19
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الأول: الإطـار النظــرى
الجزء الأول: إشكاليات نظرية
الباب الثانى: مفـردات
المطلق والنسبى
«المُطلَق» في المعجم الفلسفي (هو عكس النسبي) ويعني «التام» أو «الكامل» المتعرى عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط، والخالص من كل تعيُّن أو تحديد، الموجود في ذاته وبذاته، واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان حتى إن تجلى فيهما. والمطلق عادةً يتسم بالثبات والعالمية، فهو لا يرتبط بأرض معيَّنة ولا بشعب معيَّن ولا بظروف أو ملابسات معيَّنة. والمُطلَق مرادف للقَبْليّ، والحقائق المطلقة هي الحقائق القَبْلية التي لا يستمدها العقل من الإحساس والتجربة بل يستمدها من المبدأ الأول وهو أساسها النهائي. ويمكن وصف الإله الواحد المتجاوز بأنه «المُطلَق»، ويشـار إليه أحياناً بأنه «المدلول المتجـاوز»، أي أنه المدلول الذي لا يمكن أن يُنسَـب لغيره فهو يتجاوز كل شـيء. وقد عرَّف هيجل المُطلَق بأنه «الروح» (بالألمانية: جايست Geist) ويُقال «روح العصر» (أي جوهر العصر ومطلقه) و«روح الأمة» (جوهرها ومطلقها). وتَحقُّق المطلق في التاريخ هو اتحاد الأضداد والانسجام بينها، والحقيقة المطلقة هي النقطة التي تتلاقى عندها كل الأضداد وفروع المعرفة جميعاً من علم ودين، وهي النقطة التي يتداخل فيها المقدَّس والزمني (فهي وحدة وجود كاملة).
وفي مجال المعرفة، تعبِّر المطلقية (مصدر صناعي من «المطلق») عن اللا نسبية وهي القول بإمكان التوصل إلى الحقيقة واليقين المعرفي بسبب وجود حقائق مطلقة وراء مظاهر الطبيعة الزمنية المتغيِّرة المتجاوزة لها. والمطلقية في الأخـلاق هي الذهاب إلى أن معايير القيم - أخلاقيةً كانـت أم جماليةً - مطلقةٌ موضوعيةٌ خالدةٌ متجاوزةٌ للزمان والمكان، ومن ثم يمكن إصدار أحكام أخلاقية. أما في السياسة، فهي تعني سيادة الحاكم أو الدولة بغير قيد ولا شرط. والدولة المطلقة هي الدولة التي لا تُنسب أحكامها إلى غيرها فمصلحتها مطلقة وإرادتها مطلقة وسيادتها مطلقة.
أما «النسبي»، فهو ينُسَب إلى غيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلا مقروناً به، وهو عكس المطلق، وهو مقيد وناقص ومحدود مرتبط بالزمان والمكان يتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذا فالنسبي ليس بعالمي.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أنه داخل المنظومات التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل الرؤية التوحيدية) لا ينقسم العالم بشكل حاد إلى مطلق ونسبي، فالمطلق النهائي الوحيد (المطلق المطلق) هو الإله المتجاوز وهو مركز النموذج والنسق والدنيا الذي يوجد خارجها، أما ما عداه فيتداخل فيه المطلق والنسبي، فالإنسان يعيش في الطبيعة النسبية ولكنه يحوي داخله النزعة الربانية التي لا يمكن ردها إلى العالم المادي النسبي، ولذا فهو يشعر بوجود القيم المطلقة ويهتدي بهديها (إن أراد). والكائنات نسبية فهي تُنسَب لغيرها، ومع هذا لها قيمة مطلقة، ولذا لا يمكن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق لأنها مطلقة، ومن قَتَل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. وأقل المخلوقات في الكون هي من صنع الله، ولذا فلها قيمتها المطلقة. وتداخل النسبي مع المطلق لا يلغي المسافة بينهما، ولذا فهما لا يمتزجان ولا يذوب الواحد في الآخر.
ويمكننا الحديث عن النسبية الإسلامية باعتبارها نسبية تنصرف إلى خطاب الخالق، فنحن نؤمن بأن ثمة مطلقات نهائية لا يمكن الجدال بشأنها، نؤمن بها بكل ما تحوي من عقل وغيب؛ منها ننطلق وإليها نعود، أما ما عدا ذلك فخاضع للاجتهاد والحوار.
أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، كالنظم الحلولية الواحدية والمادية، فإن مركز العالم كامن فيه. ولذا، قد يتجسـد المطلق في أحد عناصر الدنيا (يتجسد فيه ولا يتبدى من خلاله) فيصبح هذا العنصر المادي أو الملموس هو المطلق والمقدَّس وأما ما عداه فمدنَّس.
وأي نموذج مهما بلغ من مادية ونسبية يحتوي على ركيزة أساسية تدَّعي لنفسها المطلقية والقَبْلية، ولذا فإن النماذج المعرفية العلمانية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة تحتوي على مطلق علماني يفترض فيه أنه الركيزة الأساسية والمرجعية النهائية لكل الأشياء، يمنحها الوحدة والتماسك. وأهم مطلق علماني هو الطبيعة/المادة والتنويعات المختلفـة عليه مثل الدولة وحتمية التاريخ... إلخ. وكلمة «مُطلَق» هنا تكاد تكون مرادفة لكلمة «ركيزة أساسية» وكلمة «مـركز» أو «المبدأ الواحد» أو «اللوجوس»، فحينما نقول: "لقد حلَّ المُطلَق في المادة"، فنحن نعني "لقد حل المركز في المادة" وأصبح كامناً فيها غير متجاوز لها.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق