1423
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> العصر الذهبي للفن ال -> موريللو
5- موريللو
1617 - 1682
أتى على الناس حين، أيام شبابنا المؤمن، كانت في صورة موريللو "حمل العذراء غير المدنس" تتمتع بصيت ذائع كصورة رفائيل "سيستيني مادونا"؛ أما اليوم فما من إنسان مهما قل شأنه يؤدي لها حقها من الاحترام. ذلك أن اضمحلال الإيمان المسيحي في أوربا وأمريكا قد اقتطع نصف الجمال من صور حسبنا الجمال ملازماً لها. وموريللو ضحية من ضحايا هذه التعرية.
ولكن لنبدأ بتحية لألونسو. رجل عجيب- قسيس، ومبارز، ومصور، ونحات، ومعماري، ولد في غرناطة، وهاجر إلى إشبيلية ودرس التصوير (جنباً إلى جنب مع فيلاسكويز) على باتشيكو، والنحت على مونتانيس. صمم وحفر ورسم روافد للمذبح لكلية سان البرتو وكنيسة سانتا باولا، حيث نافس ثورباران بنجاح. وحفر لكنيسة لبريخا تماثيل دينية جذبت الطلاب من خارج البلاد ليعجبوا بها ويحاكوها. وقد اشتبك في مبارزة، وجرح غريمه جرحاً خطيراً، فهرب إلى مدريد، ونال حماية أوليفارس حين تشفع له عند فيلاسكويز، وبفضل رسومه في العاصمة
?
صفحة رقم : 9865
وقربها حصل على وظيفة بالبلاط. وفي عام 1644 وجدت زوجته قتيلة في فراشها، فاتهم خادمه، ولكن تهمة القتل وجهت إليه هو. ففر مرة أخرى من النجاح، واختبأ في دير قصي، ولكن مخبأه عرف، فقبض عليه وعذب، واحتمل كل الآلام دون أن يعترف بأنه المذنب، فأفرج عنه، وبدأ من جديد. وفي عام 1651، حين بلغ الخمسين، عاد إلى غرناطة، حيث أصبح قسيساً وكاهناً من كهان الكاتدرائية، وصنع لها تماثيل وصوراً ومقارئ وأبواباً بلغت كلها من الروعة ما يغتفر له معها غروره. ولما كلفه مراجع الحسابات الملكية في غرناطة بصنع تمثال للقديس أنطوني البادوي، أنجزه على نحو أرضى هذا الموظف، ولكنه مع ذلك ساومه على ثمنه. وطلب كانو مئة دوبلون (3.200 دولار؟). فسأله الموظف "كم يوماً استغرق منك صنعه" أجاب: "خمسة وعشرين" قال المحاسب، "فأنت تقدر جهدك إذن بأربعة دبلونات لليوم؟" أجاب "أنك لا تحسن الحساب"، فقد أنفقت خمسين سنة لأصنع تمثالا كهذا في خمسة وعشرين يوماً". قال "وأنا انفقت شبابي وميراثي في دراستي الجامعية، والآن أصبحت محاسب غرناطة، وهي مهنة أشرف بكثير من مهنتك، لا أكسب في اليوم غير دوبلون واحد" وصاح به المثال "تقول مهنتك أشرف من مهنتي! فأعلم أذن أن في قدرة الملك أن يصنع محاسبين من تراب الأرض، ولكن الله يحتفظ لنفسه بخلق فنان كألونسو كانو."، ثم هشم التمثال لفوره في سورة غضبه(37). وظن الناس حيناً أن محكمة التفتيش ستسجنه، ولكن فليب الرابع بسط عليه حمايته، ومضى كانو في رسم صور وحفر تماثيل- جلها ديني- حملت عشاق عبقريته المتعددة الجوانب على أن يلقبوه ميكل أنجيلو أسبانيا. وكان ينفق مكاسبه بالسرعة التي يحصل بها عليها، على وجوه البر عادة، وتقدمت به الأيام وهو في فقر اضطر هيئة الكاتدرائية لاعتماد معونة مالية له. وقد رفض وهو على فراش موته صليبا يمثل المسيح مصلوبا قدم إليه، لأنه سيئ الحفر.
?
صفحة رقم : 9866
أما برتولومي استيبان موريللو فرجل مختلف تماما- متواضع، دمث الخلق، تقي، معبود تلاميذه، ومحبوب منافسيه، ومعين للبر بالناس شهدت إشبيلية مولده عام 1617 وهي يومها قصبة الفن الأسباني، وكان آخر أربعة عشر طفلاً. ودرس التصوير على خوان دي كاستيللو، ولكن موت أبويه فقيرين وهو بعد في الرابعة عشرة اضطر الصبي اليتيم إلى كسب قوته برسم صور فجة سريعة لسوق أسبوعية. وإذ سمع أن فليب الرابع عطوف على الفنانين اتخذ سمته الى مدريد(؟) حيث صادقه فيلاسكويز- في رواية غير مؤكدة(38) وأسكنه منزله، وحصل له على إذن بدخول قاعات الفن الملكية، وشجعه على دراسة أعمال ريبيرا، وفان ديك، وفيلاسكويز.
على أننا نلقاه في إشبيلية ثانية عام 1645. ذلك أن دير فرانسيسكانيا بها عرض أجراً غير مغر نظير رسم سبع صور كبيرة، واحتقر الفنانون الراسخون هذا الأجر، ولكن موريللو رضى به، وأنتج أول روائعه "مطبخ الملائكة"(39)، وفيها يبدو الملائكة قادمين من السماء يحملون الطعام ويطهونه ويمدون الموائد ويطعمون الصالحين في مجاعة، ومع أن موريللو حاول أن يتأثر بالاسلوب الفحل الذي جرى عليه ريبيرا وثورباران، إلا انه روى القصة متأثراً بميله للعاطفة الرقيقة. هذه الصورة، هي وصورة "موت القديسة كلارا(40)" صنعتا شهرة الفنان، وأقبل نصف مثقفي إشبيلية ليعجبوا، ثم تكاثر عليه الطلب. وكان أكثر ما طلب إليه صوراً كنيسة، فتدفقت من ريشته صور العذراء، والعائلة المقدسة، والقديسين في وفرة موفقة، وأغنت الأساطير المسيحية بالجميل من النساء، والوسيم من الرجال، والظريف من الأطفال، وبالألوان الوردية والجو الصوفي حتى انعطفت نحوه أوربا لأنه أحب العارضين لأحب العقائد إلى نفوس الناس.
وإذ وجد موريللو رزقه على هذا النحو، فإنه غامر بالزواج وهو في
?
صفحة رقم : 9867
الثلاثين، وملأ بيته بضجيج تسعة أطفال وشجارهم وبهجتهم، وشقي من أجلهم راضياً حتى موته.ونقدته هيئة الكاتدراية عشرة آلاف ريال عن لوحته "القديس أنطوني البارودي" التي ما زالت معلقة هناك. وتؤكد لنا قصة يشتبه أنها صدى لأسطورة رويت عن زيوكس(41)، ولكنها طبعت قبل موت موريللو بأحد عشر عاماً، تقول إن الطيور التي طارت داخل الكاتدرائية حاولت أن تحط على الزنابق المرسومة في الصورة، وراحت تنقر الفاكهة(42).
ومع أن مواضيعه كانت جلها دينية، فإنه جعلها إنسانية أكثر منها كنسية. وإذا كانت أوربا الكاثوليكية الرومانية كلها قد أحبت النسخ الكثيرة التي أذاعها نقلاً عن لوحته "حمل العذراء غير المدنس"(43)" فما كان ذلك لمجرد أنها احتفلت بموضوع محبب جداً لأسبانيا ولذلك الجيل، بل لأنها توجت الأنوثة في سحابة من المثالية والقداسة. وقد استوحى الفنان نساء الأندلس الفاتنات ذوات الحس الجنسي المتواضع ليرسم صورة عذراء الصلوات(44( والعذراء الغجرية، وصورة "العائلة المقدسة والطائر" ذات الجمال الأسمر(45).
ومن رسم الأطفال خيراً منه؟ ان صورة "البشارة" المحفوظة بالبرادو تطالعنا فيها صبية دخلت سن المراهقة، فيها خفر ورقة، آية الحياة ذاتها. وقد وجد موريللو نماذج للأشكال الكثيرة التي صور بها المسيح طفلاً في الأطفال الحسان الوجوه الذين أحاطوا به في بيته وشارعه، ولعله استمتع بهم هم أكثر من استمتاعه بالموضوع المقرر، ورسمهم في صورة لا تقل فتنة عن أي صور للأطفال رسمت أيام النهضة الإيطالية. وكان إذا عجز عن حشر الأطفال في لوحاته الدينية يرسمهم فرادي. وفي "بيت الفن" بميونيح حائط حافل بهم: صبيان يرمون النرد، وغلمان يأكلون الشمام لأنه طريقة محتملة لغسل وجوههم، وصبي يمضغ الخبز بينما تفلي أمه شعره. وصورة "الصبي المطل من نافذة(47)" تبين بوضوح
?
صفحة رقم : 9868
أن المال والسعادة تشاجرا وافترقا، فليكن إذن "الصبي ذا الكلب(48)" والعالم سبيله إلى الرزق. وفي صورة "الغلام المتسول" المحفوظة باللوفر يستأذن الفنان المثالي القوى العليا، وينظر إلى الحياة على الأرض، ويجدها جميلة حتى ولو لبست أسمالاً بالية. ان موريللو في واقعيته يحتفظ بمثاليته.
وعاش- كما رسم- دون مأساة، إلا في ختام عمره. ذلك أنه تسلق سقالة لينجز صورة في كنيسة بقادس، فزلت قدمه وسقط فانكسر كسراً خطيراً أصاب دمه بالتسمم، وما لبث ابن الأندلس جميعها، الأثير لديها، أن مات (1682)، وكان موته مفاجئاً حتى أنه لم يستطع إتمام وصيته وخط فوق قبره ما أوصى به، وهو اسمه، وهيكل عظمي، وكلمتان "فيفي موريتوروس"- أي عش كأنك تموت وشيكاً.
وظلت مكانته طوال قرنين عالية عند أولئك الذين تهمهم ما تقوله الصورة أكثر مما تهمهم الكيفية التي تقولها به. وقد أذاع قواد نابليون صيته بسرقتهم صوره وبيعها غنيمة حلالاً. وأكثر النساخ غير الأكفاء من نقل لوحاته فشككوا النقد في فنه. كان على علم بتقنية صناعته، ولكن ضيق من رقعته كثيراً ذلك التوفيق الذي أصابه مع الكنيسة؛ وقد غالى في الاستسلام لجانب الحياة الأنثوي العاطفي، فما بدأ جميلاً أصبح بالتكرار الثابت مجرد شئ لطيف على نحو لا يؤثر في نفس الناظر. وكان قديسوه يتطلعون إلى السماء في إصرار كثير أنسى أوربا هذا الفنان حين انصرفت عن السماء. ولهذا السبب نفسه أغفلت النظر إلى التصوير الأسباني عامة بعد سنة 1680. وبينما كانت أوربا تتجادل حول المسيحية، ظلت إسبانيا متشبئة بتراثها الوسيط، فلم يلفت فنها أنظار العالم ثانية إلا عند مجىء جويا.
وإبان حياة موريللة قضت على القرن الذهبي للفن عشرات العوامل الفتاكة. وكان الذهب ذاته، والبحث عنه في الأقطار الأجنبية، بعض هذه العوامل: ذلك أن شباب إسبانيا وعنفوانها تحررا من سجن شبه الجزيرة ليكشفا الأمريكيتين ويستغلاهما، والذهب الذي أرسلاه إليها أفسد
?
صفحة رقم : 9869
الحياة الأسبانية، وشجع التكاسل، ورفع الأسعار، أو وقع غنيمة للسفن الهولندية أو الجنوية التي تحمل التجارة الأسبانية. واختزنت الحكومة المعادن النفيسة، وغشت العملة، وطردت المغاربة المنتجين، واستكثرت من الوظائف وباعتها، وفرضت الضرائب على كل شئ إلى حد اللامبالاة الاقتصادية، وبعثرت الثورة في الحملات الحربية ومظاهر البذخ في البلاط بينما الصناعة تذبل، والبطالة تنتشر، والتجارة تذوي، والسكان يتقلصون، والمدن تخرب. وفقدت الحكومة ذات الطابع الارستقراطي الضيق كل كرامة، فوضعت صناديق التبرعات في الشوارع، والتمست المال من بيت إلى بيت لتمول عجزها في الداخل وهزائمها في الخارج(49). أما الجيوش الأسبانية المرابطة في صقلية ونابلي وميلان، الشافة طريقها في غابات العالم الجديد وبراريه، المضنية نفسها في حرب الثلاثين، الخائضة حرباً خاسرة لقهر عناد ثوار الأراضي المنخفضة وإصرارهم الذي لا يصدق- هذه الجيوش استنزفت الموارد البشرية والمادية لدولة صغيرة جبلية نصف صحراوية، تحبسها حدودها في بحر يسيطر عليه منافسوها التجاريون وأعداؤها البحريون. ولم يبق غير الأديرة والكنائس، متشبثة بأملاكها الشاسعة، اللاصقة بها، المعفاة من الضرائب، مستكثرة من الرهبان في حياة عاطلة غالية الثمن. وبينما كان الدين يسترضي الفقر بصكوك على الجنة، ويخنق الفكر، ويدعو إسبانيا للعيش على ماضيها، أجزلت فرنسا وإنجلترا مكافأة الصناعة، واستولتا على التجارة، ودخلنا رحاب المستقبل. أن التلاؤم مع البيئة المتغيرة هو لب الحياة، وهو أيضاً ثمنها.
صفحة رقم : 9870
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق