إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 2 مايو 2014

1429 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> هنري الرابع -> هنري الثالث 2-هنري الثالث 1574-1589




1429


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> هنري الرابع -> هنري الثالث

2-هنري الثالث


1574-1589


بعد أن تربع الدوق أنجو فترة قصيرة على عرش بولندة عاد في الرابعة والعشرين ليعتلي عرش فرنسا باسم هنري الثالث، آخر ملوك فالو الفرنسيين. وهو يطالعنا في صورة له باللوفر لا يعرف مصورها، فتى


?
    صفحة رقم : 9912    


طويلاً، نحيلاً، شاحباً، حزيناً، رجلاً ذا نية طيبة، شوشت عليه حياته الوراثة السيئة. كان ضعيف البنية، قلق العاطفة، سريع الإعياء، وكان عليه أن يجتنب الركوب والصيد، ويلزم فراشه أياماً إثر دقائق من الغرام النشيط. وقد شكا حكة في جلده لا سبيل إلى برئها، وصداعاً في رأسه ووجعاً في معدته ونزفاً في أذنه. أبيض شعره وسقطت أسنانه قبل ان يبلغ السادسة والثلاثين. أما غطرسته البادية فلم تكن في حقيقتها سوى جبن، وأما قسوته فخوف، فإذا أرسل نفسه على سجيتها كان لطيفاً حذراً. ولكنه لسوء الحظ كان شديد الولع بارتداء ثياب النساء. ظهر في حفلة رقص مرتدياً ثوباً انخفضت فتحة عنقه وأحاطت برقبته عقد من اللآلئ، وكان يلبس الجواهر في أذنيه والأساور في ذراعيه. وجمع من حوله اثني عشر »غندورا«، شباب جعدوا شعورهم الطويلة وصبغوا وجوههم، وازدانوا بالثياب البهية، وضمخوا أنفسهم بالعطور التي نشرت أريجها حولهم. ومع أشباه الرجال هؤلاء ألف أحياناً-وهو متنكر في ثوب امرأة-أن يعربد في الشوارع ليلاً ويلعب ألاعيبه على المواطنين. وقد أفرغ خزانة بلده المشرف على الإفلاس والفوضى على أحبائه الذكور، فأنفق أحد عشر مليوناً من الفرنكات على زفاف أحدهم، وضاعف ثمن المناصب القضائية ليشتري هدية زواج لآخر. على أنه أنفق بعض مال شعبه في أغراض نافعة-فبني البون نوف وحسَّن اللوفر، وانتشل بعض أجزاء باريس من قذارتها إلى حسن العمارة والنظافة. وأعان الأدب والمسرح. وبذل جهوداً متقطعة للنهوض بالادارة. وتكفيراً عن كل سيئاته حج مرات راجلاً إلى شارتر وكليري، وفي باريس مشى من كنيسة إلى كنيسة-وهو يعبث بمسبحات كبيرة، وجمع في حماسة الكثير من الصلوات الربانية والسلامات المريمية، وسار في مواكب »التائبين الزرق« الليلية الرهيبة وجسده في غرارة بها ثقوب لقدميه وعينيه. ولم يعقب. أما أمه التي حملت إليه بذور الانحلال من أبوين مريضين فكانت تتطلع في أسى إلى تدهور سلالتها وانقراضها الوشيك.


?
    صفحة رقم : 9913    


كان في الموقف السياسي من الاضطراب ما لا يرقي إليه إدراك هنري، فهو لم يخلق للحرب. وكانت كاترين تتوق إلى السلام وقد تقدم بها العمر، ولكن الهيجونوت ما زالوا ثائرين، فهم يائسون ولكنهم لم يذلوا. وكان أخوه الدوق ألينسون يتودد إلى ملكة بروتستنتية تجلس على عرش إنجلترا، وإلى ثوار بروتستنت في الأراضي المنخفضة، وإلى هنري نافار في بيارن. وكانت أقلية من زعماء الكاثوليك، ساهم نقادهم بـ »السياسيين«، تعتنق أفكار لوبيتال (الذي مات حزيناً عام 1573)، فاقترحوا التسامح المتبادل بين المذهبين المقتتلين، ودافعوا عن فكرة مكروهة في المعسكرين، وهي أن في استطاعة الأمة أن تحيا دون وحدة في العقيدة الدينية. وقالوا إن على فرنسا إذا حظر البابوات مثل هذا التوفيق بين الفريقين أن تقطع روابطها الدينية مع روما. فلما خاف هنري التعاون بين هؤلاء السياسيين والهيجونوت، وخشي غارات الجنود الألمان القادمين لتعزيز قوة البروتستنتية، أنهى عام 1576 الحرب الدينية الخامسة بتوقيعه »صلح الموسيو« في يوليو، واصداره مرسوم تهدئة-وهو مرسوم يوليو-الذي منح الهيجونوت حرية العبادة في كل مكان بفرنسا، وحق اختبارهم لجميع المناصب، وسمح لهم بثماني مدن يكون لهم فيها كامل السلطة السياسية والعسكرية.
وصدمت هذه التنازلات الممنوحة لفريق ظن الناس أنه تحطم وانتهى معظم الكاثوليك الفرنسيين، لا سيما جماهير باريس الشديدة التمسك بعقيدتها. وكان كردينال اللورين قد اقترح عام 1562 »حلفاً مقدساً« يقسم أعضاؤه على الدفاع عن الكنيسة بكل وسيلة أياُ كانت، وبأي ثمن كائنا ما كان. ونظم هنري جيز مثل هذا الحلف في شميانيا عام 1568. ومن ثم ألفت الآن جماعات كهذه في كثير من الأقاليم. وفي عام 1576 أعلن الدوق جهاراً تأليف »الحلف المقدس« واستعد لنزال يسحق به الهيجونوت سحقاً.
ولا حاجة بنا لتتبع سير الحروب الدينية السادسة والسابعة والثامنة إلا


?
    صفحة رقم : 9914    

في تأثيرها على مجرى الأفكار في فرنسا. هنا دخلت الفلسفة ساحة الوغى مرة أخرى. ففي عام 1579 أصدر مؤلف غير معروف الاسم- ربما كان فليب دوبليسي- مورنيه- أحد مستشاري نافار-من بازل بياناً مثيراً سماه »دفاع (عن حقوق الشعب) ضد الطغاة«. كتبه باللاتينية، ولكن سرعان ما ترجم إلى اللغات القومية. وقد دام أثره قرناً كاملاً واستخدمه الهيجونوت في فرنسا، والهولنديون ضد فيلب، والبيورتان ضد تشارلز الأول، والوجز تبريرا لعزلهم جيمس الثاني. واتخذت النظرية القديمة، نظرية »العقد الاجتماعي« الضمني المبرم بين الشعب وحاكمه، شكلاً محدداً في هذا الكتاب، وسنشهدها مرة أخرى في هوبز، ولوك، وروسو. فالحكومة أولاً هي ميثاق بين الله، والشعب، والملك، لدعم »الدين الحق« والامتثال له-وهو البروتستنتية في هذه الحالة، وأي ملك يقصر في هذا يحل عزله-والحكومة ثانياً هي ميثاق بين الملك والشعب، الأول ليحكم بالعدل، والثاني ليطيع مسالماً. والملك والشعب على السواء خاضعان للقانون الطبيعي. أي قانون العقل والعدالة الطبيعية، الذي يمثل القانون الأدبي الإلهي، ويعلو على كل قانون »وضعي« (أي من صنع الإنسان). أما وظيفة الملك فصيانة القانون الوضعي والطبيعي والإلهي، فهو اداة القانون لا سيده. »والرعايا... بوصفهم هيئة، يجب اعتبارهم سادة المملكة وأصحابها المطلقين« ولكن من الذي يقرر أن الملك طاغية؟ لا الشعب في جمهوره، »ذلك الوحش الكثير الرؤوس«، بل ليقرر ذلك القضتة، أو مجلس كمجلس الطبقات الفرنسي مثلا. ولا يصح أن يتبع كل فرد خاص ضميره، فقد يحسب هواته ضميره، وهنا تأتي الفوضى، ولكن إذا دعاه القاضي للعصيان المسلح فعليه أن يلبي الدعوة. على أنه يحل قتل الطاغية بيد أي إنسان إذا كان مغتصباً(4).
واشتد صراع القوى والأفكار بعد أن مات دوق ألينسون (1584)


?
    صفحة رقم : 9915    


واعترف هنري الثالث بهنري نافار وريثاً افتراضياً للعرش. وكف الهيجونوت بين عشية وضحاها عن حديث الطغيان والعزل وأصبحوا المؤيدين المتحمسين للشرعية لما توقعوا من قرب انهيار ملك فالوا المتهافت وتسليمه فرنسا لرجلهم البروتستنتي البوريوني. وإذا القوم يعرضون عن كتاب »الدفاع« الذي كان بالأمس القريب بياناً هيجونوتياً، بل إن أوتمان ذاته صرح بأن مقاومة هنري نافار خطيئة(5). ولكن أكثر فرنسا كان يقشعر فرقاً من فكرة ملك هيجونوتي يتربع على عرشها. فكيف يمكن أن تمسح الكنيسة بالزيت المقدس بروتستنتياً في مدينة رامس؟ وهل يستطيع أحد يغير هذه المسحة أن يكون ملكاً شرعياً لفرنسا؟ أما رجال الاكليروس السنيون، يتزعمهم اليسوعيون المتحمسون، فقد نددوا بالوراثة وأهابوا بجميع الكاثوليك أن ينضموا إلى الحلف. وانضم إليه هنري الثالث بعد أن جرفه هذا التيار، وأمر جميع الهيجونوت بأن يعتنقوا الكثلكة أو يرحلوا عن فرنسا. وناشد هنري نافار أوربا أن تعترف بعدالة قضيته، ولكن البابا سيكستوس الخامس حرمه، وصرح بأنه لا يمكن أن يرث العرش لأنه زنديق سادر في زندقته. وهنا أعلن شارل، كردينال بوربون، نفسه وريثاً افتراضياً للعرش. وعاودت كاترين محاولتها في سبيل السلام، فعرضت أن تؤيد نافار إذا تخلى عن بروتستنتيته، ولكنه أبى، وامتشق الحسام على رأس جيش بعضه كاثوليكي، واستولى على ست مدن في ستة شهور، وهزم جيشاً للحلف يبلغ ضعف جيشه عند كوترا (1587).
وسيطر الهيجونوت الآن وهم لا يتجاوزون جزءاً على اثني عشر من السكان(6) على نصف مدن فرنسا الكبرى(7). ولكن باريس كانت قلب فرنسا وهي مع الحلف قلباً وقالباً. ولم يرض الحلف بالتأييد الفاتر الذي لقبه من هنري الثالث، فأقام في العاصمة حكومة ثورية تتألف من ممثلين للأحياء الستة عشر؛ وتفاوضت حكومة »الستة عشر«، مع أسبانيا لتغزو إنجلترا وفرنسا، وبيتت اعتقال الملك. وأرسل هنري في طلب حرس سويسري،


?
    صفحة رقم : 9916    

ودعت حكومة الستة عشر دوق جيز إلى تقلد السلطة في باريس، نعته الملك، ولكن الدوق وصل، وهتفت له الجماهير زعيماً لقضية الكثلكة في فرنسا. وفر هنري الثالث إلى شارتر وقد شعر بالهوان وتوعد بالانتقام. ثم فقد أعصابه مرة أخرى؛ فتبرأ من هنري نافار، وعين هنري جيز قائداً أعلى للجيوش الملكية، ودعا مجلس الطبقات للاجتماع في بلوا.
فلما اجتمع المندوبون لاحظ الملك في سخط مظاهر التكريم التي حظي بها جيز والتي تقرب مما يحظى به الملوك. وفي يوم تصميم مسعور أقنع بعض أعوانه بقتل الدوق. ودعا إلى لقاء خاص، وبينما النبيل الشاب يقترب من حجرة الملك طعنه تسعة من المهاجمين طعنات أودت بحياته، وفتح الملك الباب وتطلع في رضى يشوبه الانفعال إلى هدفه الذي تحقق (24 ديسمبر 1588). ثم أمر بسجن زعماء الحلف وقتل الكردينال جيز أخي الدوق. وفي فخر ورعب أنهى إلى أمه بطولاته التي ناب فيها عنه غيره، فعصرت يديها في يأس وقالت له »إنك خربت المملكة«.
ولم يمض اثنا عشر يوماً حتى ماتت في التاسعة والستين وقد أضنتها المسئوليات والهموم والدسائس، وربما تبكيت الضمير أيضاً. ولم يكن أحد من الناس يتوقف ليحزن على موتها. ودفنت في مقبرة عامة ببلوا، لأن حكومة الستة عشر أعلنت أنها ستلقى جثثها في السين إذا جئ بها إلى باريس. واتهم نصف فرنسا هنري الثالث بالقتل، وجاب الطلاب الشوارع مطالبين بعزله، اما لاهوتيو السوربون يؤيدهم البابا فقد أحلوا الشعب من ولائه للملك، ودعا القساوسة إلى المقاومة المسلحة له في كل مكان. وقبض على مؤيدي الملك، واحتشد الرجال والنساء داخل الكنائس مخافة أن يحسبوا من أنصار الملك. واعتنق مؤلفو كراريس الحلف الايديولوجية السياسية للهيجونوت، فأعلنوا أن الشعب صاحب السيادة، وله الحق في خلع الطاغية عن طريق البرلمان أو القضاة، وأي ملك في المستقبل ينبغي


?
    صفحة رقم : 9917    

أن يخضع للقيود الدستورية، وأن يكون واجبه الأول فرض الدين الحق- وهو الكاثوليكية في هذه الحالة(8).
أما هنري الثالث، الموجود الآن في تور مع بعض النبلاء والجنود، فقد وجد نفسه بين نارين. فجيش الحلف يزحف عليه من الشمال بقيادة دوق مايين، وجيش نافار يزحف من الجنوب فاتحاً المدينة تلو المدينة، إذن فإحدى القوتين قابضة عليه لا محالة. واغتنم هنري الهيجونوتي فرصته، فأوفد دوبليس- مورني ليعرض على الملك محالفته وحمايته وتأييده. والتقى الهنريان عند بليسي- لي- تور وتعاهدا بوفاء كل منهما لصاحبه (30 ابريل 1589). وهزم جيشاهما المتضافران مايين وزحفا على باريس.
وفي العاصمة المسعورة استمع راهب دومنيكي يدعى جاك كليمان في حماسة إلى ما تردد من اتهام لهنري الثالث بالاغتيال. وقد أكدوا له أن القيام بعمل عظيم في سبيل قضية مقدسة سيمحو كل تبعة عن أوزاره، وأثار ثائرته حزن كاترين دوقه مونبنسييه، شقيقة الأخوين القتيلين جيز، وحركة جمالها. فاشترى خنجراً، وتسلل إلى معسكر الملك، وطعنه في بطنه، فقتله الحراس، ومات واثقاً من ثواب الجنة. أما هنري فالوا فقد مات غداة طعنة (2 أغسطس 1589) وهو يتوسل إلى اتباعه أن يلزموا هنري نافار. وانتشرت الفوضى في جيش المحاصرين، وتبدد أكثره، وأجل الهجوم المقترح على باريس. أما في داخل الكنيسة فقد بلغت فرحة الحلف وتابعيه حد الهذيان. ووضعت بعض الكنائس صورة الراهب فوق مذبحها(9)، وهلل الأتقياء لاغتيال الملك باعتباره أنبل عمل في سبيل الله تم منذ تجسد المسيح(10). وأستدعيت أم كليمان من الريف، فوعظت في الكنائس، واحتفل القوم بها بترتيل ترنيمة مقدسة: »طوبى للبطن الذي حملك، وللثدي التي أرضعتك«(11).


    صفحة رقم : 9918    

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق