشر على الفور كل ما يستطيع إنجازه، حتى يبقى، في حال وفاته، موجزاً أو خطة لما كان قد فكر فيه. إن كل المطامح بدت لناظريه هزلية ضئيلة إذا قورنت بالعلم الذي هو بصدده(35).
وجعل إهداء المشروع برمته إلى جيمس الأول مع رجاء المعذرة "لأني سرقت من الوقت المخصص لإنجاز المهام التي وكلتها إلى، وقتاً اقتضاه هذا العمل"، ولكن مع أكبر الأمل في "أن يكون في نتيجته تخليد لذكرى اسمك وتشريف لعهدك"-وهذا ما حدث، فان جيمس كان رجلاً معروفاً بسعة الإطلاع والنوايا الطيبة، فلو أمكن إقناعه بتمويل الخطة، فأي تقدم كان يمكن تحقيقه؟ وكما كان روجر بيكون قد أرسل قبل ذلك بزمن طويل (1268) إلى البابا كليمنت الرابع "العمل العظيم" يتلمس منه العون على تنفيذ اقتراح بالنهوض بالعلم والمعرفة، فان سمية أهاب الآن بالملك أن يأخذ على عاتقه "مهمة ملكية" هي تنظيم البحث العلمي، والتوحيد الفلسفي لنتائجه، من أجل الخير المادي والأدبي للجنس البشري. وذكر جيمس "بالملوك الفلاسفة"-نرفا، تراجان، هادريان، أنطونينوس، بيوس، ماركوس أوريليوس، الذين هيئوا للإمبراطورية الرومانية حكومة فاضلة لمدة قرن من الزمان (96-180) بعد الميلاد. فهل كان من أجل حاجته إلى الاعتمادات الحكومية وأمله في الحصول عليها، أنه أيد الملك بمثل هذا العناد والإصرار، وبشكل جر عليه الخراب؟.
وفي مقدمة أخرى طلب بيكون من القارئ أن يلقي نظرة على العلم السائد وقد هلهلته الأخطاء، وركد بشكل مخز. لأن:
"العباقرة العظام، على تعاقب العصور، كانوا يرغمون على الانحراف عن طريقهم، إن الرجال ذوي القدرة والفكر، فوق مستوى السوقة، كان يسرهم، من أجل الشهرة، أن ينحنوا أمام حكم الزمن والجماهير، وهكذا


    صفحة رقم : 9601    


فإن أي تفكير من مستوى رفيع ظهر في أي مكان، كانت تعصف به رياح الأفكار السوقية(36)".
ولكي يهدئ من روع رجال اللاهوت الذين كانوا متسلطين على الشعب أو الملك، فان بيكون حذر قراءه من أن "يقصروا معنى" ما يضطلع به "في حدود الواجب، فيما يتعلق بالمسائل الإلهية أو الدينية". وتنصل من أي قصد له في التعرض للعقائد أو الشئون الدينية. "إن المهمة التي بين يدي ليست رأياً يجب اعتناقه، بل هي عمل يجب القيام به... إني لا أكد وانصب في وضع أساس أي مذهب أو نظرية، بل أساس منفعة الإنسان وقوته(37)". واستحث الآخرين أن يقبلوا عليه وينضموا إليه في عمله، ووثق في أن الأجيال المتعاقبة ستواصله.
وفي نشرة تمهيدية رائعة عرض بيكون خطة للمشروع:
فأولاً، يمكن أن يحاول تصنيفاً جديداً للعلوم القائمة أو المرغوب فيها، ويفرد لها مسائلها ومجالات البحث فيها، وهذا هو ما أنجزه في "النهوض بالمعرفة"، الذي ترجمه ووسع فيه كتاب (التوسع في العلوم) 1623، حتى يصل إلى القراء في القارة.
ثانياً:، يمكن أن يتفحص مواطن الضعف في المنطق المعاصر، ويسعى إلى "استغلال أدق وأكمل للعقل ابشري" مما صاغه أرسطو في رسائله المنطقية، المعروفة في جملتها باسم Organon، وهذا ما فعله بيكون في كتابه Novum Organum (1620).
ثالثاً: يمكن أن يشرع "تاريخ طبيعي" "لظواهر الكون"-الفلك، الفيزياء، البيولوجيا.
رابعاً: يمكن أن يعرض في "سلم الفكر" نماذج من التحقيق العلمي، طبقاً لطريقته الجديدة.
خامساً: يمكن أن يصف مثل هذه الأشياء، بوصفها بشائر، :كما كشفتها أنا بنفسي".


    صفحة رقم : 9602    

سادساً: يمكن أن يشرع في تفسير تلك الفلسفة التي تعقبها في مختلف العلوم على هذا النحو، ومن ثم يجب إيضاحها وإثبات صحتها. "أن إكمال الجزء الأخير... فوق طاقتي وأكثر مما أصبو إليه". ويبدو لنا، نحن الذين نتخبط ونلهث اليوم في خضم المعرفة والتخصصات، أن برنامج بيكون عقيم أشد العقم. ولكن المعرفة لم تكن آنئذ بمثل هذه السعة والدقة، وأن روعة الأجزاء التي أنجزت لتغفر جراءة الكل. وعندما أفضى بيكون إلى سيسل بقوله "أني ضممت كل المعرفة إلى نطاق ولايتي"، فإنه لم يقصد أنه في مقدوره أن يستوعب كل العلوم تفصيلاً، ولكنه قصد أن يستعرض العلوم، وكأنما يمسحها أو يلقي عليها نظرة عامة "من عل"، بغرض تنسيقها وتشجيعها. وقال وليم هارفي عن بيكون إنه "كتب الفلسفة، على نهج قاضي القضاة في الكتابة(38)"، بل وخططها كما يخطط القائد الإمبراطوري معركة.
وانا لندرك اتساع مجال العقل وحدة الذهن عند بيكون إذا نحن تتبعناه في كتاب "النهوض بالمعرفة"، إنه يعرض أفكاره في تواضع غير مألوف، على أنها "ليست أفضل كثيراً من الصوت... الذي يحدثه الموسيقيون حين يضبطون آلاتهم(39)". ولكنه يعزف هنا كل نغماته المميزة، إنه يدعو إلى مضاعفة عدد الكليات والمكتبات والمعامل وحدائق الأحياء والمتاحف العلمية والصناعية، وتدعيمها جميعاً، كما يدعو إلى تحسين رواتب المعمين والباحثين، وتخصيص اعتمادات أكبر لتمويل التجارب العلمية، وإلى اتصال متبادل وتعاون أوثق وخطة أفضل لتوزيع العمل بين جامعات أوربا(40). أنه، في تقديسه أو عبادته للعلم، لم يفقد رؤيته الصحيحة للأشياء أو وجهة النظر السليمة، فهو يدعو إلى تعليم عام متحرر، يشمل الدب والفلسفة، لأنه يهيئ للوصول إلى حكم سليم على الغايات التي تقترن بتحسين الوسائل على أساس علمي(41). وهو يحاول أن يصنف العلوم في ترتيب منطقي، ويحدد مجالاتها وحدودها ويوجه كلاً منها إلى أمهات المسائل التي تنتظر الفحص والحل وتحقق كثيراً عن طريق العلوم-تسجيل أفضل التطورات المرض عند المريض، إطالة الحياة باستعمال الأدوية الواقية، الفحص الدقيق "للظواهر النفسية"، والنهوض بعلم


    صفحة رقم : 9603    


النفس الاجتماعي. حتى لقد استبق دراستنا المعاصرة في وسائل النجاح(43).
أما القسم الثاني والأكثر جراءة من "التجديد الكبير" فكان محاولة لصياغة منهج للعلم. لقد عرف أرسطو الاستقراء، ودعا إليه أحياناً، ولكن الأسلوب الغالب في منطقته هو الاستنباط، والمثل الأعلى فيه هو القياس. وأحس بيكون بأن المنهج القديم Organon قد أبقى العلم راكداً، بتوكيده على الفكر النظري أكثر منه على الملاحظة الواقعية. أما "المنهج الجديد" فقد عرض فيه بيكون نظاماً وأسلوباً جديدين للفكر-الدراسة الاستقرائية للطبيعة ذاتها، عن طريق الخبرة والتجربة. وهذا الكتاب أيضاً، ولو أن بيكون تركه دون أن يكمله، وعلى الرغم من كل عيوبه، هو أروع إنتاج في الفلسفة الإنجليزية، وأول دعوة صريحة واضحة إلى عصر العقل. ولقد كتب باللاتينية، ولكن في عبارات مشرقة بليغة، جرى نصفها مجرى الحكم وجوامع الكلم. إن السطور الأولى جمعت أطراف فلسفة... تعلن الثورة الاستقرائية، وتؤذن أو تنذر بالثورة الصناعية، وتضع مفتاح التجريبية في يد هوبز ولوك ومل وسبنسر.
إن الإنسان بوصفه خادم الطبيعة ومفسرها، يمكن أن يعمل ويفهم الكثير، والكثير حقاً من مجرى الطبيعة، ما دام قد لاحظ الطبيعة واقعياً، أو بفكره... أما ما وراء هذا فهو لا يستطيع أن يدرك شيئاً أو يعمل شيئاً. إن المعرفة الإنسانية والقدرة البشرية تلتقيان في الإنسان الواحد، وحيثما لا يعرف مجرى الطبيعة، لا يمكن إنتاج الأثر المطلوب. ولكي تسيطر على الطبيعة. ينبغي أن تمتثل لها .
وكما أقترح ديكارت بعد ذلك بسبعة عشر عاماً، في "بحث عن النهج"؛ أن يبدأ الفلسفة بالشك في كل شيء، فأن بيكون هنا يتطلب تنقية الفكر "كخطوة أولى في التجديد". ذلك أن "المعرفة الإنسانية كما نعهدها في أنفسنا، أن هي إلا خليط وأكداس


    صفحة رقم : 9604    

لم يتيسر هضمها، مكونة من كثير من السذاجة وسرعة التصديق، وكثير من المصادفات والأعراض غير الجوهرية، وكذلك من الأفكار الصبيانية التي تشربناها في أول الأمر(44)". ومن ثم يجدر بنا، منذ البداية، أن نخلي أذهاننا، قدر الطاقة، من أية إنشغالات سابقة وتحيزات وافتراضات، بل يجدر بنا حتى أن نصرف من أفلاطون وأرسطو، ونكتسح من أفكارنا "الأصنام" أو الأوهام الخالدة التي ولدها فينا فرط الحساسية في الحكم على الأشياء أو المعتقدات والتعاليم التقليدية السائدة في مجتمعنا، ويجب أن ننبذ الحيل التي يمليها التفكير لمجرد الرغبة في شيء ما، والحماقات اللفظية للتفكير الغامض، ويجب أن نخلف وراء ظهورنا، كل طرق الاستنباط الفخمة، تلك الطرق التي عرضت أن نستنبط ألفاً من الحقائق الباطنية من بضع بديهيات أو مبادئ قليلة. وليس في العلم قبعة سحرية، وكل ما يؤخذ من القبعة لخدمتنا يجب أن يوضع أولاً عن طريق الملاحظة أو التجربة. ولكن لا يقصد هنا مجرد الملاحظة العابرة، أو "السرد البسيط" للمعطيات، ولكن "الخبرة.... المطلوبة للتجربة". وعلى هذا نجد أن بيكون الذي غالباً ما انتقص من قدره على أنه يتجاهل المنهج الحقيقي للعلم، يتقدم ليصف المنهج الفعلي للعلم الحديث:
إن المنهج الصحيح للاختبار، يشعل النور أولاً (بالافتراض)، ثم بواسطة هذا الضوء ينير الطريق، بادئاً بالاختبار ترتيباً سليماً. ومنه يستنتج بديهيات "الثمار الأولى"، (النتائج المؤقتة) ومن البديهيات الراسخة تبدأ ثانية تجارب جديدة... إن التجربة نفسها هي التي ستقرر وتحكم(45).
ومهما يكن من أمر فإن بيكون كان على حذر من الفرضيات. حيث كانت في الكثير الغالب توحي بها التقاليد أو التحيز أو الرغبة، أي توحي بها (مرة أخرى) "الأصنام". فكان يرتاب في أي نهج تقليدي تصطفي الفرضية فيه، قصداً أو عن غير قصد من التجريب معطيات مثبتة أو مؤكدة لها، وتفسر تفسيراً خاطئاً أو تتعامى عن الشواهد العكسية أو المضادة. وتجنباً للوقوع في هذا الشرك، اقترح بيكون استقراء شاقاً، بتجميع كل الحقائق الوثيق الصلة بالمسألة، وتحليل هذه الحقائق ومقارنتها


    صفحة رقم : 9605    

وتصنيفها، وربطها بعضها ببعض، ثم "بعملية صحيحة من "الاستبعاد والنبذ" أي التخلص من فرضية بعد أخرى، على التعاقب، حتى يمكن الكشف عن "الصيغة" أو القانون الضمني وجوهر الظاهرة(46). إن معرفة "الصيغة" سوف يهيئ تحكماً متزايداً في الحدث، فيعيد العلم بالتدريج صنع البيئة، بل من المحتمل صنع الإنسان نفسه.
وأحس بيكون بأن هذا هو الهدف النهائي-أي أن منهج العلم سوف يطبق على التحليل البالغ الدقة للشخصية الإنسانية، والتصميم على إعادة تشكيلها. وبحث بيكون على دراسة الغرائز والعواطف، وهذه وتلك وثيقة الصلة بالذهن، قدر صلة الرياح بالبحر(47). ولكن هنا بصفة خاصة، لا يكون الخطأ في مجرد التماس المعرفة، بل في نقلها، ويمكن إعادة صنع الإنسان عن طريق التعليم المستنير، لو أننا كنا نريد أن تجذب إلى ميدان التربية عقولاً من الطراز الأول بمنحهم الرواتب الكافية وتكريمهم(48). ويبدي بيكون إعجابه بالجزويت، وتمنى لو أنهم "كانوا على مذهبنا وفي صفنا(49)"، ويستنكر الملخصات، ويحبذ التمثيل في الكليات، ويدعو إلى مزيد من العلم في البرامج، فإذا نظرنا إلى العلم والتعليم على هذا الأساس، فإنهما (كما جاء في "قارة أطلنطس الجديدة" لن يكونا من خدم الحكومة وإدارتها. بل مرشدها وهدفها؛ ويختم قاضي القضاة الأمين بقوله "إني أراهن بكل شيء في سبيل نصرة الفن على الطبيعة في سباقها".


    صفحة رقم : 9606    

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق