1431
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> هنري الرابع -> الملك الخلاق
4-الملك الخلاق
1594-1600
تبين هنري أن مهمة التعمير أشق من قهر القوة المسلحة. ذلك أن اثنين وثلاثين عاماً من »الحروب« الدينية خلفت في فرنسا من الخراب والفوضى ما خلفته حرب المائة عام في القرن السابق. فبحرية فرنسا التجارية كادت تختفي من البحار، وقد بلغ عدد البيوت التي دمرت ثلاثمائة ألف، وأعلن الحقد تعطيله للفضيلة، وسمم فرنسا بشهوة الانتقام. وأغار الجنود المسرحون على الطرق والقرى سرقة وتقتيلاً وتآمر النبلاء ليفرضوا استرداد سيادتهم الاقطاعية ثمناً لولائهم للملك، وكانت الأقاليم التي طال تركها معتمدة على مواردها تقسم فرنسا إلى دويلات مستقلة ذاتياً، وكان الهيجونوت يطالبون بالاستقلال السياسي والحرية الدينية، والحلف لا يزال يحتفظ بجيش في الميدان؛ واشترى هنري قائده مايين بالمال فارتضى الهدنة ثم الصلح في النهاية (يناير 1596). وبعد أن وقعت الشروط، اصطحب هنري الدوق البدين في مسيرة طويلة جعلته يلهث إعياء، ثم أكد له أن هذا هو انتقامه الوحيد منه(20). ولما تزعم أحد قواده المدعو شارل جونتو، دوق بيرون، مؤامرة ضده، عرض عليه هنري العفو إذا اعترف، ولكنه أبى، فأمر بمحاكمته، وأدين بالجريمة وقطع رأسه
صفحة رقم : 9925
(1602). وأدركت فرنسا الآن أن نافار ملك. وسمح له شعب فرنسا الذي أرهقته الفوضى-بل توسلت إليه طبقات رجال الأعمال-أن يجعل ملكية البوربون الجديدة مطلقة السلطان. لقد كانت الاستبدادية الملكية نتيجة للحرب الأهلية في فرنسا بينما كانت في إنجلترا سبباً لها.
وجبى هنري الضرائب لأن حاجة الحكومة الأولى كانت المال. أما مجلس المالية الموجود فقد انبعث منه من نتن الرشوة والفساد قدر أكثر من المألوف. وولى هنري صلى الجريء رئاسة المالية، وأطلق يده في تنقية الهواء واخلاء الطريق بين ما يدفعه الشعب من الضرائب وما يصل منها إلى الخزانة. كان مكسمليان بتون، بارون روزني، دوق صلى، صديق هنري الوفي مدى ربع قرن. قد قاتل جنباً إلى جنب مع هنري خلال أربعة عشر عاماً؛ وهاجم الآن-وهو بعد في السابعة والثلاثين-الموظفين المختلسين عديمي الكفاية بهمة لا تعرف الكلل، حتى أصبح أعظم أعضاء مجلس الملك قيمة وأقلهم شعبية. وصورته التي رسمها له دمونستبيه معروضة في اللوفر، يطالعنا فيها رأس كبير وجبين عريض وعينان مرتبتان حادتان. ها هنا العبقرية العملية التي لا غنى عنها لكبح الروح الرومانسية لملك شغله لعب دور كازانوفا عن لعب دور شارلمان كاملاً. وجعل صلى من نفسه الحارس الرقيب على الإدارة الحكومية. وإذ كان مديراً للمالية والطرق والمواصلات والمباني العامة والتحصينات والمدفعية، ومأموراً للباستيل، ومشرفاً عاماً على باريس، فقد وجد في كل مكان، وأشرف على كل شيء، وأصر على الكفاية والاقتصاد والنزاهة، وقد عكف على العمل خلال كل ساعات يقظته. وعاش عيشة التقشف في حجرة بسيطة على جدرانها صور لوثر وكالفن. ثم رعى مصالح إخوانه الهيجونوت. وثبت العملة، وأعاد تنظيم البيروقراطية وهذبها، وأكره لصوص الموظفين على أن يتقيئوا ما سرقوه. وقد استرد للدولة كل الأملاك والموارد التي تملكها الأفراد خلال الحروب، وألزم 40.000 من المتهربين من الضرائب بدفع
?
صفحة رقم : 9926
ضرائبهم. وجد خزانة الدولة مدينة بمبلغ 296.000.000 جنيه، فسدد هذه الديون، ووازن الميزانية، وجمع فائضاً بلغ 13000.000 جنيه. وحمى وشجع كل نواحي الحياة الاقتصادية، وبنى الطرق والكباري، وخطط للقنوات الكبرى التي أزمعت أن تربط الأطلنطي بالبحر المتوسط، والسين باللوار(21). وأعلن أن جميع الأنهار الصالحة للملاحة جزء من الأملاك الملكية، وحظر وجود العوائق فيها، وأعاد من جديد تدفق السلع داخل البلاد.
واستطاع هنري أن يخلق فرنسا من جديد بمعونة وزراء أحسنَ اختيارهم كوزيره صلى. فرد للمحاكم و »البرلمانات« وظائفها وسلطتها الشرعية، وإذا كان قد سمح للموظفين البيروقراطيين بتوريث مناصبهم لأبنائهم لقاء ثمن يؤدونه فإن الدافع له لم يكن مجرد جمع المال، بل كفالة استقرار الإدارة والنهوض بالطبقات الوسطى- ولا سيما رجال القضاء »نبالة الرداء«- ليكونوا مقابلاً وموازناً للارستقراطية المعادية. وقد درس هذا الملك، الذي كان فيه من الحرص على الحياة والعمل ما لا يسمح له بقراءة كتاب أوليفييه دسير المسمى »مسارح الزراعة« (1600)- درس هذا الكتاب بعناية، وفيه اقتراحات لأساليب زراعية أكثر علمية، وأرسى هذه التحسينات في أراضي التاج لتكون نماذج وحوافز للفلاحين الخاملين. وكان يقول إنه يتوق لرؤية »دجاجة في كل قدر يوم الأحد«(21). وحظر على النبلاء أن يركبوا خيلهم فوق الكروم أو حقول الغلال وهو منطلقون إلى صيدهم، ومنع غارات الجند على أراضي الفلاحين. وألغى عشرين مليون جنيه من متأخرات الضرائب المستحقة على الفلاحين (ربما لأنه عرف أنه لن يستطيع جمعها أبداً). وسبق كوليير بحمايته الصناعات الموجودة بالرسوم الكمركية، وادخال الصناعات الجديدة كصناعة الخزف المصقول والزجاج وتربية دودة القز، وزرع أشجار التوت في حدائق التويلري وفونتنبلو، وأمر بأن
?
صفحة رقم : 9927
يزرع منها عشرة آلاف في كل أسقفية، وأعان ووسع مصانع السجاد المرسوم التي يملكها آل جوبلان. ورغبة في تفادي السياسات المقيدة التي فرضها معلمو الحرف على نقاباتهم، أعاد تنظيم الصناعة الفرنسية على أساس تعاوني-فأصحاب العمل والعمال متحدون في كل حرفة، خاضعون للتنظيم الذي تفرضه الدولة. ولكن الفقر لم يبرح مخيماً على البلاد، من جهة بسبب الحرب والطاعون والضرائب. ومن جهة لأن عدم التكافؤ الطبيعي في القدرات، وسط تساوي الجميع في الجشع، كفيل في كل جيل بأن تستوعب قلة من الناس أكثر السلع. أما الملك فتوخى القصد في عيشه، إلا أن يسرف مع خليلاته. ورغبة في شغل المتعطلين وتنقية الريف من قدامى المحاربين العاطلين النهمين، مول عدداً كبيراً من الأشغال العامة المختلفة: فوسعت الشوارع ورصفت، وشقت القنوات، وغرست الأشجار على الطرق العامة، وفتحت المتنزهات والميادين-كالبلاس رويال (وهو اليوم بلاس دي فوج) والبلاس دوفين-لتتيح لباريس متنفساً. وأنشأ الملك مستشفى الميرة للعجزة. ولم يكتمل نضج هذه الاصلاحات كلها قبل موته المفاجئ، ولكن حينما ختم حكمه كانت البلاد تتمتع برخاء لم تشهده منذ أيام فرنسيس الأول. وأهم من ذلك كله أن هنري أنهى الحروب الدينية، وعلم الكاثوليك والبروتستنت أن يعيشوا بسلام. لا في مودة وصداقة، لأن أحداً من غلاة الكاثوليك لم يكن ليسلم بحق هيجونوتي في الوجود، ولا كان أي هيجونوتي حار الإيمان لينظر إلى العبادة الكاثوليكية إلا على أنها عبادة أصنام. وقد وضع هنري حياته على كفه وأصدر (13 ابريل 1598) مرسوم نانت التاريخي، الذي أباح الممارسة الكاملة للعقيدة البروتستنتية، ومنح الصحافة البروتستنتية حريتها، في جميع مدن فرنسا الثمانمائة إلا سبع عشرة مدينة كانت فيها الكاثوليكية المذهب الغالب (كما في باريس). وثبت مبدأ صلاحية الهيجونوت للمناصب العامة، وكان منهم في مجلس الدولة
?
صفحة رقم : 9928
اثنان فعلا، وتقرر تعيين تورين الهيجونتي مارشالاً لفرنسا. كذلك تقرر أن تدفع الحكومة رواتب القساوسة البروتستنت ونظار المدارس البروتستنتية وأن يقبل الأطفال البروتستنت في جميع المدارس والكليات والجامعات والمستشفيات كالأطفال الكاثوليك سواء بسواء. أما المدن التي كان يسيطر عليها الهيجونوت مثل لاروشيل، ومونبلييه، ومونتوبان-فتظل على حالها وتنفق الدولة على جامعاتها وحصونها على أن الحرية الدينية التي منحت على هذا النحو كانت لا تزال ناقصة، فهي لم تشكل غير الكاثوليك والبروتستنت، ولكنها كانت أكثر ألوان التسامح الديني تقدماً في أوربا. لقد اقتضى تحويل »جلالة الملك المسيحي جداً« إلى مسيحي حقاً، رجلاً ذا عقيدة مشكوك في سلامتها.
وتصايح الكاثوليك في طوال فرنسا وعرضها بالسخط على المرسوم زاعمين أن فيه حنثاً بما توعد به هنري من تأييد لعقيدتهم. وندد به البابا كلمنت الثامن »كألعن ما يمكن تصوره، منحت به حرية الضمير للجميع، وهذا أسوأ شئ في الوجود(23).« وأعلن الكتاب الكاثوليك من جديد بأنه يحل خلع الملك الزنديق أو قتله، أما المؤلفون البروتستنت أمثال أوتمان، الذين دافعوا عن سيادة الشعب إبان حكم هنري الثالث، فقد أطروا فضائل الاستبدادية -في ملك بروتستنتي(24). وأبى برلمان باريس طويلاً أن يختم المرسوم بخاتم التسجيل الرسمي الذي اقتضاه العرف حتى يصبح أي مرسوم ملكي قانوناً مقبولاً. ودعا هنري الأعضاء، وبين لهم أن ما فعله لم يكن عنه غنى للسلام ولتعمير فرنسا. فأذعن البرلمان، وقبل ستة من الهيجونوت بين أعضائه.
وسمح هنري لليسوعيين بأن يعودوا إلى فرنسا (1603) ربما ليسكت المعارضة الكاثوليكية ويسترضي البابا. وعارض صلى بقوة هذه الخطوة، وقال إن اليسوعيين »رجال نابغون، ولكنهم شديدوا الخبث والدهاء«، وإنهم ملتزمون بقضية الهابسبورج، ومن ثم بقضية خصمي فرنسا- أي
صفحة رقم : 9929
أسبانيا والنمسا، وانهم متعهدون بالطاعة العمياء للبابا وميالون إليها، وهو ليس إلا سجيناً جغرافياً للهابسبورج وتابعاً مالياً لهم، فهم لا محالة مملون على هنري سياساته إن عاجلاً أو آجلاً فإن أخفقوا فسيقنعون أحد المتعصبين »بأن يقضي عليك بالسم أو بغيره« وأجاب هنري بأن مساندة اليسوعيين سيكون له عوناً كبيرًا على توحيد فرنسا، وأن استمرار نفيهم وعدائهم أشد خطراً على حياته وسياساته من عودتهم إلى فرنسا وقبل اليسوعي بيير كوتون كاهن اعتراف له، ووجده إنساناً لطيفاً وفياً، ثم فرغ بعد ذلك لحكم فرنسا ولزعازع الحب العاتية.
صفحة رقم : 9930
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق