1375
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> جيمس السادس والأول -> جيمس السادس ملك اسكت
الفصل السادس
جيمس السادس والأول
1567 - 1625
1- جيمس السادس ملك اسكتلندة
1567 - 1603
توج جيمس السادس ملكاً على إسكتلندة (29 يولية 1567) حين كان عمره ثلاثة عشر شهراً، حين كانت أمه سجينة في لوكليفن. وكان عمره ثمانية أشهر حين قتل دارنلي الذي يفترض أنه والده، كما كان يبلغ من العمر عشرة أشهر حين رأى أمه للمرة الأخيرة، ولم تعد له إلا اسماً وخيالاً تغشيه وتلطخه مأساة بعيدة مزرية. وتربى على أيدي لوردات نهازين باحثين عن مصلحتهم ومعلمين معادين لأمه. وتلقى قدراً كبيراً من العلوم الإنسانية، وقدراً أكبر مما ينبغي في اللاهوت، وقدراً ضئيلاً جداً في الأخلاقيات، حتى أصبح أعظم العلماء المسرفين في الشراب في أوربا.
وتولى الحكم باسمه أربعة أوصياء على العرش على التوالي- موري، لنوكس، مار، ثم مورتون، وكلهم عدا واحداً، ماتوا ميتة غير طبيعية. ودافعت جماعات النبلاء المتنافسة عن شخص الملك حصن سلطانهم وقوتهم. وفي 1582 احتجزه بعض اللوردات البروتستانت تساندهم الكنيسة الاسكتلندية الوطنية، في قلعة رثفن Ruhven خشية أن يخضع لنفوذ قريبه الكاثوليكي ازمي ستيوارت، فلما أطلق سراحه وعد بالدفاع عن العقيدة البروتستانتية، ووقع تحالفاً مع إنجلترا البروتستانتية، ولما بلغ السابعة عشرة من العمر، نهض بالمهام الفعلية للملك.
وكان شاذاً بين الملوك. وكان سلوكه خشناً غير مهذب، وكانت مشيته بشعة، وصوته عالياً، وكان حديثه محنة يبتلي بها سامعيه لما فيه من الغلظة والحذلقة المفتقرة إلى الحكمة. وقال أحد المراقبين الذين لا يكنون له كثيراً من الحب: "كانت معرفته باللغات والعلوم وشئون الحكم أكثر من أي فرد في اسكتلندة(1)" ولكن نفس المراقب أضاف: "أنه كان مغروراً بشكل غير عادي". وربما كانت هذه السمة أو الميزة ضرورية للمحافظة على الحياة في خضم المتاعب، بقدر ما هي المظهر المضلل لرجل لا يستطيع أن يسترجع في ذاكرته يوماً لم يكن فيه ملكاً. ولا بد أ يتحلى بشيء من الذكاء المنقذ ليحتفظ بتاجه على رأسه في إسكتلندة، ويلبس تاجاً أعظم في إنجلترا حتى يموت ميتة طبيعية. وكان متقلباً إلى حد ما بالنسبة للجنس، فتزوج من الأميرة الدنمركية الكاثوليكية، آن، ولكن لم يكن به ميل شديد إلى النساء، وانغمس في التودد إلى المحظيات إلى حد ساعد على القيل والقال.
وكان عليه أن يشتق طريقه بالحيلة والدهاء وسط الأفكار العنيفة المتصارعة في أيامه. فإن أسرة جيز في فرنسا، والملك فيليب في أسبانيا، والبابا في روما، تعاهدوا معه على استعادة إسكتلندة إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. ولكن الكنيسة الاسكتلندية الوطنية كانت تحسب عليه أنفاسه خشية أن ينحرف عن مذهب كلفن. ولكنه لم يحرق الجسور من خلفه، فتبادل الرسائل المهذبة مع الدول الكاثوليكية، وكان به ميل إلى تخفيف القوانين المفروضة على العبادة الكاثوليكية فأطلق خفية سراح أحد الجزويت، وتواطأ في تهريب آخر(2). ولكن المؤامرات الكاثوليكية أغضبته، وأثرت فيه البروتستانتية الظافرة في إنجلترا. وتنبأ بما قدر له مع الكنيسة الوطنية الاسكتلندية.
ولم تكن هذه الكنيسة رفيقاً مشجعاً مريحاً، وما حلت سنة 1583 حتى كان قساوستها يشكلون الأغلبية العظمى من رجال الدين الاسكتلنديين، وكانت مواردهم ضعيفة وحظهم من علوم الدنيا ضئيلاً، ومن ثم انصرفوا إلى العبادة والورع والتقوى، وتحلوا بالشجاعة والإقدام، وكدوا وجدوا في إعادة الكنائس المهملة، ونظموا المدارس، وتولوا أمر الصدقات، وحموا الفلاحين من ظلم اللوردات، وألقوا المواعظ المسهبة التي استوعبها ووعاها مستمعوهم، بدلاً من الكتب والمادة
المطبوعة. وفي جلسات الكنيسة وفي المجامع الإقليمية وفي الجمعية العامة، حظي الأكليروس الجديد بقوة تنافس تلك القوة التي كانت هيئة الكنيسة الكاثوليكية قد استخدمتها ضدهم ببراعة. ولما كانوا يزعمون أنهم يتلقون الوحي من عند الله، ومن ثم فإنهم معصومون من الخطأ في ناحية العقيدة أو في الناحية الأخلاقية، فإنهم فرضوا على السلوك العام والخاص رقابة أقسى بكثير منها على عهد حراس أو حماة المذهب القديم المتراخين. وفي كثير من المدن فرضوا غرامات على الاسكتلنديين الذين لم يحضروا الصلوات البروتستانتية، وفرضوا توبة علنية، وفي بعض الأحيان عقوبات بدنية، على ما يضبط من خطايا(3). وروعوا بانتشار الفجور والزنى ففوضوا رؤساء الكنائس، في أن يتنبهوا بتشديد خاص إلى أية انحرافات جنسية، وأن يبعثوا بتقارير عنها إلى المجامع الكنسية البروتستانتية عند انعقادها، وصعقوا بالفحوش والفجور في المسرح الإنجليزي فسعوا إلى تحريم التمثيل المسرحي في إسكتلندة، فلما عجزوا عن ذلك، حظروا على أتباعهم أن يشهدوه، وفعلوا ما فعله أسلافهم من اعتبار الهرطقة جريمة عقوبتها الإعدام. وتعقبوا السحرة في حماسة بالغة وأقروا إعدامهم حرقاً(4). وأقنعوا البرلمان بأن يصدر قانوناً يفرض عقوبة الإعدام على أي قسيس يقرأ القداس ثلاث مرات، ولكن هذا المرسوم لم يطبق على أية حال، وعندما ترامت إليهم أنباء مذبحة سانت برثلميو، دعت الكنيسة الاسكتلندية البروتستانتية إلى تدبير مذبحة مماثلة للكاثوليك في إسكتلندة، ولكن الحكومة أغفلت هذا النداء(5).
وباستثناء ادعاء نزول الوحي على القساوسة وعصمتهم من الخطأ، كانت الكنيسة الوطنية الاسكتلندية (البروتستانتية) أكثر النظم ديمقراطية في عصرها. وكان قسيسو الدوائر أو الأقسام يختارون رؤساء الكنائس شريطة موافقة شعب الكنيسة، وكان جمهور المؤمنين يشهدون الجلسات والمجامع والجمعية العامة. وأهاجت وأغضبت هذه الإجراءات الديمقراطية البرلمان الأرستقراطي والملك الممسوح بالزيت. ولما كان جيمس يفكر ويجادل-وربما يعتقد ويؤمن-في أنه يحكم بمقتضى الحق الإلهي، فإنه شكا من أن "جماعة من القساوسة الملتهبين حماسة وغيرة
في الكنيسة البروتستانتية، ملكوا قيادة الشعب على هذا النحو، وأنهم عندما استساغوا طعم الحكم وتلذذوا بحلاوته، بدءوا يفكرون في شكل ديموقراطي... لقد شوهوا سمعتي وافتروا عليَّ في مواعظهم، لا لأية رذيلة في شخصي، بل لأني ملك اعتبروه أكبر رذيلة(6)". وبذلك استؤنف نزاع العصور بين الكنيسة والدولة.
واتخذ النزاع آنذاك شكل هجوم أو حملة من القساوسة على الأساقفة. وكان هؤلاء-وهذا تراث كاثوليكي للكنيسة الاسكتلندية البروتستانتية-يختارون شكلاً بواسطة القساوسة ولكن كانوا فعلاً يعينون، وغالباً ما يفرضون على الأكليروس بواسطة الوصي أو الملك. وكانوا يسلمون قدراً كبيراً من إيرادات الكنيسة في الحكومة. ولم يجد القساوسة في الكتب المقدسة سنداً أو أساساً للنظام الأسقفي، ومن ثم عقدوا العزم على التخلص منه في إسكتلندة، على أنه لا يلتئم مع التنظيم الشعبي السائد في الكنيسة الاسكتلندية الوطنية الجديدة.
وكان زعيمهم أندرو ملفيل، اسكتلندياً عنيفاً متحمساً هيأته الطبيعة ليرث عباءة جون نوكس. وبعد أن أنهى تعليمه الجامعي في سانت أندروز، تابع دراسته في باريس، ورضع لبان مذهب كلفن على يد بيز B(ze في جنيف. ولدى عودته إلى إسكتلندة (1574) عين، وهو في التاسعة والعشرين من العمر، رئيساً لجامعة جلاسجو، فأظهر مقدرة وكفاية في إعادة تنظيم المناهج. وقواعد الضبط والسلوك فيها. وفي 1578 أسهم في جمع "الكتاب الثاني لقواعد الانضباط والسلوك" الذي ندد بالنظام الأسقفي باسم المساواة الكهنوتية. ودافع عن الفصل النهائي بين مجالات كل من الكنيسة والدولة. وكان لهذا أثره في الفصل بينهما في الولايات المتحدة، ولكنه طالب بحق القساوسة في تدريب الحكام المدنيين على ممارسة سلطاتهم "على أساس كلمة الله(7)". على أن جيمس، على أية حال، أراد أن يكون حاكماً مطلقاً مثل هنري الثامن وإليزابث، وآمن بأن نظام الأساقفة ضروري للإدارة الكنسية، كما أنهم وسطاء مريحون بين الكنيسة والدولة.
وفي 1580 "لعنت" الجمعية العامة للكنسية الوطنية الإسكتلندية (البروتستانتية) وظيفة الأسقف ودمغتها بأنها "حماقة من ابتداع الإنسان". وصدر الأمر إلى جميع الأساقفة- تحت التهديد بعقوبة الحرمان من الكنيسة، بأن يكفوا عن مباشرة أعمالهم، والتقدم إلى الجمعية العامة بطلب الترخيص لهم بأن يكونوا مجرد كهنة عاديين. ونبذت الحكومة "الكتاب الثاني لقواعد السلوك والانضباط"، وتمسكت بأن الحرمان من الكنيسة لا يصبح نافذ المفعول إلا إذا صدقت عليه الدولة. وفي 1581 رشح لنوكس، وكان آنذاك وصياً على العرش، روبرت مونتجمري رئيساً لأساقفة جلاسجو. ولكن قساوسة جلاسجو البروتستانت أبوا أن ينتخبوه، ولكنه على الرغم من هذا أصر على أن يتولى مهام منصبه، فقررت الجمعية العامة بزعامة ملفيل حرمانه من الكنيسة (1582)، ورضخ مونتجمري وانسحب. واتهم ملفيل بالتحريض على (الفتنة)، فرفض المحاكمة المدنية، وطالب بأن يحاكم أمام محكمة كنسية. ولما أدين بتهمة احتقار المحكمة، هرب إلى إنجلترا (1584). وأقنع جيمس البرلمان بأن يعلن أنه يعتبره خيانة: رفض الخضوع للقضاء المدفى، وتدخل القساوسة في شئون الدولة، ومقاومة حكومة الأساقفة، وأية اجتماعات كنسية لا يرخص الملك بعقدها. فآثر كثير من القساوسة أن يلحقوا بملفيل في منفاه، على الامتثال لهذه الأوامر. فما كان من جيمس، تمسكاً بسيادته العليا واستمتاعاً بها، إلا أن أمعن في حكم الإرهاب: فعوقب الكهنة لأنهم صلوا من أجل اخوتهم المنفيين، وأعدم اثنان آخران بتهمة التآمر.
وقاوم رجال الدين والمترددون على كنائسهم، بما عهد في الاسكتلنديين من عناد وصلابة، وشوهت النشرات التي لم يعرف مصدرها سمعة الملك. ونددت الأغاني بطغيانه والعار الذي لحق به من أجله، وحتى النساء كتبن له نقداً ساخراً لاذعاً ينذرنه فيه بالجحيم وسوء المصير. وتناقض شيئاً فشيئاً ما كان يحصل عليه أساقفته من الأموال، وسلموا الدولة منها الأقل فالأقل، ووجد جيمس أنه بات صفر اليدين، بلا مال-وهو مصدر قوة إرادته، واشتد ضعفه سنة بعد أخرى، وأقر برلمان 1529، بموافقته التامة، مرسوماً يحتفظ للكنيسة الاسكتلندية الوطنية (البروتستانتية)
بحريتها، ويعيد إليها سلطاتها في الشئون القضائية والضبط، ويلغي نظام الأساقفة. وعاد المنفيون.
وإذ اشتدت جرأة ملفيل عن ذي قبل، واجه جيمس بقوله: "خادم الرب الأبله، وألقى عليه الحقيقة اللاهوتية التي لا ريب فيها، في 1596، بمثل الثبات ورباطة الجأش اللتين واجه بهما جريجوري السابع الإمبراطور هنري الرابع قبل ذلك بخمسمائة عام (1077) فقال: "إن في إسكتلندة ملكين ومملكتين. فهناك يسوع المسيح ومملكته، وهي في الكنيسة، وأحد رعاياها الملك جيمس... وما هو يملك ولا رئيس ولا لورد، ولكن مجرد عضو(8)". وقال-دافيد بلاك-وهو قسيس كنيسة سانت أندروز، لجماعة المصلين (1596) إن جميع الملوك أبناء للشيطان، وأن إليزابث كافرة ملحدة. وأن جيمس هو الشيطان بعينه(9). واحتج السفير الإنجليزي، واستدعى مجلس الشورى القس بلاك للتحقيق، فأبى أن يذهب قائلاً إن الجرم الذي يرتكب من فوق المنبر لا يخضع إلا لمحكمة الكنيسة، هذا فضلاً عن أنه تلقى رسالته من عند الله. وأمر جيمس بمحاكمته غيابياً. فذهبت إليه لجنة من القساوسة، ولكن الملك لم يعالج الأمر بنجاح، بل على العكس، طالب بأن تخضع لتصديقه كل قرارات الجمعية الكنسية والبرلمان. ودعا القساوسة إلى صوم عام، وأعلنوا منذرين متشائمين، أنه مهما حدث من شيء "فإنهم أبرياء من دم جلالته(10)".
وتجمع حشد من المشاغبين حول المبنى الذي كان يقيم فيه جيمس (17 ديسمبر 1596) فهرب إلى قصر هوليرود. وفي صباح اليوم التالي غادر أدنبرة مع كل حاشيته. وأعلن إلى سكانها، عن طريق مناد ينطق باسمه، أنها لم تعد تصلح لتكون عاصمة، وأنه لن يعود إليها إلا لتنفيذ الحكم على الثوار والعصاة، وأمر كل الأكليروس وغير المتوطنين بمغادرة المدينة. ولما لم يجد المشاغبون أحداً ليقتلوه، تفرقوا. وحزن التجار على فقدانهم ما كان يعود عليهم من ربح في التعامل مع الحاشية. وتساءل المواطنون في دهشة: هل كان النزاع يستحق الاستشهاد الاقتصادي، وعاد جيمس إلى المدينة في ظفر مشوب بالغضب (1 يناير 1597)،
وعرضت الجمعية العامة المنعقدة في برث، خضوع الكنيسة الوطنية الاسكتلندية، ووافقت على ألا يعين أي قسيس في المدن الرئيسية دون موافقة الملك وشعب الكنيسة، وألا يتعرض القساوسة في خطبهم لقرارات البرلمان أو مجلس الشورى، وألا يهاجموا شخص أي إنسان من فوق المنبر. وسمح للقساوسة البروتستانت بعد ذلك بالعودة إلى العاصمة (1597). ولكن أعيد نظام الأساقفة. وغطت هدنة كئيبة منكودة على الحرب القديمة بين الكنيسة والدولة.
وبرزت في الأدب الاسكتلندي تلك في الحقبة شخصيتان عظيمتان: الملك نفسه، وأشهر معلميه. وكانت سيرة حياة جورج بوكانان مدهشة، فقد ولد في سترلنجشير في 1506، ودرس في باريس، وخدم العلم في فرنسا وإسكتلندة، ونهل الحماسة الفلسفية والسياسية من محاضرات جون ميجر، وعاد من أجل الحب والعلم إلى باريس: ورجع أدراجه إلى إسكتلندة هرطيقاً هجاءً لاذعاً، وأودعه السجن الكاردينال بيتون، فهرب إلى بوردو، وقام هناك بتدريس اللاتينية، وكتب قصائد ومسرحيات بلغة لاتينية جيدة إلى حد كبير، وشاهد تلميذه مونتاني يمثل في إحدى هذه الزاويات، ورأس إحدى الكليات في كوامبرا، وسجنته محكمة التفتيش الأسبانية لسخريته من الأخوة (في فرقة دينية)، وعاد إلى إسكتلندة وفرنسا، ثم إسكتلندة حيث تولى تعليم ماري ملكة إسكتلندة (1562)، وعين رئيساً للجمعية العامة (1567) وأعلن صحة "رسائل الصندوق الفضي" واتهم بتزييف قسم منها(11). وأدان-ماري بلا هوادة ولا رحمة في كتابه "كشف النقاب عن حكم ماري" (1571) وتولى التدريس لابنها على الرغم من اعتراضها على ذلك، وتخلى عن هذه المهمة (1582). وجد وجاهد في كتابه "تاريخ إسكتلندة" (1579) لتخليص تاريخ بلاده من "القيود الإنجليزية والغرور الإسكتلندي". وأكد من جديد في رسالته "الحكم الشرعي في إسكتلندة"-على الرغم من تلميذه الذي سيصبح عما قريب ملكاً مستبداً-أكد نظرية العصور الوسطى القائلة بأن المصدر الوحيد للسلطة السياسية، بعد الله، هو الشعب، وأن كل مجتمع يرتكز على عقد اجتماع ضمني يقوم على التزامات وقيود متبادلة بين المحكومين والحكام،
وأن لإرادة الأغلبية، بحق أن تحكم الكل، وأن الملك يجب أن يخضع للقوانين التي يقرها ممثلو الشعب، وأنه يمكن بحق أيضاً مقاومة الطاغية أو عزله أو قتله(12). فأنت ترى أن أسطورة العقد الاجتماعي ظهرت هنا قبل هوبز بقرن من الزمان، وقبل مجيء روسو بقرنين. وشجب البرلمان الاسكتلندي كتاب بوكانان، وأحرقته جامعة أكسفورد، ولكن كان له أثر شديد. وذهب صمويل جونسون إلى القول بأن بوكانان هو العبقري الوحيد الذي أنجبته إسكتلندة(13). وأسبغ هيوم، في تواضع، هذا الامتياز على نابيير (عالم رياضيات اسكتلندي 1550-1617، مخترع اللوغاريتمات)، أما المؤرخ الاسكتلندي كاريل فقد خص به نوكس، حيث كان من أشد المعجبين به. أما جيمس السادس فقد كان له آراؤه الخاصة في هذه المسألة.
وكان الملك مزهواً فخوراً بكتبه قدر زهوه وفخره بحقوقه وامتيازاته. وفي 1616 نشر مجلداً ضخماً "أعمال الأمير، الأعظم والأقوى جيمس"، وهو مهدي إلى يسوع المسيح. وكتب قصائد، ونصائح إلى الشعراء، وترجمة "للمزامير"، ودراسة لسفر الرؤيا، ورسالة عن "الشياطين" وكتابين من (قطع الثمن) دفاعاً من الملكية المطلقة، أحدهما وهو "إلهية الملكية" (1598) كان كتاب نصائح لابنه هنري في فن الحكم وواجباته، أكد حكم الكنيسة على أنه "ليس بالجزء اليسير من مهمة الملك". أما الثاني وهو "القانون الحقيقي للملكيات الحرة" فقد شرح فيه الحكم المطلق ودافع عنه في فصاحة هائلة: إن الملوك مختارون من عند الله، ما دامت الأحداث الهامة تفرضها العناية الإلهية، وأن تعيينهم ومسحهم بالزيت يشكلان سراً مقدساً لا يجوز النطق به، مثلهما في ذلك مثل أي سر مقدس آخر. ومن ثم كان لهم كل الحق في أن يكون حكمهم مطلقاً، وأن معارضتهم تعتبر حماقة، وجريمة، وإثماً من شأنه أن يفضي إلى الضرر أكثر من أي طغيان. إن هذا الذي كان بالنسبة لإليزابث أسطورة نافعة، أصبح بالنسبة لجيمس مبدأ عاطفياً، ولد لأم ملكة. وورث عنه ابنه شارل النظرية، ودفع الثمن أو تلقى القصاص.
ومهما يكن من أمر فإن إنجلترا لم تتنبأ في 1598 بما حدث في 1649، وبعد
أن شرب جيمس نخب البروتستانتية وتعهد بالتزامها، اعترف مجلس شورى الملكة إليزابث به وريثاً للتاج الإنجليزي، عن طريق أمه ماري. وبعد مضي أربعة أيام على وفاة إليزابث، بدأ جيمس (5 أبريل 1603) رحلة بهيجة مرحة من أدنبرة إلى لندن، وتوقف، متمهلاً، في الطريق، ليحتفي به النبلاء الإنجليز، وفي 6 مايو وصل إلى لندن التي أخذت زخرفتها وزينت للترحيب به-انحنت الجماهير له، وقبل اللوردات يديه. وبعد ألف سنة من صراع عقيم لا غناء فيه اتحدت الأمتان (ولم يتحد البرلمان قبل 1707) وهكذا كان عقيم إليزابث نافعاً مثمراً.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق