1420
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> العصر الذهبي للفن ال -> إلجريكو
2- إلجريكو
1548؟ - 1614
كان في كريت مسقط رأسه يسمي نفسه كرياكوس ثيوتوكوبولس- أي الابن الإلهي للرب، وفي إيطاليا سمي دومنيكو تيوكوبولو؛ وفي أسبانيا دومنجو تيوتوكوبولي، وكان يوقع بالحروف اليونانية دومنيكوس تيوتوكوبولس، واختزل الزمن اسمه إلى الجريكو، وهو الكنية التي اشتهر بها في اسبانيا. ولا نعرف شيئاً عن حياته في كريت. ولعل أجداده هاجروا إليها من القسطنطينية بعد ان فتح المسلمون هذه المدينة اليونانية (1453)؛ على أية حال كان يستطيع في كريت، كما استطاع في البندقية بعد ذلك، أن يشعر بتأثير الفسيفساء البيزنطية الصارم. وكانت كريت في حياته ملكاً للبندقية، لا عجب إذن أن يستقل الفنان الصغير السفينة إلى مدينة البحيرات، تجيش في صدره الآمال بعد ما سمع عن بلوغ التصوير أوجه فيها، وأغلب الظن أنه انضم إلى الجالية اليونانية الكبيرة في تلك العاصمة العالمية.
?
صفحة رقم : 9842
ودرس على يد تتسيانو عامين أو اكثر، وأعجب بفن تنتوريتو في جمعه الوجوه في صور مزحومة، وربما سرى إليه فيرونيزي بالثياب الفاخرة البهية. وقد نسخ الصور الشهيرة بتواضع صابر في البندقية وريدجواميليا، وبارما، وفلورنسة، ووصل إلى روما عقب وفاة ميكل أنجيلو (1564).
وأول ذكر محدد لدينا عنه ورد في خطاب كتبه جوليو كلوفيو إلى الكردينال أليساندرو فارنيزي في 16 نوفمبر 1570 يقول فيه:
"وفد على روما شاب من كانديا، تلميذ لتتسيانو، ومصور ذو موهبة نادرة في ظني... وقد رسم لنفسه صورة أطرها كل المصورين في روما. وبودي لو شملتموه سيادتكم بالرعاية، دون أي اسهام في رزقه سوى اعطاءه حجرة في قصر فارنيزي"(7).
وقبل الكردينال، وكافأ إلجريكو كلوفيو بلوحة رائعة(8). وحين كثر اللغط حول العرايا في لوحة ميكل أنجلو "الدينونة الأخيرة" عرض دومنيكو أن يرسم بدلا منها- إذا رفعت- لوحة أخرى لا تقل عنها إتقانا وتمتاز بتغطية الأجسام على نحو أفضل(9)، فسقط في أعين فناني روما. وأخبره بعض الأحبار الأسبان في روما أن فليب الثاني يبحث عن مصورين لتزيين الاسكوريال. فرحل إلى أسبانيا عام 1572 بعد ان نفض عن قدميه غبار روما، ولكنه استبقى على فرشاته بعض انحرافات "اللازمية" الإيطالية.
وليس لدينا بعد ذلك عنه ذكر حتى عام 1575، حين نجده يصمم ويزين كنيسة "سانتو دومنجو الأنتيجيو" في طليطلة، العاصمة الدينية لأسبانيا. فرسم لمذبحها لوحة "صعود العذراء" الفخمة التي تحتل اليوم مكانا بارزاً في معهد الفن بشيكاغو- وهي تحذو في نواح منها حذو لوحة تتسيانو "الصعود" بالفراري في البندقية، وتلتزم الأجساد الفتية المفعمة شباباً والرؤوس الهرمة الجليلة التي درج عليها الأسلوب الإيطالي في
?
صفحة رقم : 9843
التصوير. وفي عام 1577 رسم لكاتدرائية طليطلة لوح مشهورة سماها "تقسيم أثواب المسيح" وأخذت لجنة شكلت للحكم على الصورة عليها أن سترة يسوع فاقعة الحمرة، وإن النساء اللاتي يرين في أسفل اليسار- المريمات الثلاثة- لا محل لهن هناك، لأن الأناجيل ذكرت أنهن كن ينظرن من بعيد، ومع ذلك أعلن القضاة حكمهم المتنبئ بأن الصورة "لا تقدر بثمن وأنها عظيمة القيمة(10) " وكانت احدى المريمات منقولة عن خليلة المصور، واسمها الدونا خيرونيما دلاس كيفاس، التي يظهر وجهها الحزين اللطيف في معظم عذارى إلجريكو. وهو لم يتزوجها قط برغم وفائه لها وولائه للكنيسة، ولم تكن هذه عادة أسبانية قديمة بل عادة تقدست طويلاً في مراسم الفنانين.
ووصف كاتب من الجيل التالي، يدعى خوزيه مارتينيث، دومنيكو بأنه أصبح الآن على ثقة من الخلود، قال:
"لقد استقر... في طليطلة، وأدخل أسلوباً شديد الإسراف بحيث لم ير إلا اليوم له نظير، ومحاولة البحث فيه تشوش أسلم العقول... وقد صرح بأن فنه لا يعلو عليه فن... وكان في طبيعته من الغلو مثل ما في فنه... كان يقول إنه ما من ثمن يمكن أن يوفي رسومه حقها، لذلك كان يرتهنها عند أصحابها، الذين يقرضونه عنها ما شاء عن طيب خاطر. وكان معماريا ذائع الصيت، عظيم البلاغة في أحاديثه، أما تلاميذه فقلائل، لأن أحدا لم يشأ ان يأخذ بأسلوبه المسرف المتقلب الذي لا يصلح إلا له"(11).
وحوالي عام 1580 أرسل فليب الثاني في طلب إلجريكو ووكل إليه رسم لوحة "القديس موريس والفيلق الطيبي" وبعد جهد سنوات أربع قدم الفنان ثمرة تعبه للملك. غير أن فليب وجد تجميع الأشخاص شديد الاختلاط، فدفع ثمن اللوحة ولكنه لم يقبلها، وعاد إلجريكو محزوناً إلى طليطية، ولم يبرحها بعد ذلك قط فيما نعلم .. وكان ذلك خيراً له، لأنه أصبح حراً في أن يعود إلى طبيعته الصوفية.
?
صفحة رقم : 9844
ثم رسم لكنيسة القديس توما (1586) أشهر صوره إطلاقاً، وكأنه كان بذلك يثأر لنفسه، وهي إحدى ذرى فن التصوير، وقد اشترط العقد أن يبدي فيها الكهنة يحيون تقليداً يزعم أن القديسين هبطوا من السماء ليدفنوا الدوق جونزالو رويز، كونت أورجاز، وأن يمثل القديسان اسطفانوس وأوغسطين (في أثواب الأساقفة) وهما ينزلان الجثمان إلى قبره وسط جمع جليل من وجوه القوم، وفوق هذه الوجوه تبدي السماء المفتوحة ابن الله في مجده وبهائه. كل هذا فعله بحذافيره وأكثر منه، فكل رأس تقريباً لوحة كاملة الصقل، والأرواب معجزة من الذهب والخضرة والبياض، والدرع الدمشقي الحلية الذي يلبسه الكونت يتلألأ ضياء، رد على ذلك أن الجريكو نفسه يرى من خلف القديس اسطيفانوس. أما آية هذه الآية فرأس أوغسطين بقلنسوه ولحيته، أم لعلنا نؤثر عليه الجثمان الجميل؟ أم وجه القديس اسطيفانوس الحلو ؟ أم الكاهن الأصلع يتلو صلاة الدفن؟ أم خورجي مانويل، بن الجريكو ذا الثمانية الأعوام ممسكاً في فخر مشعلاً ومبرزاً من جيبه منديلاً ليظهر توقيع الجريكو؟ وفي كتاب فرانسسكو دي بيزا "تاريخ طليطلة" (1612) نقرأ ما كان ينبغي أن نحرزه: "إن لوحة (دفن الكونت أورجنز) هذه من أبدع الصور في إسبانيا بأسرها. والناس يؤمونها من كل بلد غريب ليعجبوا بها إعجاباً خاصاً، وأهل طليطلة لا يملونها، بل يجدون فيها على الدوام جديداً يتطلعون إليه. وفيها يرى الكثير من مشاهير الرجال في عصرنا مصورين تصويراً واقعياً(12)." ومع ذلك كله راح مجلس الأبرشية يساوم على أتعابها، فرفع اليوناني الحاكي الطبع الأمر إلى القضاء، وكسب دعواه، وتسلم ألفي كراون.
إنه الآن لا يشكو قلة الطلب على رسومه، فلقد وجد نفسه، ولم يعد يفكر في تتسيانو ولا تنتوريو، وقد استطاع أن يجري تجاربه في إطالة الأشكال، لا لأنه يعاني من قصور في البصر، بل لأنه
?
صفحة رقم : 9845
في أغلب الظن شعر بأنه بهذه الطريقة قد يرمز إلى التسامي الروحي لأشكاله- أجسام تمددها نفوس تشرأب إلى السماء. وفي لوحتي القديس أندراوس والقديس فرانسيس المحفوظتين بالبرادو يبدو هذا النحول غير مفهوم ما لم نأخذ هذه الرمزية في الاعتبار. ونتذكر التماثيل القوطية التي ترفق مراعاة للقيود المعمارية. على أن هذا كله يغتفر للفنان حين نصل إلى لوحته "القديس اليفونسو" التي رسمها لمستشفى الكاريداد باليسكاس، فهنا، في الروح الوقور الذي خلعه على رئيس الأساقفة الوسيط، وفي عقله المستغرق، ووجهه المتقشف، وشعره الأبيض الناحل، ويديه الرقيقتين- هنا تصور من أعمق تصورات الجريكو. "هذه الصورة وحدها تكفي جزاء وعوضاً عن الرحلة إلى إسبانيا"(13).
ولا يدلنا القليل الذي نعلمه عن حياة الجريكو على أنه كان متديناً على الطريقة الأسبانية، ويبدو أنه كان يميل إلى اللذة لا إلى الورع. فحين رسم لوحة "العائلة المقدسة" لمستشفى تافيرا خلع على العذراء جمال الجسد لا وفاء الأم. أما لوحة "الصلب" ففيها علم واسع بالتشريح، ولكنها باردة في العاطفة، وقد أحس جرونيفالد بمأساة الصلب تلك احساساً أعمق بكثير. ففي صوره الدينية لا يتجلى الجريكو إلا في اللوحات العارضة- كما نرى صورته هو بلحيته البيضاء ورأسه الاصلع في "يوم الخمسين". ولم يجد مشقة، في بلد يعج برجال الدين، في العثور على شخصيات قوية يصورها، كصديقه بارافيثينو الثالوثي (بوسطن) بوجهه نصف العالم ونصف عضو محكمة التفتيش، أو رئيس المحكمة نفسه، الكردينال نينودي جيفارا (نيويورك)- وصورته لا ترقى إلى صورة فيلاسكويز التي رسمها لإنوسنت العاشر. وقد تجاوزها الجريكو ذاته في لوحة "كردينال تافيرا" الذي نرى في وجه المضني- وكله عظام وعيون حزينة - تعبيراً آخر عن تصور الفنان لتكريس الكاهن نفسه لخدمة الدين. ولكن خير اللوحات كلها لوحات الأخوين كوفاروبيا: فواحد- وهو انطونيو- علماني،
?
صفحة رقم : 9846
أشيب، متحرر من الوهم، مرهق، صفوح، والآخر- دييجو - في ثوب الكاهن، ولكنه يبدو أشد إقبالاً على الدنيا، وأكثر مرحاً، وحسن التكيف مع محيطه. ولا يفوق هذه الدراسات العميقة سوى بعض لوحات رمبرانت وتتسيانو، ولوحة رفائيل "يوليوس الثاني".
وهي بعض الذخائر التي يضمها متحف كازا ديلجريكو في طليطلة. وفيه أيضاً "تصميم مدينة طليطلة"، وهو يشرف هنا على المدينة كلها وعلى التلال التي تكتنفها وكأنه يطل عليها من سحابة. وقد صورها مرة أخرى في أخريات عمره في لوحة "منظر طليطلة" ومن فوقها سماء عاصفة (نيويورك) - صورة تأثرية تزدري الدقة الواقعية كل الازدراء. وحين أقبل عام 1600، كان "اليوناني" قد أصبح من أشهر مواطني المدينة، يعرفه الجميع بروحه المتقلبة المتكبرة، صوفيا يستطيب بالمال، ويشغل أربعاً وعشرين حجرة في قصر عتيق، يستأجر الموسيقيين ليعزفوا له خلال تناوله الطعام، ويجمع من خوله مثقفي طليطلة، ويكرمه الناس بوصفه "فيلسوفا كبيرا".(14) وحوالي عام 1605 رسم صورة يفترض أنها صورته الذاتية (نيويورك) - أصلع، أشيب، يكاد يكون أعجف. وفي عام 1611 وجده باتشيكو في حال من الهزال أعجزته عن المشي. ولم يستطيع دفع ديونه وإن احتفظ بغرفه الأربع والعشرين، وقرر له مجلس المدينة مبالغ كبيرة غير مرة. ومات عام 1614 وهو في الثالثة والسبعين.
أما مقامه في دنيا الفن فمغامرة تالية لموته. كتب عنه جونجورا سونيتة مديح، وأقر فيلاسكويز بعبقريته، ولكن فنه الغريب لم يوح بأي محاكاة له ولم يؤسس أي مدرسة. ولم تأت سنة 1650 حتى تاه أمام بهاء شهرة فيلاسكويز، وطواه النسيان تقريبا مدى قرنين، ثم اكتشفه دلا كروا من جديد، واحتذى ديجا ومانيه وسيزان طريقته في التعبير عن الحالات النفسية، ورأى فان جوخ وجوجان فيه سلفاً لهما. وفي عام 1907 رفعت "الرحلة الاسبانية" التي كتبها "يوليوس
صفحة رقم : 9847
مايير جريقي" الجريكو فوق فيلاسكويز إلى أعلى ذرى التصوير الأسباني. على أن هذه الذبذبات في الشهرة قلقة لا ثبات لها لأنها عرضة لـ "تقلبات الذوق الجامحة"(15). ولكن الجريكو سيظل قروناً طوالاً المثال الحافز للفنان الذي جاوز الأشياء إلى الأفكار والمشاعر؛ وجاوز الأجساد إلى الأرواح.
صفحة رقم : 9848
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق