1419
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> العصر الذهبي للفن ال -> الفن واحد وألوانه أل
الفصل الثاني عشر
العصر الذهبي للفن الأسباني
1556 - 1682
1- الفن واحد، وألوانه ألف
ترى كيف تفسر هذه الظاهرة، وهي أن اسبانيا استطاعت في هذه الحقبة- بعد أن انتزعت منها إنجلترا السيادة على البحر وفرنسا السيادة على البر، وبعد أن بدأ أن كل مشروعاتها المادية قد أصابها الفشل والافلاس- أن تبني كاتدرائية سيجوفيا (سقوبية) وتوجه نحت هونانديث زمزنتانيس، وتلهم تصوير الجريكو، وثورباران، وفيلاسكويز، وموريللو؟ الآن الكنيسة الأسبانية ما زالت غنية، والبلاط الأسباني ما زال مسرفا، والذهب الأمريكي ما زال يدخل اشبيلية، والفنانين الأسبان الذين يغذيهم الإيمان والمال ما زالوا يحسون وهج مجد لم ينطفئ كله بعد؟
كان اقل البهاء في العمارة، ففيها اشبعت انتصارات الماضي كل حاجات الاتقياء. وفي أشبيلية أعلنت الكنيسة نصرها على المغاربة بتتويجها مئذنة جامع للمسلمين ببرج مسيحي أكمل بناء الجيرالدا (1567)، وبعد سنة توج بارتولومي موريل البناء كله بتمثال "الإيمان" الذي يزن طنا، ومع ذلك ففي توازنه من الخفة ما يتيح له الحركة مع كل هبة ريح ليشرف على ملكه المبجل. وفي بلد الوليد بدأ خوان دي هيريرا، معماري الاسكوريال،
?
صفحة رقم : 9837
عام 1585 بناء كاتدرائية "الصعود" الصارمة، على نطاق مفرط في السعة حتى انها ما زالت بغير أثاث. وفوق تل يشرف على سيجوفيا بدأ قرنان من المعماريين والحرفيين عام 1522 الكاتدرائية الضخمة التي ترمز في كبرياء إلى ورع أسبانيا العارم الذي لا يتزعزع، وفي سلامنكا صمم خوان جوميت دي مورا، "السيميناريو كونثيليار" الضخم لليسوعيين بالطراز الدوري البالاديوي مضافا إليه القبة.
ولكن حتى أسبانيا كانت تتجه إلى فن دنيوي، وكانت القصور كما كانت الكنائس تتطلب الفن. ففي أرانخويث بني فليب الثاني (1575) مصيفاً يلوذ بحدائقه اللطيفة الجو من قيظ الاسكوريال ووقاره. وأضاف فليب الثالث قصر الباردو منتجعاً له ولأصحابه، وبهو السفراء المحلى بالزخارف في هذا القصر مشهور بما حوى من ثريات. أما فليب الرابع وأوليفاريس فكادا يسبقان فرساي ببناء حديقة لهو عند بوابة مدريد الشرقية تدعى "بوين ريتيرو" (المنتجع الطيب) (1631- 33). وفي مسرحها الملكي مثلت مسرحيات كثيرة للوبي وكالديرون. وشيدت في هذه الفترة قاعات مدن فخمة بليون واستورجا، وصمم الجريكو قاعة منها بطليطلة.
أما النحت فكاد يكون كله كنسيا في الشكل والمزاج. لقد عدل الطراز القوطي بفعل التأثير الإيطالي والزخرف الباروكي. ولكن التمثال النصفي الذي لقي اقبالا شديدا في إيطاليا أعرض عنه الناس في أسبانيا بتحريم يرقب من تحريم المسلمين للتماثيل. وساهم المصورون- حتى أساطينهم من أمثال ثورباران وموريللو- بفنهم ليجعلوا النحت يقر في نفوس العابدين الواقعية التي صوروها في تماثيل المسيح المصلوب والقديسين المستشهدين. وكانت كل التماثيل تقريبا من الخشب المتعدد الألوان. وفي راي السير وليم ستيرلنج- ماكسويل، العلامة الاسكتلندي الذي ولع بالفن الأسباني وأرخ له بحولياته، أن خوان دي خوني "افضل المثالين الأسبان"(1)
?
صفحة رقم : 9838
وقد أذاع اسم خوان مذبح اقامه في كنيسة "سيدتنا عذراء أنتيجوا" في بلد الوليد، وتمثال في كنيسة أخرى هناك سماه "الأم المتألمة" اعتز به الناس اعتزازاً حدا بهم في عمق إيمانهم الحزين إلى التماس السماح لهم بإلباس التماثيل ثياباً غالية. وهناك مثل آخر تضعه أسبانيا في صف يعلو حتى عن مقام خوان، وهو جريجوريو هرنانديث، هذا أيضاً نحت تمثالا آخر للأم المتألمة، وفي واقعية اختص بها رسم على ثوبها بقع دم ووضع دموعاً من زجاج في وجهها، ولعل تمثال هذه الأم الحزينة، والمسيح الميت مسجى على حجرها، هو أسمى ما بلغه فن النحت الأسباني في هذا العهد.
واعظم هؤلاء المثالين خوان مارتينيث مونتانيس. ولم يكن يجاوز الثامنة عشرة يوم وفد هو وزوجته (1582) على دير "دولتي نومبري دي خيسوس" في إشبيلية، وأهداه تمثالا للعذراء، وعرفانا بصنيعه كوفئ بسكن مجاني مدى الحياة. وقد سر اليسوعيين بتماثيل نحتها لأغناطيوس وزافير، وأبهج الرهبان الهيرونيمين بتمثال للقديس جيروم. وما زالت كاتدرائية أشبيلية تعرض تمثاله للمسيح المصلوب، الذي قال فيه أحد المؤرخين أنه ربما كان أسمى تشخيص للضحية الإلهية(2) "وحين فرض البابا بولس على جميع الكاثوليك الإيمان بعقيدة "الحمل غير المدنس"، سعدت إسبانيا جداً بهذا القرار لأنها- كفرنسا- كانت تركز تقواها على العذراء. وارتفع مونتانيس إلى متطلبات الموقف، فنحت رائعته (المحفوظة بكاتدرائية اشبيلية)- وهي تمثل "الأم الإله" الفتية تتأمل سر خلوها من الخطيئة الأصلية؛ هذا التمثال أيضاً عد من آيات النحت العالمي(3)، ولكن العذراء الأندلسية تبدو شديدة الهدوء والرضى، وأن أثقلتها كثرة الملابس.
ولو توخينا الإنصاف برغم الإيجاز، لقلنا أن صورة الفن الأسباني لا بد ان تعدد مفاخره الصغيرة وتحتفل بها: هذه المشبكات والأستار
?
صفحة رقم : 9839
والبوابات من الحديد أو البرونز، والمحفورات الخشبية على كثير من حواجز المذبح في الكنائس، ومقاعد المرتلين كتلك التي نقشها بيدرو دي مينا لكاتدرائية ملقا، والمصابيح، والصلبان والكئوس، والعلب، والمظال المشغولة بالفضة أو الذهب، كصناديق خوان دي أرفي العالمية الشهرة،؛ ثم التماثيل الصغيرة من الخشب أو العاج او المرمر أو البرونز، والمطرزات والموشيات التي إزدانت بها مذابح الكنائس وتجملت بها النساء، وزجاج برشلونة المغشى بالمينا، وآنية تلافيرا (طلبيرة) من الصفيح المزجج.
كادت الكنيسة قبل مجيء فيلاسكويز أن تكون الراعي والحكم الأوحد في التصوير. وكان من آثار الأحاسيس القاتمة التي اصطبغ بها اللاهوت والورع الأسبانيان، والتي ربما كانت إنعكاساً لصخور الإقليم الكئيبة وقيظه المحرق، انها لم تسمح إلا بالقليل من الفكاهة أو الخفة أو التأنق في علاج الموضوعات، وأنها حرمت تصوير العرايا، وأعرضت عن تصوير الأشخاص ومناظر الطبيعة، وشجعت ضرباً من الواقعية الجافية التي اتكأت على جوانب الإيمان المخيفة أكثر من جوانبه المعزية، فعلى الصور أن تقر العقيدة وتؤججها في النفس بالخيال الملتهب والصرامة الديرية. وانتهى الأمر بأن المصورين أنفسهم رأوا الرؤى وادعوا الوحي الإلهي. وقد نافس فليب الثاني الكنيسة في رعاية المصورين، ولكن موضوعات التصوير ظلت دينية. وحين كلفهم النبلاء برسم صور كانوا عادة يتبعون القاعدة نفسها، ولم يبدأ توجيه التصوير وجهة دنيوية إلا بفيلاسكويز وفليب الرابع. ودخلت بعض المؤثرات الأجنبية لتعدل من هذا التأثير الكنسي. مثال ذلك أن كاردوتشي وتسوكارو ونحو ثمانية عشر فنانا إيطاليا آخرين طمعوا الفن الأسباني بطابع أرق، وقدم انطونيس مور من فلاندر عام 1572 وتأثر الرسامون الأسبان الذين زاروا الأراضي المنخفضة بروح فانديك، كذلك ناشد روبنز، الممتلئ حيوية ومرحاً، الفنانين الأسبان حين اكتسح مدريد عام 1603، أن ينظروا إلى الحياة لا إلى الموت.
صفحة رقم : 9840
وفضلا عن أئمة الفنانين الأربعة الذين هيمنوا على التصوير الأسباني في هذا العصر كان هناك كثير غيرهم أقل نبوغاً، كألونسو سانتشيت كوثيللو الذي رسم بالأسلوب الفلمنكي لوحات لابن فليب الثاني الصغير دون كارلوس وابنته إيزابل، وتلميذ كوئيللو خوان بانتوخا دلا كروث، الذي ترك لنا صورة قاتمة لفليب الثاني(4)، وأخرى قوية للقديس أوغسطين، وفرانسسكودي ريبالتا الذي يظهر أسلوبه "القاتم" أسلوب الضوء تحيط به الظلمة، وفي لوحة "القديس فرنسيس يعزيه ملاك"، وفرانسسكو باتشيكو الذي علم فيلاسكويز، وزوجه إبنته، وشرح مبادئ التصوير الأسباني في كتابه "فن التصوير" (1549)، كتب يقول "إن أكبر هدف للفن أن يعزي الناس بالتقوى ويعطف قلوبهم نحو الله(5)" لأنها "تخطيطات تحضيرية(6)" فلننظر الآن في هذا الحكم.
صفحة رقم : 9841
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق