1416
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> العصر الذهبي للأدب ا -> الشعراء
3- الشعراء
إن رنين اللغة القشتالية الفحل، مثله مثل جمال الإيطالية التسكانية الرخيم، أسلم نفسه مختاراً للموسيقى والقافية، واستجابت روح الشعب للشعر بطبعها أكثر من استجابتها للنثر. وكثر الشعراء كثرة القساوسة. وفي قصيدته غار أبوللو (1630) وصف لوبي دي فيجا مهرجانا للشعر وتنافسا عليه اقتتل فيه، في خياله. شعراء أسبانيا المعاصرة الثلاثمائة على اكليل الغار. وكاد إقبال الشعب على هذه المباريات الشعرية يعدل إقباله على حرق المهرطقين. كانت هناك قصائد تعليمية منومة، وعظات دينية بالشعر، وروايات غرامية منظومة، وشعر رعوي، وشعر ساخر من البطولة، وقصائد قصصية، وشعر غنائي، وملاحم. ولم يؤت كل المؤلفين شجاعة فرانسسكو دي فيجوبروا، الذي حكم على أشعاره بالحرق لما فيها من هرطقات.
أما أروع الملاحم فملحمة »لاأروكانا« (1569-89)، التي تصف
?
صفحة رقم : 9820
ثورة قبيلة هندية في امريكا الجنوبية، كتبها الونسو دي ارسيللا إي زونيجا الذي أبلى بلاءً حسناً في تلك الحرب وهو جندي أسباني. وربما كان أبدع الشعراء الغنائئين راهباً أوغسطينياً اسمه لويس بونسي دي لوين، لم يمنعه بعض الدم اليهودي الذي اختلط بدم اسلافه من تصوير أرق جوانب التقوى المسيحية، وأعجب منذ لك جمعه بين الشاعر واللاهوتي، ففي سنته الرابعة والثلاثين عين أستاذا للإلاهيات في جامعة سلامانكا، وما برح طوال حياته متعلقاً بهذه الجامعة، ومع ذلك لم تمنعه جهوده الدراسية وحياة النسك من التحليق في أجواء الشعر الغنائي. ودعته محكمة التفتيش لتحاكمه (1572) على ترجمة نشيد الإنشاد إلى شكل من اشكال الحوار الرعوي. واحتمل عذاب السجن خمس سنين، فلما أفرج عنه استأنف محاضراته في الجامعة بهذه الكلمات الساخرة »لاحظنا في آخر لقاء لنا...(35)« وقد وافق رؤساءه على أن قرض الشعر لا يليق برجل اللاهوت، فترك قصائده دون نشر، ولم تصل إلى المطبعة إلا بعد موته بأربعين سنة. وهي بالاجماع أقرب إنتاج اللغة القشتالية إلى الكمال.
وكان لويس دي جونجرا وفرانسسكو جومز دي كويفيدو أي فيلليجاس لا يزالان يفوقانه شهرة لأنهما أثارا الضجيج بالجدل كما أثاراه بالشعر، وخلفا بعدهما مردستين متفائلتين هما الجونجورية والكونسبتية، باعتبارهما فلسفتين من فلسفات الأسلوب. وقال سرفانتس-الذي لم يبخل بكلمة ثناء على كل منافسيه فيما عدا لوبي وأفيللانيدا- في وصف جونجورا إنه »عبقري نادر، مثير، لا ثاني له(36)« وفي هذا المقطع من قصيدة الشاعر القصصية »إلى الأرمادا« نلتقط صدى بعيدا لصيحة الكراهية والحقد:-
»إيه أيتها الجزيرة!
كنت يوماً وفية للكثلكة، قوية البأس،
حصناً للإيمان انقلب هيكلا بغيضا للهرطقة،
كنت معسكراً للحرب المدربة، ومدرسة للحكمة المقدسة،
?
صفحة رقم : 9821
أتى عليك زمن كان فيه هذا الجلال جلالك
وتغنى الشعراء أول ما تغنوا ببيرق تاجك،
أما الآن فالأعشاب الكئيبة التي تبنت عند بركة الجحيم
تصلح أكليلاً لك. يا وطن الكمأة
من كل أرثر، وإدور، وهنري! أين هم اليوم منك؟
أين أمهم التي سعدت يوماً ببأسهم
وثبتت في قوة الإيمان؟ إيه يا جزيرة المرأة
التي تحكمك الآن، لقد قضى عليك بالعار الأبدي
أيتها الملكة البغيضة يا قاسية القلب عابسة الجبين
أيتها الفاجرة الصارمة الشرسة الداعرة،
يا امرأة تربعت على العرش، يا لعنة الفضيلة الصادقة
يا شبيهة الذئبة في كل طباعها،
لتمطر السماء على ضفائرك الكاذبة لهيبها العادل(37)
هنا قلم جدير بالتودد له. لا عجب إذن أن جعل فليب الرابع هذا الشاعر الناري (الذي أصبح الآن قسيسا) كاهنه الملكي الخاص، فربط مواهبه بالعرش. وجهد جونجورا ليكتسب نعومة الأسلوب ودقة العبارة. وأعلن الحرب على الكتابات المتعجلة ككتابة لوبي دي فيجا، وأصر على وجوب تهذيب كل بيت من الشعر وتصفيته وصقله ليكون حجرا كريما. ولكنه في تحمسه غالي فجعل من الفن صنعة وتكلفا، واثقل أبياته بالكثير المسرف من الاستعارات، والنعوت، والتقديمات والتأخيرات، والطباقات، حتى بز لايلي في تأنقه وفاق ماريني في تكلفه. أنظر إليه يقول في مفاتن صبية يخلب حسنها الالباب:
عيناها التوأمان اللامعتان كالشمس
تحيلان صقيع النرويج صيفا،
وتلك العجيبة البيضاء، يدها الناصعة كالثلج،
?
صفحة رقم : 9822
تجعل الحبشي يبيض دهشة وذهولا،
وأنقسم شعراء الاسبان الآن معسكرات ثلاثة، ففريق اتبع الجونجورية (أو الكولتيه)، وفريق اعتنق مذهب كويفيدو (الكونسبتية)، وفريق ثالث قاوم الوبائين كما فعل لوبي ذي فيجا.
أما كويفيدو فقد نال في »القلعة« مراتب الشرف في القانون، واللاهوت، اللاتينية، واليونانية، والفرنسية، والعربية، والعبرية، والمبارزة. وكان برغم قصر بصره وتشوه قدميه رهيباً بسيفه وقلمه على السواء، وكانت هجائياته بتارة كحسامه. وقد فر إلى صقلية ونابلي بعد أن قتل عدداً من غرائمه. وحين بلغ الخامسة والثلاثين تقلد هناك وزارة المالية. وشارك في مؤامرة أوزونا على البندقية (16189، فلما فشلت أودع السجن ثلاث سنين. وعاد بعدها إلى مدريد، فلم تسكته وظيفة شرفية هي وظيفة السكرتير لفليب الرابع، وراح يسلق بشعره الحاد الملك والبابا وأوليفاريس والنساء والرهبان. وفي كتيبه المدقع »الكلب والحمى« (1615) نبح كل شيء، وأطلق على الكل عاصفة من الأمثال أكثف من أمثال سانشو بانزا وأشد لذعاً، وكانت نصيحته التي لم يعمل بها قط أن يقف المرء بعيدا عن المعركة و»يدع القاذورات تمر«(38). ولما أعوزه الخصوم والأهداف، هاجم »كوليتة« الجونجوريين، وعارضها بـ »الكونسبيتيه«، وقال إن الشاعر، بدلا من تصيد العبارات والألفاظ الخيالية، أن يبحث عن الافكار - لا الافكار العامة الظاهرة التي أبالها الزمن أو لوثها الإبتذال، بل المفاهيم الدقيقة، الحليلة، النبيلة، العميقة.
وقد اتهم ظلما بكتابة تنبه الملك إلى ضرورة الكف عن التبذير، وطرد وزرائه العاجزين. فأودع زنزانة رطبة خمس سنين، ولما أفرج عنه كان رجلا محطما، فلم يعش بعدها غير ثلاث سنين (1645). إنه لم يعش
?
صفحة رقم : 9823
حياة أدبية هادئة مطمئنة، بل حياة كان فيها المداد دما، والشعر جريا، وإذ شارف نهايته أنذر بلاده بأنها هي ايضا في طريقها إلى الموت:
رأيت أسوار وطني
تتداعى بعد منعتها،
لقد أوهن من قواها اسلوب هذا الجيل الجديد
الذي ابلى كل جليل وأفسده،
مضيت إلى الحقول حيث رأيت
الشمس تلتهم مياه الثلوج الذائبة،
وفوق التلال تنبش الماشية النائحة الأرض،
لقد سلبني شقاؤها ضياء النهار،
ومضيت إلى بيتي فرأيت كيف افسدت
الاشياء القذرة البالية هذا البيت القديم،
لقد تقوس عكازي الذاوي الذي أتوكأ عليه
واحسست أن الشيخوخة انتصرت، رأيت سيفي صدئاً
ولا شيء تقع عليه العين
غلا ذكرني بالنهاية.(39)
صفحة رقم : 9824
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق