1406
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> إيطاليا الأم الخيرة -> مجيء الباروك
8- مجيء الباروك
1550 - 1648
كان الفن الكلاسيكي - كالبارثينون وأفريزه، ومنحوتات ميرون وبولسكليتوس، وساحة روما، ولايناد، وستانزا رفائيل بالفاتيكان، وصور كنيسة مديتشي لميكل أنجيلو - هذا الفن كان اختزال الفوضى إلى نظام، والتعدد إلى وحدة، والحركة إلى ثبات، والشعور إلى فكر ، وغير المميز إلى مميز، والمعقد المبهم إلى البسيط الواضح؛ كان المادة مصوغة من الشكل. ولكن كل شيء حتى الكمال يزهده الناس حين يطول به العمر. فالتغيير ضروري للحياة، والحس، والفكر؛ والجديد المثير قد يبدو جميلا لهذه الحدة ذاتها، حتى يعود القديم المنسي على عجلة الزمن فيرحب به الناس على أنه فتى وجديد. وهكذا طردت النهضة الفن القوطي من إيطاليا باعتباره فنا همجيا، حتى إذا ضاق الفنانون ورعاة الفن بالنسب الجميلة والتناسق المقيَّد، وضحكوا كما ضحكت تماثيل الكاتدرائيات البشعة الوجوه على الأعمدة والاعتاب
?
صفحة رقم : 9753
والقواصر الكلاسيكية، أعادوا الروح القوطية ممثلة في شذوذات الباروك وتفصيلاته الزاخرة بالحيوية والمرح .
كان الفن الكلاسيكي ينشد الافصاح عن الموضوعي، اللاذاتي، الكامل، أما الباروك فقد أتاح للفنان الفرد، حتى لنزوته العارضة، أن تجد التجسيد في عمل لا يمثل موضوعا يصور تصويرا واقعيا (كما فن التصوير الهولندي) بقدر ما يمثل انطباعا أو شعوراً موضعاً عن طريق أشكال متخيلة جزئيا. وهكذا نرى أن صور الجريكو النحيلة الطويلة ليست صور رجال أسبان بل صور ذكرياته أو بدواته هو؛ وصور العذراء التي رسمها موريللو وجويدو لم تكن صور الأمهات المرهقات اللاتي عرفاهن بل الورع المثالي الذي طلب إليهما التعبير عنه. يضاف إلى هذا أن بلدا كإيطاليا زلزلت إحساسه حركة الإصلاح البروتستنتي وشحذ عاطفته الدينية من جديد أفراد كلويولا، وتريزان وزافير، وشارل بوروميو - إيطالية ما بعد لوثر هذه ما كان في الامكان أن تستكين إلى سلام المثل الكلاسيكي، ذلك السلام الهادئ الفخور، لذلك راحت تؤكد عقيدتها من جديد، وتبدي رموزها في تحد، وتزين هياكلها، وسكب في الفن دفئا جديدا من اللون والاحساس، وتنوعاً جديداً وحرية في التركيب والحركة لا يمكن التنبؤ بها، انطلقت من عقال القواعد والضوابط والخطوط الكلاسيكية. لقد أصبح الفن تعبيرا عن الشعور بالحلية، لا ضغطاً للفكر لإحداث الشكل.
أما العمارة فلم تعد رياضيات يونانية أو هندسية رومانية، بل موسيقى، وأحيانا أوبرا، مثل دار الأوبرا في باريس. واتجه المصممون والبناءون من الثبات إلى السيولة والايقاع، فرفضوا التناسق الساكن مؤثرين عليه عدم التوازن وعدم الوحدة المتعمدين، وفصصوا
?
صفحة رقم : 9754
الأعمدة والأعتاب أو لووها عن قصد. وسئموا السطوح الساذجة والكتل الثقيلة، وقطعوا الكرانيش، وشطروا القواصر شطرين، وبعثروا النحت في كل اتجاه. أما المثالون فقد ضاقوا بأطراف الجسد الكاملة، والملامح الساكنة، والوقفة الأمامية الجامدة، فاتخذوا لاشكالهم أوضاعا غير متوقعة، داعين الناظر إلى اتخاذ نظرات منوعة، واستخدموا مؤثرات التصوير في صناعة التماثيل، فنحتوا الاضواء والظلال في الحجر، والحركة في الجسد، والفكر والشعور في الوجه. وأما المصورون فتركوا الخطوط النقية، والضوء الصافي، والسكينة البريئة - تركوا هذا كله لبيروجينو، وكوريدجو، ورفائيل، وغمروا الدنيا في اللون كما فعل روبنز، أو ظللوها بالغموض كما فعل رمبرانت، أو ايقظوها للحس مثل ريني، أو كدروها بالعذاب والوجد مثل الجريكو. وأما نقاشو الخشب فبعثروا الزخرف على الأثاث، وأما صانعو الأدوات المعدنية فقد حولوا مادتهم إلى أشكال غريبة أو مضحكة. وحين عهد اليسوعيون عام 1568 إلى فينولا برسم »كنيسة يسوع« في روما، اشترطوا أن تجمع كل الفنون في فيض من الأعمدة، والتماثيل والصور، والمعدن النفيس، تصمم لا التعبير عن الهندسة، بل لتلهم الإيمان وتشيعه في النفوس.
ولما كانت إيطاليا لا تزال في الفن قائدة أوربا، فإن الأسلوب الجديد في الزخرفة والعاطفة والتعبير ل ينتقل إلى أسبانيا وفلاندر وفرنسا الكاثوليكية فحسب، بل حتى إلى ألمانيا البروتستنتية حيث بلغ بعضاً من أكثر أشكاله مرحاً وبهجة. أما الأدب فأحس تأثير الباروك في لعب ماريني وجونجوزا ولايلي المسرف بالالفاظ، وفي لغة شكسبير الرنانة الطنانة، وفي مسرحية مارلو »الدكتور فاوستس« ومسرحية جوته »فاوست«. وأما الأوبرا فما هي إلا موسيقى باسلوب الباروك. على أن الاسلوب الجديد لم يحقق انتصاراً في كل مكان، فقد آثر الهولنديون الواقعية الهادئة على انفعالات
?
صفحة رقم : 9755
الباروك: وفيلاسكويز في افضل أعماله كلاسيكي أو واقعي، أما سرفانتس فبعد أن عاش حياة رومانسية ألف »دون كخوته« في اتزان وهدوء كلاسيكيين. ولكن هل كان الفنانون والأدباء الكلاسيك دائماً كلاسيكيين؟ وهل هناك أكثر باروكية من لاوكون المناضل، القبيح؟ إن التاريخ يبتسم سخرية من كل المحاولات التي تبذل لإكراه مياهه على أن تجري في قوالب نظرية أو أخاديد منطقية، وهو يعبث أشد العبث بتعميماتنا، ويحطم كل قواعدنا. إن التاريخ ضرب من الباروك.
على أن عاملاً قوياً واحداً ظل ثابتاً في الفن الإيطالي، فما زالت الكنيسة أنشط رعاته وأقدرهم على تشكيله. كان هناك بطبيعة الحال رعاة آخرون ومؤثرات أخرى. فقد شيدت اسر الأمراء والكرادلة المثقفون القصور الخاصة، وواصلوا في تزيينها ببعض الموضوعات الوثنية، مثال ذلك أن أودواردو فارينزي عهد إلى المصورين كاراتشي بأن يرسموا له »انتصار باخوس« و »حكم الغرام«. ولكن مجمع ترنت وحركة الإصلاح الكاثوليكي التالية له حددا للفن اتجاهاً أكثر صرامة، فتراجعت الأجساد العارية من الفن الإيطالي، ولم تعد الموضوعات الدينية تستخدم مطية للحس ولم يثن البابا كلمنت الثامن عن تغطية لوحة ميكل انجيلو »الدينونة الأخيرة« كلها، وسراويل دانييلي دا فولتيرا وما حولها، إلا توسلات فناني روما. وقد دافع المجمع عن الصور الدينية ضد هجمات الهيجونوت والبيوريتان، ولكنه أصر على أن توحي هذه الرموز بالخشوع لا أن تلهب الدم والعروق. وبينما استنكر المصلحون عبادة مريم والابتهالات إلى القديسين، روى مصورو إيطاليا ومثالوها في فترة معارضة الإصلاح البروتستنتي، من جديد، عذابات الشهداء، ورووها بواقعية قاسية أحياناً، وحكموا مرة أخرى قصة العذراء ام الإله، بعاطفة واعية. وتعاون حرص الكنيسة على تجريد الفن من الوثنية وبث العقيدة والتقوى
صفحة رقم : 9756
في النفوس، مع انتكاسات إيطاليا السياسية والاقتصادية، على جعل هذا العصر آخر صدى من أصداء النهضة.
صفحة رقم : 9757
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق