إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 1 مايو 2014

1399 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> إيطاليا الأم الخيرة -> الحذاء السحري الكتاب الثاني صراع العقائد على السلطة 1556 - 1648 الفصل التاسع إيطاليا الأم الخيرة 1564- 1648 1- الحذاء السحري







1399


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> إيطاليا الأم الخيرة -> الحذاء السحري

الكتاب الثاني


صراع العقائد على السلطة


1556 - 1648


الفصل التاسع


إيطاليا الأم الخيرة


1564- 1648


1- الحذاء السحري


بعد أن هدأ عنف المعركة التي خاضتها إيطاليا في ميدان النهضة والاصلاح البروتستنتي، راحت تستكين إلى حكم الأسبان استكانة يزعجها الفقراء، ويواسيها الدين، ويضفي عليها السلام بريقا خداعا. كانت معاهدة كانو- كامبريزي (1959) قد خلعت دوقية سافوا على إيمانويل فيليبرت، أما جنوا ولوكا والبندقية وسان مارينو فقد مد في أجلها فبقيت جمهوريات مستقلة. وأما مانتوا فظلت خاضعة لأمراء جونزاجا، وفيرارا لأمراء استنزي، وبارما فارنيزي. وحكمت اسرة مديتشي توسكانيا- فلورنسة وبيزا وأريتزو وسيينا- ولكن موانيها كانت تحت سيطرة أسبانيا. وحكمت أسبانيا عن طريق نواب ملكها دوقية ميلان ومملكة نابلي التي كانت تضم صقلية وكل إيطاليا جنوب الدويلات البابوية. وحكم هذه الدويلات، التي اخترقت وسط شبه الجزيرة من البحر المتوسط إلى الأدرياني، بابوات تحدق بهم القوة الأسبانية.
على أن هذه القوة لم تكن عدوانية عسكريا، فهي لم تتدخل في الشئون الداخلية للدويلات، اللهم إلا ميلان ونابلي، ولكن عزوفها عن التجارة وخوفها من الفكر الحر ألقيا حجابا كثيفا على الحياة الإيطالية. وكان من أثر استيلاء أمم الأطلنطي على تجارة الشرق وأمريكا ان انتقلت إليها تلك الثروة التي كانت من قبل تتفق على حركة النهضة، فأصبحت الآن تغذي الازدهار الثقافي الذي بدأ في أسبانيا وإنجلترا والأراضي المنخفضة. وعانت إيطاليا فوق ذلك من اضمحلال الموارد البابوية نتيجة لحركة الاصلاح


?
    صفحة رقم : 9685    


البروتستنتي. وكان الفلاحون الصابرون يكدحون ويصلون، والرهبان اللذين يفوقون الحصر يتعبدون، أما التجار ففقدوا الجاه والثروة، وأما النبلاء فضيعوا الحياة جريا وراء الألقاب وتعلقا بمظاهر البذخ والترف.
ومع ذلك أنجبت إيطاليا وسط هذا الانهيار السياسي جاليليو أعظم العلماء في جيله، ووهبت العالم فلسفة برونو الجريئة البعيدة النظرة، وهبته برنيني أعظم مثالي العصر، ومونتيفردي أكثر مؤلفيه الموسيقيين أثرا، ووهبته أشجع مبعوثيه الدينيين، وواحدا من أعظم الشعراء الإيطاليين هو تاسو، كذلك وهبته- في بولونيا ونابلي وروما- مذاهب في التصوير لا ضريب لها إلا في الأراضي المنخفضة الوافرة الثراء. وهكذا ظل لواء الثقافة معقوداً لإيطاليا.
أ- في سفوح الألب


يطيب لنا ان نجوس من جديد خلال تلك الحديقة وقاعة الفن المسماة إيطاليا، ولو بالفكر والقلم، وأن نمر بها ولو مرور الكرام. فأما تورين فقد غدت عاصمة كبيرة تحت حكم كفء على رأسه ايمتنويل فيليبرت، وبفضل تشجيع زوجته مرجريت الأميرة الفرنسية السافواوية للأدب والفن. وأما ميلان فظلت محتفظة بأبهتها على الرغم من خضوعها لأسبانيا. قال ايفلين عام 1643 في وصفها:
"انها من افخم مدن اوربا، ففيها 100 كنيسة، و 71 ديرا، 40.000 من السكان. فيها القصور الباذخة، وفيها الفنانون النادرون(1)" وبعد أن دمرت النار داخل باسيلقا سان لورنزو ماجيوري (1573) عهد كارلو بوروميو، مطران ميلان الورع، إلى مارتينو باسي ببناء داخلها وفق الطراز البيزنطي الرائع الذي بنيت به كنيسة سان فيتالي في رافنا. وبنى الكردينال فيديريجو بوروميو، وهو ابن أخي كارلو، قصر أمبروز (1609)، وشيد فيه مكتبة أمبروز الشهيرة. أما قصر بريرا، الذي بدئ تشييده عام 1615 ليضم كلية لليسوعيين، فقد أصبح منذ عام 1776 مقرا لأكاديمية الفنون الجميلة، ومنذ عام 1809


?
    صفحة رقم : 9686    

لقاعة بريرا الذائعة الصيت، التي أصابتها الحرب العالمية الثانية بأضرار بالغة، ولكنها رممت الآن ترميما جميلا، وفيها نجد الكثير من آثار أرتي بروكاتشيني وكرسبي، وهما الأسرتان اللتان غلب تأثيرهما على التصوير الميلاني في العصر الذي نتناوله.
وأما جنوه "الهادئة جداً"، فما زالت من تلالها المرصعة بالقصور تختال فوق بحر متوسط انتشرت فوق أمواجه المراكب الجنوية. حقاً لقد فقدت هذه الجمهورية التاجرة أملاكها الشرقية التي استولى عليها الترك، وانتقلت بعض تجارتها مع دول الشرق إلى دول الأطلنطي، ولكن التل الكبير الذي تقوم فوقه قيض لها ميناء ممتازا ظلت بفضله، ومازالت إلى اليوم، أهم الثغور الإيطالية، هنا أشاد أمراء التجارة أو ملوك المال طائفة من أعظم بيوت إيطاليا ترفا. وفي رأي ايفلين أن "الشارع الجديد" الذي صممه روبنز وازدان بقصور من الرخام المصقول "يزري باي نظير له في أوربا". وقد صمم جالياتزو وأليسي وتلاميذه الكثير من هذه القصور الفاخرة التي اشتهرت بما حوت من قاعات فن، وسلالم فخمة، وجدران زينت باللوحات او الرسوم الجصية، واثاث مترف- "موائد واسرة كاملة من الفضة الثقيلة"، ولا عجب فقد حذق أقطاب المال الجنويون تحويل عرق الشعب إلى ذهب. وفي عام 1587 بنى "جاكومو ديللا بورتا" باسليقا "البشارة المقدسة" التي كانت أعمدتها المحززة، ومنبرها البديع، وقوسها المزخرف، مفخرة الاتقياء من أهل جنوه. على أن هذه الكنيسة وكثيرا غبرها من كنائس نوه وقصورها لحقها دمار كثير في الحرب العالمية الثانية.
وأما فلورنسة فقد ظلت، حتى إلى عهد فازاري، تلقب بأثينة إيطاليا، إذ تميزت بخصوبتها سواء في الادب أو الدرس او العلم أو الفن. لقد زكا فيها كل شئ إلا العفة، ففي عهد الدوق الكبير فرانتشسكو الاول (1574- 87) انحدرت اسرة مديتشي العظيمة إلى حمأة الفجور والدعارة. ثم تخلى الكردينال فرديناندو مديتشي عن وظيفته الكهنوتية


?
    صفحة رقم : 9687    


وأصبح "الدوق الكبي فرديناند الأول"، فأتاح بذلك لتوسكانيا طوال اثنين وعشرين عاما (1587- 1609) عهدا من العدل والاستنارة، ووسع تجارتها إذ جعل ليفورنو (ليجهورن) ثغراَ حراً مفتوحاً لكل التجار من كل الأديان، وأصلح بالقدوة الفاضلة أخلاق شعبه. أما خلفاه كوزيمو الثاني وفرديناند الثاني لهما فضل إعالة جاليلو بالمال. ونقش بارتولوميو أماناتي نافورة نبتون الكبرى لميدان "السنيوريا"بفلورنسةن وصمم قصر دوكالي بلوكا. وفي عام 1583 اكمل جوفاني دابولونيا "اغتصاب السابين"، وهو التمثال القائم في "لوجا (قاعة) دي لانزي"، وصب تمثال هنري الرابع الذي اهداه كوزيمو الثاني إلى ماري مديتشي ليزين "اليون نوف" في باريس. وواصل اليساندو أللوري وابنه كريستوفانو التقليد الذي درج عليه التصوير الفلورنسي من خيال جامح في التلوين، في شئ من التخفيف، واشرف بيترو داكوتونا على الكمال في رسومه الجصية التي زين بها سقوف قصر بيتي ليصور مناقب الدوق كوزيمو الأول.
وأما بارما فقد كان يحطمها في هذه الفترة دوق مشهور يدعى اليساندرو فارنيزي، ولكن بلغ انشغاله بقيادة الجيوش الاسبانية في الاراضي المنخفضة حدا لم يتح له أن يتربع على عرشه قط. وفي عهد ابنه رانوتشو ذاع صيت جامعة بارما في أرجاء أوربا، وبنى أليوتي (1618) مسرح فارنيزي الذي اتسع لسبعة آلاف متفرج في مدرج نصف دائري لا يضارعه في إيطاليا سوى المسرح الاولمبي الذي بناه استاذه باللاديو.
واما مانتوا فقد دخلت عهدا من الرخاء اعاد إلى الأذهان ذكرى أيام ايزابللا ديستي المجيدة. فبفضل صناعة النسيج أقبل الناس على شراء القماش المانتوي، حتى في إنجلترا وفرنسا المنافستين. وظل ببيت جونزاجو الذي حكم هذه الدوقية منذ عام 1328 ينجب الأكفاء من الرجال. ففي الدوق فنشتزو الاول تمثلت من جديد فضائل امرأة النهضة: رجل حلو الصورة لطيف المعشر، يرعى روبنز المحظوظ وتاسو التعس على


?
    صفحة رقم : 9688    


السواء؛ يجمع الآثار القديمة، والتحف الصينية، والآلات الموسيقية، والنسيج المرسوم الفلمنكي، وأزهار الطوليب الهولندية، والنساء الجميلات؛ يهوى الشعر والقمار، مقاتل باسل ورجل دولة جرئ، ولكنه ينهك نفسه بالفجور والحرب، ويموت غير متجاوز الخمسين (عام 1612). ثم يخلفه ثلاثة أبناء على التوالي، وآخرهم وهو فنشنزو الثاني لم يعقب, وكان من ثر تنافس فرنسا والنمسا واسبانيا على تعيين خلف له والتحكم في هذا الحلف أن غدت الدوقية مسرحا عاجزا لحرب الوراثة المانتوية (1628- 31) وكانت حربا ضروسا أوشكت أن تمحو مانتوا من سجل التاريخ.
واما يرونا فقد تكاسلت ثقافيا خلال هذه الحقبة واعتمدت على تراث النهضة. ففي فيتشنزا كانت واجهات باللاديو الكلاسيكية تحدد الطراز الذي اتبعه كرستوفر رن فيما بعد. وقد أكمل فنشنزو سكاموتزي مسرح باللاديو الأولمبي، ثم صمم قصر تريسينو- بارتون. وأصبح سكاموتزي همزة الوصل بين الكلاسيكية وفن الباروك بفضل ولعه بالزخرف، وهو ولع لم يستطع باللاديو كبحه في فنه.
ب- البندقية


كان اضمحلال ملكة الأدرياتي، كاضمحلال روما القديمة، طويلا بهيا. انها تفقد تجارتها البحرية مع الهند لتستولي عليها البرتغال، وعما قليل ستشعر بمنافسة الهولنديين لها. لقد تحملت وطأة توسع الاتراك بحرا، وكانت بحريتها وقوادها عاملين رئيسيين في الانتصار عليهم في ليبانتو (1571)، ولكنها تخلت عن قبرص بعدها بشهور، ومن ثم غدت تجارتها مع بحر المشرق مرهونة برضى الأتراك وشروطهم. ولقد كافحت ببسالة لتواجه تحدي الزمن المتغير، فاستطاعت باتصالها بالقوافل القادمة من وسط آسيا عند حلب ان تعوض بعض التعويض ما خسرته من تجارتها البحرية من الشرق. وظلت سفنها تسيطر على الأدرياتي، وشاركت في


?
    صفحة رقم : 9689    

أرباح تجارة الرقيق التي اصبحت الآن تسئ إلى سمعة البرتغال واسبانيا وإنجلترا، أما أملاكها في البر- وهي فنشنزا وفيرونا وتويسته وترنت واكويلا وبادوا- فقد أثرت وكثر سكانها، وأما صناعتها فقد واصلت تفوقها في الزجاج والحرير والمخرمات والطرف الفني المترفة. كذلك كان لمصرفها المسمى "بانكو دي ريالتو" والذي أنشأته عام 1587 بعد أن اخفق كثير من المصارف الخاصة، الفضل في دهم البنادقة بقوة الدولة، وكان المثال الذي احتذته بلاد أخرى في إنشاء مؤسسات مماثلة في نورمبرج وهمبورج وامستردام. وقد تعجب الرحالة من جمال عمارتها، وفتنة نسائها، ونظافة شوارعها، وثبات حكومتها في حزم وإصرار.
استهدفت سياستها الخارجية فقط حفظ توازن القوى بين فرنسا وأسبانيا مخافة ان تبتلع احداهما الجمهورية التي لم تعد قوية الباس كما كانت من قبل. ومن هنا مبادرتها إلى الاعتراف بهنري الرابع ملكا على فرنسا دعما لبلد مزقته الحرب. وفي عام 1616 اشترك الدوق اوزونا، نائبملك اسبانيا في نابلي، مع السفير الاسباني في البندقية، في مؤامرة للاطاحة بمجلس شيوخها واخضاع الجمهورية لحكم أسبانيا.وبارك فيليب الثالث المشروع، ولكنه جريا على اسلوب الحكومات المهذب، أمر أوزونا بالمضي فيه "دون أن تدع أحداً يعلم أنك تنفذه بعلمي، وتظاهر بأنك تتصرف دون أوامر مني(3)". غير أن حكومة البندقية كانت تستخدم أبرع الجواسيس في أوربا، فكشفت المؤامرة، وقبض على المتآمرين المحليين، وذات صباح تعلم الناس درسا ينفعهم، إذ رأوهم يتدلون من المشانق في ميدان القديس مرقس، محدقين في الحمائم السعيدة بعيون انطفأ نورها.
هذه الاولجركية الهادئة الصارمة، التي اتجرت مع الناس من جميع العقائد، ومنحتهم الحرية الدينية، كان موقفها من البابوية مستقلاً على نحو ملحوظ. جبت الضرائب من رجال الدين، واخضعتهم للقانون المدني، وحظرت بغير موافقتها بناء أي معابد أو أديار جديدة ونقل ملكية الأراضي


?
    صفحة رقم : 9690    

للكنيسة، وراح حزب من ساسة البندقية يتزعمهم لوناردو دوناتو ونيكولو كونتاريني، يقاوم بصفة خاصة دعاوي البابوية بأن لها سلطانا على الأمور الدنيوية. وفي عام 1605 ارتقى كاميللو بورجيزي كرسي البابوية باسم بولس الخامس، وفي السنة التالية اختير دوناتو "دوجا" للبندقية، ووقف الرجلان اللذان كانا بالأمس صديقين، يوم كان دوناتو مبعوثا لدى روما، يواجه أحدهما الآخر في صراع بين الكنيسة والدولة ردد عبر قرون خمسة أصداء ذلك النضال الذي احتدم من قبل بين البابا جريجوري السابع والامبراطور هنري الرابع. وكانت صدمة للبابا بولس أن يعلم أن الزعيم الفكري للحزب المناهض للاكليروس في البندقية راهب سميّ له، ينتمي لجماعة "خدام العذراء" هو فرا باولو ساربي.
وساربي هذا كان في رأي مولمنتي "ألمع العقول التي أنجبتها البندقية قاطبة (4)". كان أبوه تاجرا، والتحق الصبي بجماعة "الخدام" وهو في الثالثة عشرة، وتشرب العلم في شغف، وحين بلغ الثامنة عشرة دافع عن 318 قضية علمية في جدل علني بمانتوا، ووافق في دفاعه توفيقا حمل دوقها على تعيينه لاهوتيا لبلاطه. ثم رسم كاهنا في الثانية والعشرين، وأصبح أستاذا للفلسفة، وفي السابعة والعشرين انتخب ممثلا اقليميا لرهبنته لدى جمهورية البندقية. وواصل دراساته في الرياضيات، والفلك، والفيزياء، وشتى العلوم. واكتشف انقباض القرحية، وكتب مقالات علمية ضاعت، وشارك في الأبحاث والتجارب التي قام بها "فابريزو داكوابندنتي" و "جامباتيستا ديللا بورتا"، الذي قال أنه لم يصادف قط "رجلا أغزر علما ولا أكثر دقة في محيط المعرفة باسره(5)" وربما آذت هذه الدراسات الدنيوية عقيدة باولو، فقد رحب بصداقة بعض البروتستنت، وقدمت التهم ضده لمحكمة تفتيش البندقية- وهي نفس الهيئة التي لن تلبث أن تلقي القبض على جوردانو برونو. ورشحه مجلس الشيوخ اسقفا ثلاث مرات، وثلاث مرات رفض الفاتيكان الترشيح، وقوت ذكرى هذه الهزائم من عدائه لروما.


?
    صفحة رقم : 9691    

وفي عام 1605 قبض مجلس الشيوخ على كاهنين وأدنهما بجرائم خطيرة فطالب البابا بولس الخامس بإحالة الرجلين إلى القضاء الكنسي، وامر بالغاء القوانين الموجهة ضد الجديد من الكنائس والديورة والطرق الدينية. ورفضت حكومة البندقية في ادب ولباقة. فامهل البابا الدوج والحكومة ومجلس الشيوخ سبعة وعشرين يوما للامتثال لأوامره. وهنا استدعوا فرا باولو باعتباره مستشاراً في القانون الكنسي، وأشار ساربي بمقاومة البابا، وحجته في ذلك ان سلطاته لا يسري الا على الامور الروحية، واعتنق مجلس الشيوخ رأيه هذا. وفي مايو 1606 حرم البابا دوناتو والحكومة وأوقع حظراً على جميع الخدمات الدينية في اراضي البندقية. واصدر الدوج تعليماته للكهنة البنادقة بتجاهل الحظر ومواصلة اداء وظائفهم، ففعلوا إلا اليسوعيين والثياتين والكبوشيين. ورحل اليسوعيون بحملتهم عن البندقية، لأن قوانينهم تلزمهم بطاعة البابوات، وذلك برغم انذار الحكومة لهم بأنهم ان رحلوا فلن يسمح لهم بعدها بالعودة. ونشر ساربي خلال ذلك، ردا على الكردينال بللارميني، كراسات دعا فيها إلى تقييد سلطة البابا، وأعلن أن للمجامع العامة سلطانا يسمو على سلطان البابوات.
ولجأ بولس الخامس إلى أسبانيا وفرنسا، ولكن اسبانيا هذه طالما رفضت المراسم البابوية، أما هنري الرابع ملك فرنسا فكان مدينا للبندقية بصنيعها معه. على أنه أوفد إليها رجلا حكيما هو الكردينال دجوايوز، الذي ابتكر ما اقتضاه الموقف من صيغ تحفظ ماء الوجوه. فأفرج عن الكاهنين وسلما إلى السفير الفرنسي، الذي المهما بعد قليل الى روما، ورفض مجلس الشيوخ الغاء القوانين التي اعترض عليها البابا، ولمنه- أملا المعونة البابوية ضد الترك- وعد بان الجمهورية "ستسلك بما عهد فيها من ولاء". وأوقف البابا لومه، ورفع جوايوز الحرم عن المحرومين.يقول مؤرخ كاثوليكي "لقد غلت مزاعم البابا بولس الخامس في تشبهها بمزاعم القرون الوسطى غلوا جعل تحقيقها ضربا من المحال(6)" وكانت هذه آخر مرة اوقع فيها الحرم على دولة بأسرها.


?
    صفحة رقم : 9692    


وفي 5 أكتوبر 1607 هاجم بعض القتلة المستأجرين ساربي وتركوه وهم يحسبونه ميتا، لكنه افاق، وروى أنه علق على الهجوم بهذه الحكمة التي فيها من البراءة ما يجعل صدورها عنه لحظتها بعيد الاحتمال، "انى تبين اسلوب الادارة البابوية الدقيق(7)" . ووجد القتلة الحماية والاستحسان في الدويلات البابوية(8). بعد هذا عاش ساربي معتكفا في صومعته يتلو القداس كل يوم، ولكن "مرقمه" لم يكن معطلا. ففي عام 1619 نشر تحت اسم مستعار وعن طريق دار نشر لندنية "تاريخ مجمع ترنت" وهو اتهام ضاف للمجمع، صور فيه حركة الاصلاح الديني تصويراً بروتستنتينياً خالصاً، وأدان المجمع لأنه باذعانه التام للبابوات حال دون رأب الصدع في الكنيسة. وتحمس العالم البروتستنتي للكتاب، واطلق ملتن على مؤلفه "ممزق القناع العظيم". أما اليسوعيون فعهدوا إلى فقيه منهم يدعى سفورتزا باللافتشيو بكتابة تاريخ معارض (1656- 64) كشف تحيز ساربي وعدم دقته وباراه فيهما(9). وعلى الرغم من تحيز الكتابين فانهما سجلا تقدما في جمع الوثائق الاصلية واستخدامها، وفي رسالة ساربي المسهبة سحر البلاغة النارية، وهذا تشويق اضافي ذو خطر.لقد كان الرجل متقدما كثيرا على جيله في الدعوة إلى الفصل التام بين الكنيسة والدولة.
في ظل هذه الحكومة الابية، وفوق تلك القنوات المطمئنة العطرة، واصلت البندقية سعيها وراء المال والجمال تسترضي المسيح بالعمارة، والعذراء بالابتهالات، فلكل اسبوع عيد يتذرع للاحتفال به بقديس ما، وفي رسوم جواردي نرى امثلة من هذه الانتشاءآت الجماهيرية، وتلحظ في صور الأشخاص ذلك الترف الشرقي الحسي، ترف الثياب والحلي.


?
    صفحة رقم : 9693    

وكان في وسع المرء في أية أمسية أن يسمع صوت الموسيقى تعزف في الزوارق (الجوندولا). ولو وطئت قدماه زورقا من هذه الزوارق السحرية ولم يفه باي توجيه للملاح، لمضى به دون كلام كثير إلى بيت مومس شريكة له. وقد دهش مونتيني لكثرة بنات الهوى البندقيات، وغلوهن في التحرر، وما هو بالرجل المتحيز، وكن يدفعن ضريبة للدولة، لقاء سماحها لهن بأن يسكن حيث شئن، ويلبسن ما يشتهين، ولقاء دفاعها عنهن ضد الزبائن الذين يأكلون حقوقهن(10).
واكتسبت "القناة الكبرى" وأفرعها مزيدا من الحسن عاما بعد عام بفضل ما قام على ضفافها من كنائس فخمة أو قصور جديدة مشرقة أو جسور رشيقة. ففي عام 1631 عهد مجلس الشيوخ إلى بالداساري لو نجينا ببناء كنيسة رائعة للعذراء "سانتاماريا ديللا سالوتي" وفاء بنذر لأنها ردت إلى أهل المدينة عافيتهم عقب طاعون كبير. وفي 1588- 92 أقام انطونيو دا بونتي بدلا من الجسر الخشبي العتيق "جسر ريالتو" الجديد الذي امتد عبر القناة الكبرى في قوس واحد من الرخام طوله تسعون قدما، وقامت المتاجر على جناحيه. وحوالي عام 1600 بنى "جسر التنهدات" (بونتي دي سوسبيري) عاليا فوق قناة تجري بين قصر الدوج وسجن القديس مرقس- "فقصر على طرف وسجن على الطرف الآخر"(11). واتم سكاموتزي كنيسة بالاديو و "سان جورجو" ومكتبة فيكيا التي بدأت انسوفينو. وبنى سكاموتزي ولونجينا "البروكوراتي نوفي" (1582- 1640) الملاصق لميدان القديس مرقس ليستخدم مكاتب جديدة لحكومة البندقية. وقامت الآن قصور شهيرة على ضفاف القناة الكبرى: بالبي، وكونتاريني ديلي سكريني، وموتشينجو، حيث عاش بايرون في 1818. والذين لم يروا البندقية سوى ظاهرها لا يستطيعون ابدا تصور ما في باطنها من بذخ- يجله الذوق الرفيع سائغا:
تلك السقوف ذات الرسوم الجصية أو الزخارف الغائرة، والجدران المزدانة بالصور أو قطع النسيج المرسوم، والمقاعد المكسوة بالساتان،


?
    صفحة رقم : 9694    


والكراسي و الموائد والصناديق المنقوشة، والدواليب المطعمة بالصدف والعاج، والسلالم العريضة الفخمة التي بنيت لتعيش القرون الطويلة. هنا نعمت أو لجركية غيور، قوامها عدة مئات من الاسر، بكل ثراء أقطاب التجارة، وبكل المعايير الفنية المرهفة التي اتيحت للأرستقراطيات العريقة.
ولا يبرز في هذه الفترة بين مثالي البندقية غير مثال واحد هو اليساندرو فيتوريا، ولكن فن التصوير البندقي أنجب اثنين من مصوري المرتبة الثانية. فقد اورث بالمافيكيو (مات 1528) فنه عبر الأجيال إلى حفيد لأخيه يدعى بالماجوفاني- أو ياكوبو بالما الأصغر- الذي مات بعد موت جده بمائة عام تماما. والرأي في فن جوفاني- إنه "منحط" لأن الرجل كان يرسم في عجلة يشوبها الإهمال، ولكن بعض صوره، كصورة "البابا اناكليتوس" في كنيسة الصلب، تدنو من العظمة، وفي هذه السطور التي خلفها مولمنتي يقفز هذا الفنان الأصغر المهمل إلى الحياة.
"لم يكن لبالما جوفاني من هدف ... سوى فنه، الذي عجز اشد الأحزان عن أن يصرفه عنه. ففي فنه التمس العزاء عن موت ولديه، اللذين مات أحدهما في نابلي، قضى الآخر في حياة الفجور. وبيتما كانت زوجته تحمل إلى قبرها عكف على الرسم هروبا من الالم(12).
أما برناردو ستروتزي فقد حصر بين ساقيه قمة الحذاء السحري، إذ ولد في جنوه، ومات في البندقية (1644)، وخلف صورا لكل قاعة مفن تقريبا بين البلدين. انفق بعض عمره راهبا كبوشيا، ثم خلع رداء الرهبة، ولكنه لم يستطع قط ان يخلع كنيته "الكبوشي". وبعد أن بذل محاولات كثيرة، وجد التسامح والتوفيق في البندقية، وفيها انتج أفضل أعماله. ويكفي أن نذكر مثلا منها "هو صورة أخ دومنيكي" (برجامو): فـ "البيريه" العالية تزين الجبين العريض، والعينان عابستان


?
    صفحة رقم : 9695    


مركزتان، والأنف والفم ناطقان بقوة الشخصية، واليد تنشئ بعراقة الأصل؛ أن تتسيانو نفسه لم يكن في وسعه أن يبدع خيرا من هذا الفن. ولو ظهر هذان الوريثان للعمالقة من السلف في أي وطن آخر لحسبا من العمالقة.
حـ- من بادوا إلى بولونيا


انحصر فخر بادوا بجملته الآن في جامعتها. ففيها درس هارفي في هذه الحقبة. وفيها علم جاليلو. وفي إمارة فيرارا لم يبد الفونسو الثاني (حكم 1559- 97) تقاعسا أو فتورا في همة آل ايستي الذين حكموا الامارة منذ 1208. وصورته التي يحتفظ المتحف البريطاني بنسخة منها غفل من التوقيع يطل منها رأس قوي. ولحية أمرة، وعينان تنبئان بعقل حازم مكتئب. كان في وسعه أن يكون قاسيا لا يرحم الذين يقاومونه، رفيقاً بغيرهم، صبوراً على غضبات تاسو، جريئاً في النزال، مشتطاً في فرض الضرائب. وقد واصل التقليد الذي جرت عليه أسرة ايستي في بسط رعايتها على الأدب والعلم والفن، وجمع ثمارها كلها في ثقافة بلاطه وبهائه ومرحه. أما الشعب فكان عليه ان يقنع بالكفاف- وان يستمد بثمار كده في شخص وكلائه. وقد اخفق الفونسو في أن يعقب ولدا برغم جبروته كله، وبرغم زواجه من ثلاث نساء عل التعاقب، وأصبحت فيرارا دويلة بابوية في 1598 بمقتضى اتفاق كان قد أبرم في 1536، بعد أن ظلت طويلاً أقطاعة بابوية- وهكذا انتهى تاريخها الثقافي.
أما بولونيا التي ضعت للحكم البابوي منذ 1506 فقد اتيحت لها في هذا العصر ازدهار ثان في مدرسة للتصوير سادت ايطاليا مدى قرنين ومدت نفوذها إلى أسبانيا وفرنسا وفلاندرا وانجلترا. عاد لودوفيتشو كاراتشي، وهو ابن جزار غني، إلى بولونيا بعد أن درس الفن في البندقية وفلورنسة وبارما ومانتوا. وكان تنتوريتو قد حذره بأنه لم يوهب عبقرية التصوير، ولكنه أحس أن الاجتهاد يمكن أن يقوم مقام العبقرية،


?
    صفحة رقم : 9696    

ثم أن العبقرية لا تعوزه. وبعث بحماسته الحمية في اثنين من أبناء عمومته هما أجوستينو وأنيبالي كاراتشي- وكان أحدهما صائغا والآخر خياطاً، فرحلا إلى البندقية وبارما ليدرسا فن تيشان (تتسيانو) وكوريدجو. فلما عادا انضما إلى لودوفيتشو وفتح الثلاثة أكاديمية "للبادئين عل الطريق (1589). وقد وفروا فيها تعليم اصول الفن وتاريخه وطرائقه، والدرس المدقق لأئمة الفن، ورفضوا التشديد على "اللازمات" أو الأغرابات التي التزمها أي من الفنانين، بل آثروا الجمع بين نعومة رفائيل الانثوية، وبلاغة كوريدجو الرقيقة، وفحولة ميكل أنجيلو، وتنويع ليوناردو الضوئي، وتلوين تيشان الدافئ- كلها من مذهل شامل واحد. هذه "المدرسة الانتقائية" اتاحت لبولونيا أن تنافس روما، عاصمة فنية لايطاليا.
والصور التي خلفها المصورون كاراتشي لا تحصى، وكثير منها محفوظ في أكاديمية بولونيا للفنون الجميلة، وبعضها في اللوفر، ولكنا نجدها في أماكن أخرى كثيرة. ونتاج لودفيتشو أقلها جاذبية، ولكنه يبلغ غايته في صورة "البشارة" المشرقة، وصورة"استشهاد القديسة أورسولا"، وكلتاهما في "قاعة صور الأكاديمية. أما اجوستينو ففنه يتجلى في لوحة "عشاء القديس جيروم" القوية- التي لم تمنعه من الاستجابة للطلب الكثير على نسخ من الصور الفاجرة. وأما أنيبالي فكان ألمع أفراد الأسر موهبة، وقد نقل عن كوريدجو في الخطوط والالوان ندر أن طاولها أبنا عمه. تأمل الاناقة الشهوانية في لوحته "الباخوسية" المحفوظة بقاعة الأوفتزي، وصورة الأنثى الكاملة في "الحورية والاساطير" المحفوظة بقصر بيتي، وصورة الذكر الكامل في "عبقرية الشهرة" المحفوظة بدرسدن؛ وقد أبدع في لوحته "المسيح والمرأة السامرية" (فينا)آية من آيات الفن في هذه الحقبة- صورا جديرة بريشة رفائيل، ومنظرا طبيعيا سبق به بوسان.
وفي عام 1600 قبل أنيبالي وأجوستينو دعوة الكردينال فارنيزي لهما ليذهبا إلى روما ويرسما صالة قصره فيها. فاختارا موضوعا مناسبا ورسما "انتصار باخوس" وهي مهرجان روبنزي من المفاتن الأنثوية.


?
    صفحة رقم : 9697    


ومن روما أنطلق اجوستينو إلى بارما حيث رسم لوحة جصية هائلة للكازينو، ومضى أنيبالي إلى نابلي حيث يرى في متحفها القومي إلى اليوم ذلك المزج الذي أختص به بين لوحة "العائلة المقدسة" ولوحة "فينوس ومارس". وقد ودع أبناء العم الثلاثة الحياة متفرقين، وهم الذين طالما جمع الفن بينهم. فمات أجوستينو في بارما (1602)، وأنيبالي في روما (1609)، ولودفيتشو في بولونيا التي ظل وفيا لها- فكان أول الوافدين عليها وآخر الراحلين عنها (1619).
لقد دربت المدرسة الجديدة نفرا من أشهر رسامي ذلك العهد. وكان لأحدهما- وهو جيدو ريني- من الأتباع أكثر مما كان لاي مصور في أوربا. فبعد تفتح مواهبه المبكر بفضل عناية المصورين كاراتشي، استسلم لإغراء روما (1602)، وانشغل فيها عاما- ث عاد إلى بولونيا ليرسم فيها صورا من حس التقوى، وجمال العاطفة، ما جعلها همزة وصل مرحبا بها بين سنية الايمان وهرطقات الجسد. أما جيدو نفسه فيبدو انه كان مخلصا في تدينه، واثر عنه احتفاظه بعذريته كاملة إلى النهاية. وصورته الذاتية المحفوظة بمتحف الكابيتوليني تظهره في شبابه، فتى وسيما كالصبايا، أشقر الشعر ابيض البشرة ازرق العينين. واروع صوره صورة "الفجر"، الجصية المرسومة على سقف قصر رويبليوزي بروما. وفيها ترى ربة افجر تحلق في الجو ومن خلفها جياد رشاق تجر فيبوس الأشعث في مركبته، تصحبه راقصات ملاح الوجوه حسان الأجساد، يمثلن ساعات اليوم، وكاروبيم مجنح كأنه خاتم المسيحية على هذه النشوة الوثنية. ورسم جيدو أساطير أخرى- مثل "اغتصاب هيلانة" في اللوفر، و "تفاحات الهسبريد" في نابلي، ولوحة "فينوس وكيوبد" الشهوانية في درسدن. وعن العهد القديم أخذ لوحته المشهورة "سوسنه الشيوخ" (الأوفتزي). ولكنه في أكثر رسومه قنع باعادة تصوير الموضوعات القديمة إلى قلوب الناس المحببة إلى الكنيسة، كقصة المسيح وأمه


?
    صفحة رقم : 9698    


وكلها ينضج بما ندد به قساة النقاد من اسراف "مجدلي"(5) في العاطفة. على أنه أجاد في تصوير الرسل، كما تشهد بذلك لوحة "القديس متى" المحفوظة بالفاتيكان، وقد رسم رأسا رائعا للقديس يوسف (بريرا)، وفي لوحة "استشهاد القديس بطرس" بالفاتيكان جرب واقعية كارافادجو الصارمة. وجين عاد إلى العاطفة رسم لقاعات الفن لوحة "القديس سباستيان" المشهورة وفيها يبدو القديس وهو يتلقى السهام في جسده الكامل هادئا
رابط الجأش. وفي كل آثاره نلمح براعة الأسلوب المدرب خير تدريب، ولكنا حين نقارن هذه اللوحات المقدسة، المفرطة الحلاوة، بلوحة رفائيل "ستانتزي" او بسقف كنيسة السستين الذي رسمه ميكل أنجيلو، لا يحركنا في فن ريني غنى اللون ولا نعومة الخط، بل "الافتقار إلى الجرأة". كان يحلم حلما يغتفر له حين كتب له يقول: "أحب أن اخلع على الوجه الذي أرسمه جمالا كالجمال الكامن في الفردوس"(13)، ولكنه فضح نفسه فاخر بأن لديه "مائتي طريقة لجعل العيون تطلع إلى السماء"(14).
اتبع دومنيكينو (دومنكيو تزامبيري) سياسة جيدو في ارضاء الوثنيين والمتدينين جميعا، ولما كان هذان في كثير من الأحيان واحدا فان الخطة أثمرت. كان معقدا أكثر من جيدو، فيه تواضع وحياء، يحب الموسيقى ويعشق زوجته. وقد تعلم هو أيضا التصوير في بولونيا ثم أنطلق إلى روما سعيا إلى الفن والمال. وأثار نجاحه هناك حسد منافسيه فيها، فاتهموه بانتحال صور غيره، فقفل إلى بولونيا راجعا، ولكن جريجوري الخامس عشر استدعاه ليكون كبير معماريي الفاتيكان ومصوريه. فصمم فيلا الدوبرانديني بفراسكاتي، مستعيناً في فنه بشيء من تعدد البراعات الذي


?
    صفحة رقم : 9699    


أثر على رجال النهضة. ولما انتقل إلى نابلي بدأ سلسلة من الصور الجصية في كاتدرائيتها. وكاد يتم مهمته برغم ما لقي من مشاق ضاعف منها مصورو نابلى، ولكنه مات (1641) في الستين من عمره وهو لا يزال في عنفوان فنه. وأعظم لوحاته "عشاء القديس جيروم" المحفوظة بالفاتيكان. واستنادا إلى هذه الرائعة لم يفضل بوسان عليه من المصورين سوى رفائيل(15)، ونحن نحترم هذا التحمس أكثر مما نحترم الحكم. اما رسكن ففي رأيه أن دومنيكينو "عاجز بصورة واضحة عن الإتيان بشيء حسن، أو عظيم، أو صواب، في أي ميدان، أو سبيل، أو فرع، كائناً ما كان(16)"، ونحن لا نعجب بالحكم ولا ببلاغة العبارة هنا.
أما آخر تلاميذ آل كاراتشي الثلاثة المشهورين فقد اشتهر بكنية مؤسفة هي جويرتشينو- "الأحوال"- ما أصاب عينه من تشويه أثر حادث وقع له في طفولته، ولكن أمه سمته جوفاني فرانشسكوباربيري. مارس التصوير فعلا، متأثراً بأسلوب كارافادجو القوي، قبل أن ياتي ليدرس على يد آل كراتشي، لذلك توسط في فنه بين بولونيا وروما. وظل أعزب مثل جيدو، وعاش عيشة التقشف، وأظهر خير فضائل حركة الاصلاح الكاثوليكي في حياته الهادئة الكريمة. وقد خلف لنا الكثير من الصور اللطيفة، منتشرة من روما إلى شيكاغو، وكان أضعف مصوري المدرسة البولونية وأحبهم إلى الناس.
إن النظرية الأساسية التي قامت عليها المدرسة الانتقائية- وهي أن في الاستطاعة تكوين الفنان العظيم بمحاولة الجمع بين مختلف المزايا التي تفرد بها سابقوه- هذه النظرية كانت خطأ بغير شك، ذلك لأن شيمة العبقرية كثيرا ما تكون التعبير عن شخصية وشق مسالك جديدة، بيد أن "أكاديمية البادئين على الطريق" أفادت في بث تقليد ربما اشتطت العبقرية لولاهما وأغربت.
والنجاح الذي أصابته المدرسة يعزى إلى تعاونها الحاضر مع


?
    صفحة رقم : 9700    


حاجات الكنيسة، فقد احتاجت البابوية بعد اصلاحها، كما احتاج اليسوعيون بعد اتساع منظمتهم، إلى ألوان جديدة من التعبير عن قصة المسيحية، ومن التحريض الحي على التقوى والإيمان. وقد مس المصورون البولونيون كل وتر عاطفي في العابدين، وانتشرت الصور التي رسموها للعذراء والمجدلية في العالم المسيحي الكاثوليكي قاصية ودانية. ومنذا الذي ينكر أن الناس أقروا بالفضل لهذه الإلهامات، أو أن الكنيسة حين وفرتها لهم اثبتت أنها أعظم السيكولوجيين في التاريخ فهما لطبائع البشر؟
د- نابلي


كانت الدويلات البابوية قد استوعبت منذ زمن فورلي ورافنا وريمني وأنكونا، ثم ضمت إليها أوربينو عام 1626، وبيزارو عام 1631. وإذا اتجهنا جنوبا، مارين بفودجا وباري وبرنديزي حتى كعب "الحذاء السحري"- ومارين بتارانتو وكروتوني وريدجو كالابريا حتى ابهامه؛ وعرضا من سيلا إلى كاربيديس مخترقين صقلية، وشمالا على طول الساحل الغربي إلى كابوا- وجدنا مملكة نابلي، التي أصبحت ولاية أسبانية منذ عام 1504. هنا كان ثلاثة ملايين من السكان المشبوبي العاطفة، يكدحون في ذل الفقر بين أرجاء هذه المملكة المنبسطة في غير نظام ليدبروا المال الذي تطلبه بهاء عاصمتها المتألقة. وقد رأى أيفلين نابلي عام 1645 وقال في وصفها:-
"إن كبار الحكام يفتنون في الاثراء من كد الشعب التعس لما فيهم من شره شديد المال. وعمارة المدينة إذا قيست بحجمها أفخم من أي نظير لها في أوربا: فالشوارع واسعة جدا، جيدة الرصف، كثيرة الأنفاق لصرف الأقذار، ومن ثم أصبحت غاية في الجمال والنظافة.. وتملك المدينة أكثر من 30.000 كنيسة ودير، وهي خير ما في إيطاليا بناء وزخرفا. والقوم شديدو التظاهر بالوقار الأسباني في لباسهم، وهم يهوون الجياد الفارهة؛ والشوارع حافلة بالوجهاء المتأنقين يمتطون الخيل أو


?
    صفحة رقم : 9701    

يركبون المركبات أو المحفات. أما النساء فملاح الوجوه عموماً، ولكن فيهن شبق شديد)17)".
كان الكل يبدون مرحين، تفيض نفوسهم بالموسيقى والشعر والتقوى، ولكن تحت هذا السطح المرح، وتحت بمصر محكمة التفتيش، كانت النفوس تجيش بالهرطقة والثورة. ففي هذا العهد عاش الفيلسوف تيليزيو ومات (1588)، وفي نولا، القريبة من نابلي، ولد برونو (1548). وفي عام 1598 اشترك كامبانيللا في حركة تمرد استهدفت جعل كالابريا جمهورية مستقلة، ولكن المؤامرة فشلت، وقضى الشاعر الفيلسوف بعدها سبعة وعشرين عاما في غياهب السجن.
وفي عام 1647 انتاب نابلي ضرب من الهوس من جراء انتفاضة من هذه الانتفاضات المسرحية التي عطلت بين والحين الاستغلال الزراعي في إيطاليا. ذلك أن تومازو أنييللو، المشهور بمازانييلو، كان بائع سمك متجولا حكم على زوجته بغرامة كبيرة لتهريبها القمح. فلما فرض الحاكم الأسباني ضريبة على الفاكهة ليمول البحر، وأبى زراع الفاكهة وباعتها أداء الضريبة، دعا تومازو الناس إلى العصيان المسلح. فتبعه مائة ألف إيطالي حين زحف على قصر الحاكم مطالبا بسحب الضريبة. وروع الحاكم فأذعن للطلب، وأصبح تومازو- الذي كان يومها في الرابعة والعشرين- سيداً على نابلي، وحكمها عشرة أيام، أعدم خلالها ألفاً وخمسمائة من الخصوم في حمى الدكتاتورية، وسعر الخبز بثمن أقل، وكان عقاب خباز رفض الامتثال للتسعيرة ان يشوى حياً في فرنه(18)- ولكن أعداء تومازو هم الذين كتبوا التاريخ، وذكروا أن تومازو الذي ارتدى ثوباً من الذهب، أحال بيته المتواضع إلى قصر يرفل في مظاهر السلطان، وطاف حول الخليج في زورق فاخر. ولكن فتاكاً استأجرتهم اسبانيا اغتالوه في 17 يوليو. وأخذ أتباعه الجثة التي قطعت أوصالها فجمعوا الأشلاء وشيعوها في مشهد جليل. وماتت الحركة بعد أن فقدت قائدها.


?
    صفحة رقم : 9702    

استطاع ضرب من الفن الديني القاتم أن يحتفظ بالحياة برعاية المطارنة والحكام. ففي عام 1608 انفقت الكنيسة مليونا من الفلورينات لتشيد في كاتدرائية سان جينارو كنيسة صغيرة تسمى "كابيللا ديل تيزورو" لتكون ضريحا لأنائين يحتويان الدم المتخثر الذي تخلف عن القديس يانواريوس حامي نابلي. وقيل للشعب انه لابد أن يسيل الدم ويجري مرتين في العام لكي تزدهر نابلي وتأمن عائلة فيزوف.
أما التصوير في نابلي فقد ظل يهيمن عليه حينا ثلاثي من الفنانين الغيورين- كورينتزيو، وكارلتشلو، وريبيرا- الذين عقدوا العزم على أن يكون كل التصوير في نابلي وقفا عليهم أو على أصحابهم. وقد بلغ من تهديداتهم لانيبالي كاراتشي أنه اكره على الفرار إلى روما، حيث ادركه الموت بعد قليل من جراء رحلته المحمومة التي أضطر إليها تحت شمس حامية(19). وحين حضر جيدو ريني لزخرفة "كنيسة الكنز" تلقى انذارا بأن يرحل عن نابلي أو يموت، فرحل من فوره تقريبا وهو لم يكد يبدأ مهمته. واركب اثنان من مساعديه بقيا بعد رحيله سفينة كبيرة لتشغيل العبيد وانقطع خيرهم بعدها. ثم حضر دومنيكينو، وأتم أربع صور جصية في الكنيسة على الرغم من أن الصور محيت غير مرة، وأخيرا فر من تهديدات ريبيرا، ثم عاد بعد أن تعهد الحاكم بحمايته، ولكنه مات بعد قليل، ربما سموماً(20).
على أننا لا بد أن نشيد بذكر جوزي أو جوزيبي ريبيرا، برغم كل جرائمه، لأنه أعظم مصوري هذا العهد في إيطاليا. وتدعيه اسبانيا لنفسها استنادا إلى أنه ولد في زاتيفا قرب بلنسيه (1588)، وقد درس حينها على فرانشيسكو دي ريبالتا، ولكنه قصد روما في بواكير شبابه. هناك عاش في فقر مدقع، ينسخ الصور الجصية ولا يجمع غير الفتات، حتى قيض الله له واحدا من هؤلاء الكرادلة عشاق الفن كان لا يزال يشعر بوحي النهضة، فاستضافه في قصره ويسير الغذاء والفراش والألوان


?
    صفحة رقم : 9703    

والكساء. وراح جوزيبي ينسخ في جد ومثابرة لوحات رفائيل في الفاتيكان وصور آل كاراتشي في قصر فارنيزي. ثم فر "الأسباني الصغير" إلى بارما ومودينا ليدرس كوريدجو حين وجد أن الراحة اطفأت حماسته. وعاد إلى روما، وتشاجر مع دومنيكينو. ثم انتقل إلى نابلي. وفيها أو في روما وقع تحت تأثير كارافادجو، الذي زاده اسلوبه الوحشي رسوخا في المذهب الطبيعي القاتم، ولعله أخذه من قبل عن ريبالتا. واستلطفه تاجر صور غني فعرض عليه أن يتزوج ابنته الحسناء. وظن جوزيبي المملق أن الرجل يسخر منه؛ ولكن حين اعاد العرض قفز صاحبنا إلى حياة الزواج والثراء.
ورسم الآن لوحته المسماة "سلخ جسد القديس برتولميو"، وفيها من احتمال الحقيقة الدامي ما جعلها- حين عرضت- تجتذب حشدا ن المتفرجين استهواهم الدم أكثر من الفن. أما الحاكم الأسباني- وهو أوزونا الذي عرفناه متآمرا على البندقية- فقد أرسل في طلب اللوحة والمصور، وافتتن بها، ثم عهد إلى ريبيرا بكل أعمال الزخرفة في القصر. وأقصى الأسباني كل منافسيه، حتى عهد إلى جوفاني لانفرانكو صديقه برسم الصور الجصية لكنيسة الكنز، وقام هو نفسه بتنفيذ صور المذبح التي مثل فيها يانواريوس، القديس الذي لا تؤذيه النار، يخرج من أتون مشتعل دون ان يمسه لهيبه.
بعد هذا أصبح ريبيرا إمام فنه غير منازع في نابلي. وبدا أن في استطاعته إن شاء أن يضارع نعومة رفائيل وكوريدجو دون أن يقع في عاطفية جيدو ريني أو موريللو، وأن يرتفع بواقعية كارافادجو إلى مزيد من القوة بفضل حدة تصوره وعمق تلوينه. وحسبنا أن نستشهد بلوحتين فقط من لوحاته "بييتا" و "الرثاء"، في كنيسة سا مارتينو وديرها- "عمل إذا نظر إليه على أنه تجسيد لجلال الرهيب لهبطت كل التعبيرات المماثلة في ذلك القرن إلى درك المشاهد المسرحية(21)، أوخذ من الأساطير لوحته "أرخميدس". في متحف البرادو- فهو بالضبط ذلك


?
    صفحة رقم : 9704    


الصقلي العجوز المنغضن الذي قد يلتقي المرء باشباهه اليوم في سيراقيوز. وحين انتقل ريبيرا من الكتاب المقدس والتاريخ إلى الشارع، وجد التنويع لفنه في لقطات واقعية من صميم الحياة العامة، فكان في لوحة "الصبي الحافي" المثال الذي احتذاه فلاسكويز وموريللو ".
وعيوب ريبييرا تقفز إلى العين- غلو في العنف، وولع بالتجاعيد والضلوع، وظمأ للدم. وقد لاحظ بايرون أن "هذا الأسباني الصغير لوث ريشته بكل دماء القديسين(22)". أن الوانه الكابية وتشديده على الجانب القاتم من الحياة يروع ويغم، ولكن هذا الأسلوب المظلم وجد تقبلا حاضراً في بلد كنابلي كابد حكم الأسبان وتقلبات مزاجهم. وتنافست عليه كل كنيسة أو دير جديد، كأن فيليب الرابع وحكام نابلي بعض زبائنه الشرهين. وانتشرت رسوم ريبيرا ومحفوراته في أسبانيا انتشارا أوسع من اعمل فيلاسكويز- الذي زاره مرتين في إيطاليا. أما بيته فكان من أفخم بيوت نابلي، وأما ابنتاه فآيتان في الفتنة السمراء، وقد شرفت إحداهما باغواء "دون خوان" آخر لها هو الابن غير الشرعي لفيليب الرابع، الذي هرب بها إلى صقلية، ولكنه سرعان ما ملها وهجرها، فاعتكفت في دير للراهبات ببالرمو. أما ريبيرا فأشرف على التلف كمدا وعارا، والتمس العزاء في صور للعذراء يخلع عليها الملامح التي لم ينسها، ملامح ابنته ماريا روزا التي فقدها، ولكنه مات بعد مأساتها بأربع سنوات (1652).


    صفحة رقم : 9705    

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق