1411
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> فخامة أسبانيا وانحطا -> فيليب الثالث
3-فيليب الثالث
1598-1621
أما وريثه فكان فليباً آخر مختلف كل الاختلاف عن أبيه. لقد حزن أبوه حين رأى تراخي الفتى وقصر نظره قائلا »أن الله الذي رزقني هذا الملك العريض لم يرزقني ولدا يصلح لحكمه(37)« كان فليب الثالث، الذي بلغ العشرين الآن، أتقى حتى من أبيه، فترددت الشائعات في رميه بأي خطيئة ولو عارضة. ولما كان خجولاً وديعاً، شديد العجز عن القيادة، فقد أسلم كل سلطات الحكم ومتطلباته إلى فرانتشسكو جومز دي ساندوفال أي روجاس، دوق ليرما.
صفحة رقم : 9790
أما الدوق فكان فيه شئ من البر بالناس، لأنه رق كل أقاربه تقريبا في المناصب الدسمة، ولم يغفل ذاته في بره، ففي العشرين سنة التي رأس فيها الوزارة جمع ثروة طائلة قدرها الشعب المغيظ بمبلغ 44.000.000 دوكاتية(38)، وهو رقم يستحيل تصديقه. وقد وفر للخزانة من المال ما يكفي لتجهيز أسطولين ضخمين ضد إنجلترا (1599-1601)، ولكن كليهما حطمته الأنواء العالية. وكان لليرما من الحصافة ما جعله يرحب بعروض السلام التي قدمها جيمس الأول، وهكذا أبرمت أسبانيا وإنجلترا صلح لندن (1604) بعد تسعة عشر عاما من الحرب, أما الحرب في الأراضي المنخفضة فاستمرت. واستنزفت الذهب من اسبانيا بأسرع من وصوله إليها من أمريكا، ووجد ليرما أنه ليس في طاقته أن يشبع من موارد بلد مرهق حاجات قواده المعوقين، وجيبه الخاص. وإذا أدرك أنه لم يعد هناك جدوى من بذل مزيد من الجهود لرفض منح »الأقاليم المتحدة« استقلالها، فقد وقع معها هدنة تمتد اثني عشر عاما (1609).
ولكن مشروعه التالي كان لا يقل تكلفة عن الحرب. كان مسقط رأسه بلنسبة، حيث يعيش ثلاثون الفا من اسر المغاربة، وكان فيه من التقوى ما يكفي لتبغيضه في هؤلاء المزارعين والصناع الذين كان لجدهم واقتصادهم الفضل في احتفاظهم باليسر وسط فقر المسيحيين المستكبر العاجز. وكان يعلم أن هؤلاء المسلمين المتنصرين قد احتفظوا- بدافع من سخطهم لاضطهاد فليب الثاني لهم- باتصالات خائنة مع مسلمي أفريقيا وتركيا، ومع هنري الرابع ملك فرنسا، الذي أمل ان يفجر الثورات في أسبانيا في الوقت المناسب(39). ورأى أنه ليس من الوطنية في شئ أن يرف المغاربة الخمر ويزهدوا في أكل اللحم، فنتيجة هذا أن يقع عبء الضرائب المفروضة على هذه السلع، كله تقريبا. على كواهل المسيحيين من الأسبان. وأعرب سرفانتس عن الخوف من أن هؤلاء المغاربة الذين ارتفعت نسبة المواليد فيهم عنها في »المسيحيين القدامى« لندرة العزوبة عندهم، سيسودون
صفحة رقم : 9791
أسبانيا عما قليل(40). وقدم خوان دي ريبيرا رئيس أساقفة بلسنبة المذكرات إلى فيليب الثالث (1602) يحضه فيها على طرد جميع المغاربة الذين تزيد أعمارهم على السابعة، وقال في تفسيره للكوارث التي نزلت بأسبانيا، بما فيها تدمير الارمادا، إنها عقوبات أنزلها الإله لإيوائها الكفار، فهؤلاء المسيحيون المزيفون يجب ترحيلهم، أو ارسالهم لسفن العبيد، أو شحنهم بالمراكب إلى امريكا ليشتغلوا عبيدا في المناجم (41). وبرغم تحذيرات البابا، وبرغم احتجاجات ملاك الأراضي الذين كانوا ينتفعون من مستأجريهم المغاربة، أصدر ليرما (1609) مرسوما أمر به جميع مسلمي اقليم بلنسبة - مع بعض الاستثناءات - بأن يستقلوا خلال ثلاثة أيام مراكب أعدت لهم لينقلوا إلى أفريقيا، غير حاملين معهم من المتاع أكثر مما تطيقه ظهورهم. وتكررت الآن المناظر التي رافقت طرد اليهود قبل 117 عاما. وأكرهت الأسر البائسة على بيع أملاكها بخسائر فادحة، وساروا إلى الموانئ يتعثرون في شقائهم، وسرق الكثيرون منهم، وقتل البعض، في طريقهم إلى السفن أو وهم على ظهورها. فلما وصلوا إلى افريقيا تهللوا لبلوغهم أرضاً مسلمة، ولكن ثلثيهم هلكوا جوعاً أو قتلوا باعتبارهم مسيحيين(42). وفي شتاء 1609 - 10 أجلت حركات طرد أخرى من بقى من المغاربة في غير بلسنبة، وهكذا نزعت أملاك 400.000 من أكثر أهل أسبانيا انتاجا وأقصوا عن البلاد. وكان هذا في أعين الشعب أمجد منجزات الحكم، وتطلع الأسبان السذج إلى عهد أكثر رخاء، بعد أن استرضوا الإله بتخليص اسبانيا من الكفار. واغتبطت الحاشية بالحصيلة التي تجمعت من مصادرة أملاك المغاربة، فكان نصيب ليرما منها 250.000 دوكاتية، ونصيب ابنه 100.000، ونصيب ابنته وصهره 150.000(43).
صفحة رقم : 9792
وما حلت سنة 1618 حتى كان جشع ليرما وإهماله، وإسراف الملك وحاشيته، وفساد الموظفين، وتمزق الاقتصاد بخروج المغاربة، قد هبط باسبانيا إلى درك نبه حتى هذا الملك الخامل إلى ضرورة التغيير. وفي فورة من فورات العزيمة طرد ليرما (1618)، ولكن ليقبل ابنه - الدوق أو سيداً - رئيساً لوزرائه. واعتزل ليرما في لباقة، وتقبل قبعة الكردينالية وعاش سبع سنين آخر رافلا في حلل لاتقوى والثراء. وفي عام 1621 أنذر مجلس قشتالة الملك بأن ملكه »في طريقه إلى الافلاس والدمار لفداحة الأعباء والضرائب والرسوم«(44)، وتوسل إليه أن يعتدل في نفقاته. فتقبل النصيحة ولكنه مضى يسلك مسلكاً ملكياً مترف الجهاز والصيانة. في هذه السنة بعينها مات مخلفاً لولده ملكاً عريضاً لا حول له ولا قوة، وحكومة فاسدة لا كفاية فيها، وشعباً هوى إلى درك الفاقة والتسول والسرقة، وطبقة استنكفت من أن تؤدي ضرائبها، وكنيسة خنقت فكر الشعب وحطمت ارادته وأحالت خرافاته أكداساً من الذهب.
صفحة رقم : 9793
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق