إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 1 مايو 2014

1374 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> ماري ملكة اسكتلندة -> التكفير 5- التكفير 1568 - 1587




1374


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> ماري ملكة اسكتلندة -> التكفير

5- التكفير


1568 - 1587


ومن مدينة كارليل Carlisle (في شمال غرب إنجلترا) أرسلت ماري رسالة ثانية إلى إليزابث. تطلب مقابلتها لتشرح لها موقفها وسلوكها. وكانت إليزابث من حيث المبدأ تناهض مساعدة الثوار ضد أي حكم شرعي. ومن ثم مالت إلى دعوة ماري لمقابلتها. ولكن مجلس شورى الملكة أوقعها في حيرة وارتباك بما ساق لها من تحذيرات: فلو أن ماري سمح لها بالذهاب إلى فرنسا، لأغريت الحكومة الفرنسية بإرسال جيش إلى إسكتلندة لإعادة ماري إلى العرش. ولإعادة إسكتلندة حليفة كاثوليكية لفرنسا. وشوكة في ظهر إنجلترا، وعند ذاك تساند فرنسا دعوى ماري في عرش إنجلترا بقوة السلاح، كما يساندها الكاثوليك الإنجليز. ولو بقيت ماري حرة طليقة في إنجلترا فمن الممكن أن تكون مصدر بؤرة ميسورة لثورة الكاثوليك، وإنجلترا لا تزال في أعماق قلبها كاثوليكية في الكثير الغالب. وإذا أرغمت إنجلترا النبلاء الاسكتلنديين على إعادة مليكتهم إلى عرشها، فإن حياة هؤلاء النبلاء تتعرض للخطر، كما تفقد إنجلترا حلفاءها البروتستانت في إسكتلندة. وربما اتفق سيسل مع هللام في الرأي القائل بأن احتجاز ملكة الاسكتلنديين أو تقييد حريتها قسراً، إنما هو خرق لكل قانون "طبيعي أو عام أو محلي(47)". ولكنه أحس بأن مسئوليته التي تطغى على كل ما عداها، هي حماية إنجلترا.
ولما كان من إحدى مهام الدبلوماسية أن تخلع على الواقعية ثوب الأخلاقية، فقد أبلغت ماري أنه ينبغي عليها قبل الاستجابة إلى مطلبها في اللقاء مع الملكة إليزابث، أن تبرئ نفسها من عدة اتهامات أمام لجنة تحقيق. فأجابت ماري بأنها ملكة، ولا يمكن أن تحاكم أمام مندوبين عاديين، وبخاصة من بلد آخر. وطلبت أن تكون لها حرية العودة إلى إسكتلندة أو الذهاب إلى فرنسا، كما طلبت أن تلتقي بمورتون ولثنجتون في حضرة إليزابث. ووعدت بإثبات إدانتهما في قتل دارنلي. وفي 13 يولية 1568 أمر المجلس الإنجليزي بنقلها من كارليل (لقربها الشديد من


الحدود) إلى قصر بولتون بالقرب من يورك. وهناك خضعت ماري للسجن البسيط بناء على وعد من إليزابث: "ضعي نفسك بين يدي دون تحفظ، ولن ألقي بالاً إلى أي شيء يسيء إليك. وسيكون شرفك في مأمن من أي خدش. ولسوف تعادين إلى عرشك(48)". ولما هدأت إليزابث من روع ماري بهذا الشكل، وافقت الأخيرة على تعيين ممثلين لها في لجنة التحقيق، وحاولت أن ترضي إليزابث بادعائها قبول المذهب الأنجليكاني، ولكنها أكدت لفيليب ملك فرنسا أنها لن تتخلى عن قضية الكاثوليك(49). ومن ذلك الوقت باتت ماري وإليزابث فرسي رهان في سباق للنفاق، الأولى تتلمس لنفسها العذر بأنها سجين ملكي خانوه وغدروا به، والثانية بأنها ملكة تكتنفها المخاطر.
واجتمعت لجنة التحقيق في يورك في أكتوبر 1568. ومثل ماري فيها سبعة أشخاص أهمهم جون لزلي أسقف روس الكاثوليكي، ولورد هريز Herries من إقليم المستنقعات الغربية في إسكتلندة، وهو كاثوليكي أيضاً، وعينت إليزابث ثلاثة من البروتستانت، هم دوق نورفولك، وارل سسكس، وسير رالف سادلر. ومثل أمام اللجنة موري ومورتن ولثنجتون الذين عرضوا "رسائل الصندوق الفضي" على الأعضاء الإنجليز سراً. وقالوا إنه إذا أقرت ماري أن يكون موري وصياً على العرش، وقبلت أن تعيش في إنجلترا على راتب تقاعد كبير تدفعه لها إسكتلندة، فلن تذاع الرسائل. ولكن نورفولك- الذي كان يحلم بالزواج من ماري، ومن ثم يصبح ملكاً على إنجلترا بعد وفاة إليزابث، رفض هذا العرض. أما سسكس فقد كتب إلى إليزابث بأنه يبدو من المرجح أن تكسب ماري قضيتها(50).
وأمرت إليزابث بأن تنتقل المحاكمة إلى وستمنستر. وهناك وضع موري الرسائل أمام المجلس، وانقسم الرأي حول حجية الوثائق، ولكن إليزابث قضت بأنها لن تستقبل ماري قبل أن تثبت عدم صحتها. وطلبت ماري أن تطلع على الرسائل الأصلية أو وصورتها ولكن اللجنة رفضت هذا الطلب، ولتم تطلع ماري قط على أصل الرسائل أو صورها(51). وفي 11 يناير 1569 انفضت اللجنة دون أن تصدر قراراً. واستقبلت إليزابث موري ثم أعيد إلى إسكتلندة ومعه الرسائل. ونقلت


ماري- وهي غاضبة متحدية إلى سجن أشد قيوداً في تتبري Tutbury على نهر ترنت، واحتجت الحكومات الأجنبية، ولكن إليزابث أجابت بأنهم لو اطلعوا على الأدلة التي قدمت إلى اللجنة لاعتبروا معاملتها لماري لينة هينة،لا قاسية(52). وأشار السفير الأسباني على فيليب بغزو إنجلترا ووعده بمعاونة شمال إنجلترا الكاثوليكي له، ولكن فيليب تشكك في مثل هذه المعاونة، كما أنذره دوق ألفا بأن إليزابث قد تأمر بقتل ماري عند أول بادرة للغزو أو الثروة.
وقامت الثورة. ففي 14 نوفمبر 1569 قاد ارل نورثمبرلند وارل وستمورلند جيشاً قوامه 5.700 من الثوار إلى درهام، وأطاحوا بمكتب الطائفة الأنجليكانية وأحرقوا كتاب الصلوات العامة، واستردوا المذبح الكاثوليكي، واستمعوا إلى القداس، ودبروا هجوماً على تتبري لإطلاق سراح ماري، ولكن إليزابث فوتت عليهم الفرصة بنقل ماري إلى كونفتري في 23 نوفمبر 1569. وعجل ارل سسكس على رأس جيش معظمه من الكاثوليك، بإخماد الثورة. وأمرت إليزابث "بشنق المقبوض عليهم من المتمردين وأتباعهم المتواطئين معهم، وإلا تنقل جثثهم بل تظل في أماكنها حتى تتساقط إرباً(53)". وبهذا أمكن التخلص من نحو ستمائة رجل وصودرت أملاكهم للتاج، وفر نورثمبرلند ووستمورلند إلى إسكتلندة. وفي فبراير 1570 قاد ليونارد داكريس ثورة أخرى من الكاثوليك، ولكنه هزم أيضاً، وهرب عبر الحدود.
وفي يناير 1570 كتب نوكس إلى سيسل يشير عليه بإصدار أمره بقتل ماري فوراً، "فإنك إذا لم تستأصل الجذور عادت الأغصان التي تبدو ذابلة متكسرة إلى النمو والازدهار(54)، وكان قد فرغ آنذاك من كتابه" تاريخ الإصلاح الديني في مملكة إسكتلندة"- وهو كتاب لا يدعي عدم التحيز: قصصي غير دقيق، ولنه مفعم بالحيوية زاخر بالمعلومات عن سير الأفراد، ذو أسلوب طريف فردي لاذع لأنه صادر عن واعظ لا يخشى في الحق لومة لائم، يصارح كلاً بما فيه دون مواربة. وهو رجل موجع قاس ولكنه عظيم، حقق حلمه في القوة والسيطرة أكثر مما فعل كلفن،

وكان يبغض من كل قلبه، ويناضل في بسالة وجرأة، ويستنفد آخر خفقة من الطاقة الجبارة إلى حد لا يصدق لإرادته الحديدية. وما جاء عام 1572 حتى كان قد استنزف قوته، فلم يعد يستطيع المشي- إلا إذا أعانه عليه أحد. ولكنه كان يلوذ بمن يأخذ بيده يوم الأحد حتى يصل إلى المنبر في كنيسة سانت جيلز St. Giles وألقى آخر موعظة له في 9 نوفمبر 1572، ورافقه كل شعب الكنيسة إلى مسكنه، ووافاه الأجل في 24 نوفمبر، وهو في السابعة والستين من العمر، فقيراً كيوم ولدته أمه. "إنه لم يتجر بكلمة الرب" وترك للأعقاب أن تحكم عليه. لن يدرك هذا العهد الجحود ماذا كان بالنسبة لبلدي، ومع ذلك فإن الأجيال القادمة سوف تضطر أن تكون شواهد عدل على الحقيقة.(55) إن قلة من الناس هي التي أثرت تأثيراً حاسماً في معتقدات الشعب، وإن قلة من أهل عصره ضارعته في تشجيعه للتعليم وفي التعصب وفي ضبط النفس. ولقد اقتسم نوكس وماري روح إسكتلندة، وكان هو يمثل الإصلاح الديني، وهي تمثل عصر النهضة، واندحرت ماري لأنها- شأنها شأن إليزابث- لم تعرف كيف تزاوج بينهما.
وحاولت ماري- مثل نمر قلق هائج حبيس- كل إمكانات الهرب ووسائله. وفي 1571 قام روبرتودي ريدولفي، وهو فلورنسي من أصحاب المصارف ذوي النشاط في لندن- قام بدور الوساطة بين ماري والسفير الأسباني، وأسقف روسي، ودوق ألفا، وفيليب ملك أسبانيا، والبابا بيوس الخامس. واقترح أن يرسل ألفا إلى إنجلترا قوات أسبانية من الأراضي الوطيئة، وأن تغزو إنجلترا في نفس الوقت قوة كاثوليكية من إسكتلندة، وأن تخلع إليزابث عن العرش، وتنصب ماري ملكة على إنجلترا وإسكتلندة، وأن يتزوجها نورفولك بهذه الخطة، فلم يوافق عليها موافقة صريحة، ولم يكشف عنها لأحد. وأقرتها ماري بصفة مؤقتة.(56) ودفع البابا لريدولفي بعض المال على ذمة المشروع، ووعد بأن يوصي فيليب بقبوله، ولكن فيليب علق رأيه على موافقة ألفا الذي دمغ المشروع بالسخافة والحمق، على أنه مشروع خيالي، وأنه لن ينتهي لا بكارثة على أصدقاء ماري. وضبطت رسائل ريدولفي ونورفولك لدى من قبض عليهم من خدم ماري والدوق. وأودع السجن

نورفولك وروس وعدد من النبلاء الكاثوليك. وحوكم نورفولك بتهمة الخيانة، وصدر الحكم عليه. وترددت إليزابث في التصديق على حكم الإعدام على مثل هذا النبيل البارز العظيم. ولكن سيسل والبرلمان الإنجليزي وأقطاب الكنيسة الأنجليكانية، طالبوا بإعدام نورفولك وماري كليهما. واتخذت إليزابث حلاً وسطاً فأرسلت نورفولك إلى السجن (2 يونية 1572). ولما ترامت إلى إنجلترا أنباء مذبحة سانت برثلميو (22 أغسطس) تعالت الصيحات من جديد، للمطالبة بإعدام ماري(58). ولكن إليزابث أصرت على الرفض.
ولن نستطيع أن ندرك مدى يأس ماري ومدى شعورها بفداحة الذنب ألا إذا تذكرنا أنها قضت في الأسر قرابة تسعة عشر عاماً. وكان مكان احتجازها يتغير، باستمرار، مخافة أن العطف الذي يشعر به نحوها أهالي البلاد المجاورة أو سجانوها، يأتي بمؤامرات أخرى أو يغري بها، وكانت شروط احتجازها تتسم بالروح الإنسانية، حيث سمح لها بتسلم معاشها- الفرنسي- 1200 جنيه سنوياً- وأعطتها الحكومة الإنجليزية مبلغاً محترماً للطعام والعلاج الطبي والخدم ووسائل الترفيه وسمح لها بحضور القداس وغيره من الصلوات الكاثوليكية، وحاولت أن تشغل الساعات الطوال بالتطريز والقراءة، وفلاحة البستان واللعب مع كلابها المدللة. ولما تلاشت آمالها في الحرية، فقدت حرصها على العناية بنفسها، ولم تتريض إلا قليلاً، وأصبحت مترهلة بدينة، وأصيبت بالروماتيزم، وتورمت رجلاها في بعض الأحيان إلى حد لا تستطيع معه المشي. وفي 1577، وهي بنت الخمسة والثلاثين عاماً فقط، ابيض شعرها فغطته بشعر مستعار.
وعرضت، في يونية 1583، أن تنزل عن أي حق لها في تاج إنجلترا، إذا أطلق سراحها، وألا تتصل بالمتآمرين قط، وأن تعيش في أي مكان في إنجلترا تختاره إليزابث، وألا تبتعد عن مقر إقامتها بأكثر من عشرة أميال. وأن تخضع لرقابة جيرانها وأشرافهم. ولكن أشير على إليزابث بألا تثق فيها.
واستأنفت ماري مشروعات الهرب، وبعد وسائل متنوعة سعت إلى الاتصال


بسفيري فرنسا وأسبانيا وحكومتيهما، وبأنصارها في إسكتلندة وبممثلي البابا. وكانت الرسائل تهرب منها وإليها في ثياب الغسيل وفي الكتب، وفي العصي، وفي الشعر المستعار، وفي بطانة الأحذية. ولكن جواسيس سيسل وولسنهام كشفوا عن كل مؤامرة في حينها. وحتى بين الطلبة والقساوسة في كلية الجزويت في ريمس، كان لولسنهام عملاء ووكلاء يبلغونه بكل شيء.
ولكن الهالة الرومانسية التي أحاطت بماري الأسيرة حركت الشفقة والعطف في قلوب كثير من الشبان الإنجليز، كما ألهبت حماسة الشبان الكاثوليك. وفي 1583 دبر فرانسيس ثروكمورتون، وهو كاثوليكي، وابن أخت المغفور له سفير إليزابث لدى فرنسا، دبر مؤامرة أخرى لإطلاق سراح ماري، ولكن سرعان ما كشف أمره وعذب حتى أعترف. وصرخ مولولا: "لقد كتمت كل أسرارها، تلك التي كانت اعز ما لدي في هذه الدنيا بأسرها(59)". ومات بضربة من فاس جلاد وهو في سن الثلاثين.
وبعد ذلك بعام واحد، أقنع وليم باري Parry، وهو أحد الجواسيس الذين يعملون في خدمة سيسل، أقنع القاصد الرسولي في باريس، بأن يقدم إلى جريجوري الثالث عشر طلباً بالغفران التام، على أساس أنه سوف يقدم على محاولة خطيرة لإطلاق سراح ماري ستيوارت وإعادة إنجلترا إلى حظيرة الكاثوليكية. ورد وزير البابا (30 يناير 1584) بأن قداسته اطلع على التماس باري، وابتهج لما اعتزم القيام به، وأنه سيرسل إليه الغفران المطلوب، ويكافئه على جهوده(60). وحمل باري هذا الرد إلى سيسل. واتهم جاسوس إنجليزي آخر- يدعى ادموند نفيل- اتهم باري بتحريضه على قتل إليزابث. وقبض على باري، واعترف، فشنق، ومزقت أوصاله(61)، وهو لا يزال ينبض بالحياة.
ولما اشتد غضب مجلس الملكة إليزابث بهذه السلسلة الطويلة من المؤامرات، وجزع وفزع لمقتل وليم أورلنج، صاغ "التعهد بالتكاتف والترابط"، يتعهد الموقعون عليه بألا يرتضوا قط خلفاً لمليكتهم، أي شخص جرت لمصلحته أية محاولة للقضاء على إليزابث، وأن يعذبوا حتى الموت أي فرد اشترك في مثل هذه


المحاولة. ووقع هذا التعهد كل أعضاء المجلس ومعظم أعضاء البرلمان، كما وقعه ذوو المكانة في طول إنجلترا وعرضها، وبعد سنة أسبغ البرلمان على هذه الوثيقة صفة القانون النافذ المفعول أو المعمول به.
ولكن هذا لم يحل دون مزيد من المؤامرات. ففي 1586 أغرى جون بللارد وهو قسيس كاثوليكي روماني، أنتوني بابنجتون، وهو شاب ثري كاثوليكي، أغراه بتدبير مؤامرة لقتل إليزابث وغزو إنجلترا بجيوش من فرنسا وأسبانيا والأراضي المنخفضة، وتنصيب ماري على العرش. وكتب بابنجتون إلى ماري بهذا، وأبلغها أن ستة من النبلاء الكاثوليك اتفقوا على التخلص من مغتصبة العرش، وسألها إقرارا للخطة. وفي خطاب مؤرخ في 17 يولية 1586 قبلت ماري مقترحات بابنجتون، ولم توافق موافقة صريحة على قتل إليزابث، ولكنها وعدت بالمكافأة عند نجاح المشروع(62). وكان الرسول الذي عهد إليه سكرتيرها بحمل هذا الرد عميلاً سرياً لولسنهام. فأخذ صورة من كل رسالة وأرسلها إلى ولسنهام، وأرسل أصل الرسالة إلى بابنجتون. وفي 14 أغسطس قبض على بابنجتون وبللارد، وبعد ذلك بقليل أودع السجن نحو ثلاثمائة من أبرز الكاثوليك، واعترف الزعيمان، وأغرى سكرتير ماري بالاعتراف بصحة خطابها(63). وأعدم ثلاثة عشر من المتآمرين، وأطلقت الصواريخ النارية في سماء لندن، ودقت النواقيس، وأنشد الأطفال التسابيح شكراً لله على نجاة الملكة إليزابث. ودوت الصيحات في إنجلترا البروتستانتية تطالب بالموت لماري.
وفتشت حجرات ماري، وجمعت كل أوراقها، وفي أكتوبر نقلت إلى قلعة فوذرنجاي Fotheringay. وهناك جرت محاكمتها أمام لجنة مؤلفة من ثلاثة وأربعين من النبلاء. ولم يسمح لها بندب من يدافع عنها، ولكنها دافعت عن نفسها في عزم وإصرار. وأقرت باشتراكها في مؤامرة بابنجتون، ولكنها أنكرت إقرارها للقتل، واحتجت بأنها، كإنسان سجن ظلماً وعدواناً لمدة تسعة عشر عاماً، لها كل الحق في تخليص نفسها بأية وسيلة كانت. وأدانتها اللجنة بالإجماع. وطلب البرلمان إلى إليزابث أن تصدر أمرها بإعدامها. ولكن هنري الثالث ملك فرنسا قدم طلباً مهذباً


للرأفة. ولكن إليزابث قالت إن مثل هذا الطلب جاء بسند ضعيف من حكومة ذبحت آلافاً من البروتستانت دون محاكمة. ودافع معظم إسكتلندة الآن عن مليكتهم، ولكن ابنها قام بوساطة تعوزها الحماسة، حيث ارتاب في أنها أنكرته وتبرأت منه في وصيتها لأنه بروتستانتي. وأوعز ممثله في لندن إلى ولسنجهام إلى أنه- ابنها، جيمس السادس- ولو أنه حريص على ألا تقتل أمه، سوف يعتبر الموضوع منتهياً، ويقنع بأن يثبت إليزابث البرلمان الإنجليزي حقه في أن يخلف إليزابث على العرش، وتزيد إليزابث من مبلغ المعاش الذي ترسله إليه. وضيع الإسكتلندي المحاذر الحريص- الوقت سدى، بدافع من الطمع شديد، إلى حد أن أهالي أدنبرة كانوا يطلقون عليه صيحات الاستهزاء والاستهجان، وينعون كالبوم في الشوارع(64). ولم يبق بين ماري وبين الموت إلا تردد إليزابث.
وانقضت قرابة أشهر ثلاثة تجرر الأيام فيها أذيالها متثاقلة، قبل أن تحزم إليزابث المنهوكة المنزعجة أمرها، ثم لم تفعل شيئاً. كانت قادرة على السماحة والرحمة: ولكنها سئمت حياة الفزع من أن يعاجلها بالقتل في أية لحظة أنصار امرأة تدعي حقاً في عرشها، كما وضعت في اعتبارها خطر غزو إنجلترا من جانب فرنسا وأسبانيا وإسكتلندة احتجاجاً على إعدام ملكة، كما فكرت في إمكان موتها هي، ميتة طبيعية أو بيد أثيمة، وفي وقت يتيسر فيه لماري وللكاثوليكية أن ترثا إنجلترا. وحثها سيسل على توقيع التصديق على حكم الإعدام، ووعد بأن يتحمل هو كل مسئولية نتائجه، وفكرت في أن تتفادى هي حسم الموضوع بالإلماع إلى سير أمياس بولت Amias Paulet، المعين لحراسة ماري، بأنه يمكن أن يضع حداً لهذا الارتباك، بأن يأمر بإعدام ماري، بناء على مجرد فهم شفوي بأن الملكة أو مجلسها يرغبان في ذلك، ولكن بولت أبى أن يتصرف دون أمر كتابي من إليزابث، وأخيراً وقعت التصديق على الحكم، وحمله سكرتيرها وليم دافيسون إلى المجلس الذي أرسله في الحال إلى بولت قبل أن تغير إليزابث رأيها.
أما ماري التي كانت طيلة هذا الإمهال الطويل، قد عاودها الأمل، فإنها لم تصدق النبأ في بداية الأمر، ثم واجهته بشجاعة. وكتبت إلى إليزابث رسالة مؤثرة،

سألتها فيها أن تسمح "لخدمي البؤساء الذين باتوا بلا صديق أو معين... أن ينقلوا رفاتي ليدفنوها في أرض مقدسة، مع سائر ملكات فرنسا". وقيل إنها في صباح اليوم الذي أعدمت فيه، نظمت باللاتينية قصيدة قصيرة، تشيع فيها كل الحماسة والرشاقة اللتين تتسم بهما ترانيم العصور الوسطى:
يا إلهي لقد وضعت كل أملي فيك

أنقذني الآن يا يسوع العظيم،

إني أرسف في الأغلال وأعاني أشد الآلام، إني أضرع إليك،

متلهفة باكية راكعة، أسبح بحمدك، وأتوسل إليك

أن تخلصني

وطلبت أن يسمح لها بالاعتراف أمام كاهنها الخاص الكاثوليكي، فلم تجب إلى طلبها، وأحضر لها سجانوها بدلاً منه قسيساً أنجليكانياً، فرفضته. وارتدت الملابس الملكية لتقابل بها الموت، وصففت شعرها المستعار بعناية، وغطت وجهها بخمار أبيض، وتدلى من عنقها صليب ذهبي، كما كان في معصمها صليب من العاج. وتساءلت لماذا منعت وصيفتها من شهود إعدامها، فقيل لها إنهن قد يحدثن اضطراباً، فوعدت بأنهن لن يفعلن شيئاً. فرخص لها أن تصحب اثنتين منهن وأربعة رجال، وسمح لنحو ثلاثمائة من الإنجليز بأن يشهدوا تنفيذ الإعدام، في القاعة الكبرى في حصن فوذرنجاي (8 فبراير 1587) وسألها اثنان من الجلادين المقنعين مغفرتها، وتلقياها منها. ولما بدأت وصيفتاها في الصراخ والعويل منعتهما قائلة "لقد تعهدت بالنيابة عنكما"، ثم ركعت وصلت ووضعت رأسها في المقصلة، وسقط الشعر المستعار عن رأسها المفصول عن جسدها، وكشف عن شعرها الأشيب. وكانت في سن الرابعة والأربعين.
الصفح والمغفرة للجميع، والعفو والمغفرة لماري التي بذلت الجهد بشجاعة لتكون ملكة عادلة بهيجة على حد سواء. ولسنا نعتقد أنها، وهي التي سهرت طويلاً على العناية بزوجها حتى استرد صحته وعافيته، كانت قد رضيت عن قتله، ويمكن أن نصفح عن المرأة الشابة التي تخلت عن كل شيء مقابل حب مهماً كان


طائشاً، وينبغي أن نرثى للمرأة البائسة التي تخلى عنها أصدقاؤها، والتي قدمت إلى إنجلترا تلتمس ملجأ وملاذاً، فلاقت بدلاً منه تسعة عشر عاماً في غيابة السجن، ويمكننا أن ندرك محاولاتها الجبارة لاسترداد حريتها. كما يمكن كذلك أن نغفر للملكة العظيمة (إليزابث) التي أصر مستشاروها على أن احتجاز ماري بين جدران السجن، أمر حيوي بالنسبة لأمن لإنجلترا وسلامتها، والتي رأت أن حياتها وسياستها مهددتان دوماً بالمؤامرات من أجل إطلاق سراح منافستها، ماري، وإعادتها إلى العرش، والتي أطالت مدة هذا الأسر البغيض القاسي، والتي لم تقنع نفسها بإنهائه بالتصديق على إعدام ماري. وكانتا امرأتين نبيلتين، الواحدة منهما نبيلة سريعة الانفعال، والأخرى نبيلة وحكيمة عاقلة مع شيء من التردد. وترقد كلتاهما الآن في انسجام، الواحدة قرب الأخرى، في كنيسة وستمنستر وقد سويت الخلافات بينهما، في ظل الموت والسلام.


يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق