إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 2 مايو 2014

1432 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> هنري الرابع -> زير النساء 5-زير النساء



1432


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> هنري الرابع -> زير النساء

5-زير النساء


في متحف كونديه بشانتي لوحة شائقة رسمها فرانس بوربي الابن، يبدو فيها هنري في عنفوان قوته وعزته. رشيق البنية، بسيط الملبس في سراويل منفوخة وصدرة وجوارب سوداء، ذراعه اليسرى على خاصرته، وتحت لحيته الشيباء طوق مكشكش، ثم أنف أشم، وفم حازم، وعينان فيهما تيقظ وتشكك ورحمة. ولقد خلعت عليه سنو الحملات الطوال مشية الجندي وخلقه وريحه: فهو قوي نشيط لا يكل، له من شواغله ما يمنعه من الإسراف في النظافة أو من تغيير ملابسه حين يجب تغييرها؛ قال صديق إنه كان أحياناً »تفوح من جسده رائحة خبيثة كأنه الجيفة(25)« كان بعد يوم من السير أو القتال يفاجئ معاونيه بتنظيم رحلة صيد. إنه مضرب المثل في بسالته، ولكن أمعاءه تجنح إلى الاسهال إذا دنت المعركة(26)، وقد عانى في السنين السبع الأخيرة من حياته من الدوزنتاريا وعسر البول والنقرس. أما ذهنه ففي نشاط جسده ومرونته. وهو سريع في تبين الزيف والهراء، يلتقط لب الأمور للتو والساعة، ويكتب الرسائل التي لا تزال تنبض بالحياة، ويشرح بطرفه صدر فرنسا


?
    صفحة رقم : 9931    


والتاريخ. حين عين لافيوفيل في أحد المناصب قال الرجل متمثلاً بعبارة وردت في الأنجيل »مولاي، لست مستحقاً« أجاب هنري »أعلم ذلك جيداً، ولكن ابن أخي طلب إلي أن أعينك«(27). وذات يوم اعترضه صاحب حاجة وهو في طريقه إلى الغداء وبدأ يقول في لغة طنانة »مولاي الملك، أن أجبيسيلا، ملك لاكيديمون-« وقال هنري وهو يثن »ويحك! لقد بلغني نبوءه، ولكنه كان قد تغدى، أما أنا فلم أفعل«(28). يقول مؤرخ فرنسي »لقد كان أذكى ملك أنجبته فرنسا«.
ثم كان أحبهم إلى الناس. لم يكن بعد أكثرهم شعبية، لأن نصف فرنسا مازال يقبله على مضض، ولكن الذين عرفوه معرفة حميمة كانوا لا يترددون في أن يساقوا إلى الموت حرقاً من أجله، وبعضهم يفعل وهو آخذ كل شئ في اعتباره، فهو أقرب الحكام مثال، لا إدعاء فيه ولا غرور، يرسل نفسه على سجيتها، طيب القلب، بطئ الغضب، سريع العفو دائماً. شكت حاشيته من كرهه للظهور في أبهة الملوك, وسمح للشعراء وكتاب المسرحيات بالسخرية منه، وإن أعجبه أكثر أن يمثله ماليرب رباً للفضيلة والحسن. وكان يذهب للتفرج على الهزليات التي تهجوه، ويوهن من شرتها بضحكه. ولم ينتقم ممن عارضوه بالقول أو الفعل »لو أنني شنقت كل من كتبوا أو وعظوا ضدي لما وجدت في كل غابات مملكتي ما يكفيهم من المشانق(30)«. كان له حساسية الشاعر، فهو يحس فقر الشعب برهافة إحساسه بجمال النساء. لم يكن رواقياً، فالتحكم في عواطفه ليس من شيمه؛ كانت له عيوبه الكثيرة، فقد يكون وقحاً دون قصد، أو جلفا في مرح وابتهاج. وكانت تسكنه روح رابليه، فهو يستمتع بالقصص المكشوفة ويرويها بطريقة لا تباري. يسرف في لعب الورق، ويخسر المبالغ الكبيرة، ويغش أحياناً كثيرة، ولكن يرد مكاسبه الحرام دائماً(31). وكان يهمل مطاردة عدو متقهقر ليطارد امرأة متقهقرة.


?
    صفحة رقم : 9932    


ولا حاجة بنا لأن نعدد غرامياته كلها. على أن ثلاث نساء على الأخص كن معالم طريقه إلى العرش. إنه يكتب الرسائل الغرامية الملتهبة إلى »كوريساند الجميلة« ويقول في إحداها »إني ألتهم يديك... وأقبل قدميك ملون مرة... أنها لبقعة مقفرة حقاً تلك التي نمل فيها وجودنا معاً(32)«. ولكن لم يأت عام 1589 حتى كان قد ملها، واكتشف استر امبير دبو الامبير. وبعد عام، حين كان في السابعة والثلاثين، ودون أن يعوقه مرض السيلان(33)، وقع في غرام جابرييل دستريه، وكانت يومها فتاة في السابعة عشرة، خلع عليها أحد الشعراء »الشعر الذهبي، وعيون النجوم، ونحر الزنبق، واصابع اللؤلؤ، وثدي المرمر(34)«. وصف حبيبها بلجارد في لحظة طيش مفاتنها للملك فعدا هنري بفرسه اثني عشر ميلا وهو متنكر يشق أرض العدو ليراها. وضحكت على أنفه الطويل، ووقع على قدميها، وانسحب بلجارد. واستسلمت هي لسحر المال والملك، وولدت لهنري ثلاثة أطفال. وكان يأخذها لبلاطه وفي رحلات صيده، ويعانقها علناً، ويفكر في الزواج منها إذا ارتضت مارجو طلاقه. وتظافر الوعاظ الهيجونوت والكاثوليك في التنديد به زانياً، ضالاً، ووبخه صلى الشجاع على تبديده أموال الدولة على محظياته. فطلب المغفرة معتذراً بأنه وقد جاهد هذا الجهاد في الحرب وأحكم، وأخفق هذا الاخفاق في الزواج، فإن له ما لكل جندي من الحق في شيء من الترفيه(35)، وأقام على حب جابرييل ثماني سنين غدت بدينة حريصة على الاقتناء. وراحت تدس لصلى، وتدعوه »التابع«، وقال لها هنري في غيظه إن وزيراً مثله أثمن في نظره من عشر محظيات مثلها. ثم لان وعاد إلى حديث الزواج منها، ولكنها ماتت في 10 أبريل 1599 وهي تلد طفلاً ميتا. وبكاها بكاءً مريراً وكتب يقول: »لقد ماتت نبتة الحب التي في باطني(36)«.


?
    صفحة رقم : 9933    

ولكن النبتة انتعشت بعد شهرين حين التقى بهنرييت دنتراج، ابنة ماري توشيه ذاتها التي كانت خليلة شارل التاسع. ونها أبوها وأمها وأخوها لأبيها أن تستسلم إلا لخاتم الزواج، فكتب لها هنري تعهداً بالزواج مشرطاً بأن تنجب له ولداً، ولكن صلى مزقه أمامه، فكتب هنري تعهداً آخر وسلمه لها معه عشرين ألف كراون. وبرئ ضمير السيدة وأصبحت محظية الملك. ورأى بعض دبلوماسييه أنه قد آن له أن يستقر. فأقنعوا مارجو بقبول الطلاق شريطة ألا يتزوج هنري من خليلته. ووافق البابا كليمان الثاني على منح الطلاق بنفس الشروط، واقترح ماريا مديتشي ابنة دوق توسكانيا الكبير عروساً لهنري؛ واقترح المصرفيون والفلورنسيون إلغاء دين فرنسا الضخم لهم إذا جعل هنري ماريا مليكته(37). واحتفل بالزواج غياباً في فلورنسة (5 اكتوبر 1600). وانتزع هنري نفسه من ساحة قتال ليذهب إلى ليون ليحيي زوجته، ووجدها طويلة بدينة متعجرفة وبذل كل مجاملة ملكية، وأنجب منها لويس الثالث عشر ثم عاد إلى الآنسة دنتراج على أنه كان يقوم بواجباته الزوجية بين الحين والحين. وأنجبت له ماري دمديسي (كما كانت تسميها فرنسا) سبعة أطفال في عشر سنين. ورباهم هنري، مع أبنائه من جابرييل وهنرييت، في سان- جرمان- أن- لي.
وقدمت هنرييت إلى الملكة، وأسكنت قصراً بقرب اللوفر، ولكنها بعد أن ولدت الملك أصرت على أنها هي، لا ماري، الملكة الشرعية. وتآمر أبوها وأخوها لأبيها لخطفها هي وابنها إلى أسبانيا ويجعلا فليب الثاني يعترف بالغلام »الدوفين« الشرعي لفرنسا (1604). واكتشفت المغامرة وقبض على الأخ، وأفرج عن الأب حين رد تعهد هنري بالزواج. وواصل هنري مطاردته لهنرييت كأنه الزير الجائع. وكانت تقابل ملاطفاته بالاشمئزاز والكراهية، وتقبل الرشا من فليب الثالث ثمناً لتجسسها لحساب اسبانيا(38).

    صفحة رقم : 9934    

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق