1383
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الدعوة إلى العقل -> العلوم
2- العلوم
ومع ذلك، فإن تقدم التجارة والصناعة كان يفرض تقدم العلوم. وكان من العسير أن ننسق النزعات الأفلاطونية والفنية في عصر النهضة مع الاقتصاد المتوسع. واشتدت الحاجة إلى نهج عقلي يمكن أن يعالج الأرقام والحقائق. قدر ما يعالج النظريات والأفكار. ونشطت تجريبية أرسطو بعد تجريدها من أقنعة الفلسفة الهللينية المتأخرة في الإسكندرية ومن أقنعة فلسفة العصور الوسطى. وقد أفسح توكيد الفلسفة الإنسانية الإيطالية على أمجاد الآداب القديمة وعظمتها، نقول أفسح الطريق لتركيز أقل دقة على الحاجيات العملية الراهنة، وكان لزاماً على الناس أن تعد وتحصي، وأن تقيس وتصمم أو تخطط، في دقة وسرعة تحكمها المنافسة. واحتاج الناس إلى أجهزة للرصد والتسجيل، ونشأت المطالب التي تحققت باختراع اللوغاريتمات والهندسة التحليلية وحساب المثلثات والآلات، والمجهر (الميكروسكوب)، وطرق الإحصاء، والموجهات الملاحية، والأجهزة الفلكية، وتوافرت الحياة في أوربا الغربية منذ الآن فصاعداً، وعلى مواجهة تلك الحاجيات.
واقترح جون نابير في إسكتلندة 1614، وجوست بورجي في سويسرا 1620، كل على حدة، اقتراحاً طريقة اللوغاريتمات (أي منطق الأرقام) يمكن بواسطتها إجراء
صفحة رقم : 9585
عمليات الضرب والقسمة وإيجاد الحدود في سهولة ويسر من الجداول الرياضية (جداول اللوغاريتمات) بأساس معين. وفي 1616 عدل هنري برجز الطريقة من أجل الحساب العادي، بجعل الأساس 10 ونشر جداول تعطى لوغاريتمات الأعداد من 1 إلى 20.000. وللآن يمكن إيجاد حاصل ضرب عددين، بأن يستخرج من مثل هذه الجداول العدد الذي يكون مجموع لوغاريتمه هو مجموع لوغاريتمي العددين المطلوب ضربهما. كما يمكن قسمة أ على ب، بإيجاد العدد الذي لوغاريتمه هو الفرق بين لوغاريتمي أ و ب. (لو أ ب= لو أ - لو ب. وأعد وليم أوترد Oughtred (1622) وادموند جنتر (1624) مساطر حاسبة يمكن بواسطتها إجراء العمليات الحسابية في ثوان قليلة. وقد وفرت هذه المخترعات نصف الوقت الذي كان يصرفه الرياضيون والفلكيون ورجال الإحصاء والملاحون والمهندسون، في عملياتهم الحسابية، وأطالت في الواقع حياتهم(9). ووجه كبلر، الذي استخدم الطريقة الجديدة في حساب حركات الكواكب، مديحاً حماسياً إلى لورد مارشستون (في إسكتلندة) 1620، ولم يكن يدري أن نابيير كان قد قضى نحبه قبل سنوات ثلاث، وكان نابيير قد وقع في خطأ يسير في التقدير والحساب، حين حدد أن العالم سينتهي فيما بين عامي 1688 و1700(10).
وظل الرياضيون والفلكيون متكاتفين تكاتفاً وثقاً من أجل حساب حركات الأجرام السماوية، وحساب التقويم، وتطلب توجيه الملاحة معالجة بارعة معقدة للقياسات الفلكية. ووضع توماس هاريوت، بوصفه عالماً رياضياً، الشكل القياسي للجبر الحديث، وأدخل علامات الجذر "أكبر من" و "أقل من" وأحل الحروف الصغيرة محل الكبيرة القبيحة المنظر، لتدل على الأرقام، وعثر مصادفة على الطريقة الناجحة، وهي في وضع كل المقادير في المعادلة في طرف واحد، ووضع الصفر في الطرف الثاني (المعادلة الصفرية) وبوصفه فلكياً اكتشف البقع الشمسية، وقام بأرصاده لتوابع المشتري، مستقلاً عن جاليلو. إن جورج تشابمان نفسه، وهو من فحول العلماء، قدر أن علم هاريوت "لا يباريه فيه أحد، وأنه لا حدود له(11)".
صفحة رقم : 9586
وكان علم الفلك لا يزال ينضح بالتنجيم. وكان تنجيم "الساعة" يقرر هل تلائم النجوم مشروع الساعة أو لا تلائمه. وتنبأ التنجيم "الشرعي أو القضائي" بالأحداث عامة، في تعميم غامض متسم بالحكمة عادة. أما التنجيم "الطبيعي" فكان يكشف عن قدر الفرد وحظه من برجه-أي اختبار موقع النجوم ساعة مولده-وكل هذا موجود في روايات شكسبير (ولو أن لا يدل على إيمانه به)، وفي أيامنا هذه. وتقول نظرية التنجيم بأن القمر يحدث المد والجزر، والبكاء، والجنون، واللصوصية (رواية شكسبير هنري الرابع 1-2-15). وكانت كل علامة في البروج تتحكم في طبيعة وفي مصير أعضاء بعينها في جسم الإنسان (الليلة الثانية عشرة الفصل الأول، 3-146-151). واستخدم جون دي Dee الرموز في الزمن بإدماج التنجيم والسحر والرياضيات والجغرافيا، واشتغل بالعرافة البلورية وكتب Treatise Of The Rosia Crucean Secrets، واتهم بممارسة السحر ضد الملكة ماري تيودور (1555) ورسم خرائط جغرافية ومائية للملكة اليزابث. واقترح طريقاً عبر الشمال الغربي إلى الصين. وابتدع عبارة "الإمبراطورية البريطانية" وألقى محاضرات عن أقليدس أمام جماهير غفيرة في باريس، ودافع عن نظرية كويرنيكس، وأيد استخدام التقويم الجريجوري (قبل أن تروض إنجلترا نفسها على هذه البدعة البابوية بمائة وسبعين عاماً). ومات عن إحدى وثمانين سنة، وكانت حياة حافلة. وعزز تلميذه توماس دجز Digges تقبل فرضية كوبرنيكس في إنجلترا، واستبق فكرة برونو عن الكون اللانهائي(12). واستخدم توماس وأبوه ليونارد دجز "العدسات البلورية" ومن المحتمل أنها كانت بشيراً بظهور التلسكوب. واخترع وليم جاسكوان (حوالي 1639) المصغر (المكرومتر: أداة تستعمل مع التلسكوب أو في الميكروسكوب لقياس الأبعاد والزوايا البالغة الصغر) الذي مكن الراصدين من ضبط التلسكوب بدقة لم يسبق لها مثيل. أما أرميا هوروكس، وهو قسيس فقير من لنكشير مات في سن الرابعة والعشرين، فقال أن للقمر مداراً بيضوياً. وتنبأ-كما رصد (1639) لأول مرة سجلها التاريخ- انتقال الزهرة حول الشمس. وساعدت تأملاته في القوى التي
صفحة رقم : 9587
تحرك الكواكب، نيوتن في نظرية الجاذبية الأرضية.
وفي نفس الوقت كانت دراسة المغناطيسية الأرضية تمهد الطريق أمام نيوتن. فان جورج هارتمان، وهو من رجال الدين الألمان (1544) وروبرت نورمان، وهو إنجليزي يشتغل بصنع البوصلة (1576)، اكتشفا، كل منهما بمفرده بعيداً عن الآخر، انحراف الإبرة المغناطيسية، حين تكون معلقة تعليقاً حراً من مركز ثقلها، وميلها إلى الانحراف عن الوضع الأفقي إلى وضع يصنع زاوية مع سطح الأرض. وذهب نورمان في كتابه "الجديد الجذاب" إلى القول (1581). بأن "عامل الجذب" الذي تنحرف إليه الإبرة يقع في الأرض نفسها(13).
وجاء بعد هذه الطليعة الباهرة، وليم جلبرت، طبيب إليزابث. وبعد سبعة عشر عاماً من البحث والتجربة-التي اعتمد في تمويلها على ثروته الموروثة، كما عاونته الملكة أحياناً-نشر النتائج التي توصل إليها في أول مؤلف إنجليزي كبير للعلوم: "في المغناطيس... والمغناطيس الأعظم وهو الأرض" (1600). لقد وضع إبرة بوصلة محورية، على التعاقب: في نقطة مختلفة، على حجر مغناطيس كروي. وسجل بخطوط على الكرة الاتجاهات التي اتجهت إليها الإبرة على التوالي، ومد كل خط ليشكل دائرة كبيرة حول الحجر، ووجد أن كل هذه الدوائر قطعت الكرة في نقطتين متقابلتين تماماً، وكان هذان هما القطبان المغناطيسيان اللذان اعتبرهما جلبرت خطأ، في حالة الأرض، القطبين الجغرافيين. ووصف الأرض بأنها مغناطيس ضخم، وفسر، بناء على ذلك الإبرة المغناطيسية، وأظهر أن أي قضيب حديدي يترك لمدة طويلة في وضع شمالي جنوبي لا بد أن يصبح ممغطساً. والمغناطيس الذي يوضع على أي من قطبي حجر المغناطيس الكروي، يأخذ وضعاً عمودياً على الكرة. وإذا وضع في أية نقطة متوسطة بين القطبين (وهي النقط التي تكون خط الاستواء المغناطيسي) يأخذ وضعاً أفقياً. وانتهى جلبرت إلى أن انحراف الإبرة يكون أعظم، كلما وضعت أقرب إلى القطبين الجغرافيين للأرض. وعلى الرغم من أن هذا لم يكن صحيحاً تماماً، فقد أكده تقريباً هنري هدسن في ارتياده
صفحة رقم : 9588
المنطقة المتجمدة الشمالية (1608). ومن ملاحظاته الخاصة، رسم اتجاهات لحساب خط العرض من درجة الانحراف المغناطيسي. وذهب إلى أنه "من حول جسم مغناطيسي تنتشر القوة المغناطيسية في كل ناحية". ونسب دوران الأرض إلى تأثير هذا المجال المغناطيسي. وانتقل جلبرت من هذا إلى دراسة الكهرباء-ولم يكن قد تم فيها شيء يذكر منذ القدم-وأثبت أن ثمة مواد أخرى كثيرة-غير الكهرمان، يمكن بحكها أن تولد كهرباء بالاحتكاك. ومن اللفظة اليونانية لكلمة Amber (كهرمان). كون لفظة Electric (كهرباء) لتدل على قوة تحرف الإبرة المغناطيسية. واتقد بأن كل الأجسام السماوية مزودة بالمغناطيسية، واستخدم كبلر هذه الفكرة لتفسير حركة الأجسام السماوية. والحق أن معظم عمل جلبرت كان مثالاً يدعو إلى الإعجاب للنهج التجريبي، وأن آثاره على العلوم والصناعة لا حدود لها.
وظهر تقدم العلوم أكثر في جهود النفوس المغامرة أو المولعة بالتحصيل والكسب، لاكتشاف "المغناطيس الأعظم" لأغراض جغرافية واقتصادية. وفي 1576 نشر سير همفري جلبرت (ولا يمت بصلة إلى وليم جلبرت) "مقالاً موحياً.... عن طريق جديد إلى الصين". مقترحاً الإبحار في اتجاه الشمال الغربي، عبر كندا أو حولها. وفي نفس العام أبحر سير مارتن فروبشر بثلاث سفن صغيرة ليكتشف طريقاً مثل هذا. وغرقت إحدى سفنه، وهجر الثانية ملاحوها، وسار هو قدماً بالسفينة "جبراييل" البالغة الصغر والتي لم تتجاوز حمولتها 25 طناً. ووصل إلى بفن لاند، ولكن الاسكيمو حاربوه، فعاد إلى إنجلترا طلباً لمزيد من الرجال والمؤن. وانحرفت رحلاته بعد ذلك عن الجغرافيا للبحث عن الذهب دون جدوى، ثم تمسك جلبرت بضالته المنشودة، وهي الطريق الشمالي الغربي إلى الصين، ولكنه أغرق وهو يحاول ذلك (1583). وبعد ذلك بأعوام أربعة اندفع جون دافيز في المضيق المسمى اليوم باسمه، وحارب الأرمادا، ثم أنطلق إلى البحار الجنوبية مع توماس كافندش واكتشف جزر فوكلند، وقتله القراصنة اليابانيون بالقرب من سنغافورة (1605) وارتاد كافندش الجزء الجنوبي من أمريكا
صفحة رقم : 9589
الجنوبية وأكمل ثالث طواف حول الكرة الأرضية، ومات في البحر (1592)، وسار هنري هدسن (1609)، وفي رحلة أخرى وصل إلى خليج هدسن، ولكن بحارته الذين ذهبت الصعاب بعقولهم، واشتد بهم الحنين إلى الوطن، تمردوا عليه، وأنزلوه هو وثمانية معه في قارب صغير مكشوف، (1611) ولم يسمع لهم ذكر بعد ذلك قط، واكتشفت وليم بفن الخليج والجزيرة اللتين تحملان اسمه، وغامر حتى وصل إلى خط عرض 77.45-وهو ما لم يصل إليه أحد مرة أخرى قبل مضي 236 سنة-وكان له امتياز آخر، وهو إيجاد خطوط الطول لأول مرة برصد القمر. وشهد ريتشارد هاكلوت في هذه السفن المأخوذ من خشب البلوط فترة من البسالة والرعب تفوق أية الياذة، ونشر قصصها في مجلدات ظهرت تباعاً، من أحسن ما عرف منها هو ما نشر تحت اسم "الإبحارات الرئيسية، رحلات الأمة الإنجليزية وكشوفها" (1579، 1598 ،1600)، وزاد صمويل بوركاس في هذا السجل بكتاب "رحلات بوركاس (1625). وهكذا كان الطمع في الحصول على الذهب، والتحمس لمواجهة الأخطار ومشاهدة البلاد البعيدة سبباً في تقدم الجغرافيا دون قصد.
وكان احسن ما حققه العصر في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا من عمل القارة. أما في إنجلترا، على أية حال، فان سير كنلم دجبي Kenelm Digby اكتشف ضرورة الأوكسجين لحياة النبات، كما أيد روبرت فلد Fludd، وهو متصوف وطبيب، فكرة التطعيم Jenner بمائة وخمسين عاماً. واستمرت وصفات الدواء تعتمد على إثارة الاشمئزاز ليكون للأدوية أثرها. وأوصى الدستور الرسمي للأدوية في لندن 1618، بالمر، وعصارة النبات (الدم) وتشريط الجلد، وعرف الديك، والفراء، والعرق واللعاب والعقارب وجلد الثعبان وحمار القبان (حشرة) ونسيج العنكبوت، على أنها وسائل للعلاج، وكلن فصد الدم أول شيء يلجئون إليه(14)-وعلى الرغم من ذلك، فان هذه الحقبة تفاخر بتوماس بار "بار العجوز Old Parr" الذي قدم إلى شارل الأول 1635، على أنه يتمتع بصحة جيدة مع أنه كان كما زعموا، في الثانية والخمسين بعد المائة من عمره. ولم
صفحة رقم : 9590
يدع بار يعرف سنه على التحقيق، وكلن ولاة الأمور في أبرشيته دونوا تاريخ ميلاده في 1483، وادعى أنه التحق بالجيش في 1500، وتذكر تفاصيل حل الأديار في عهد هنري الثامن. (1536)، فقال له الملك شارل الأول "لقد عمرت أطول من أي أناس آخرين، فماذا فعلت أكثر مما فعلوا هم؟" فأجاب بار، بأنه كان عمره فوق المائة حين ضاجع فتاة فحملت، وأنه كفر عن خطيئته بأشد كفارة. وكان بار قد عاش، تماماً تقريباً، على البطاطس والخضر والخبز الجاف واللبن المخيض، ونادراً ما ذاق اللحم. ولفترة من القوت أصبح بار مشهوراً في ردهات لندن وحاناتها، وكانوا يقدمون له فيها ما لذ وطاب، حتى أنه مات في بحر عام من لقائه مع الملك. وفحص سير وليم هارفي جثته بعد وفاته فوجد أنه غير مصاب بتصلب الشرايين. وشخص موته بأنه نتيجة لتغيير الهواء والغذاء(15).
إن هارفي هو الذي هيأ لهذا العصر ذروة المجد العلمي بشرحه للدورة الدموية، وهو "أجل حدث في تاريخ الطب منذ عهد جالينوس(16)". ولد في فولكستون (1578)، ودرس في كمبردج ثم في بادوا على فابريزيو دكو ابندانت، فلما عاد أقام في لندن ومارس الكب فيها، وأصبح الطبيب الخاص لجيمس الأول ثم شارل الأول، وعكف صابراً مثابراً، سنين طوالاً، على إجراء التجارب والتشريح، على الحيوانات والجثث، ودرس، تدفق الدم ومجراه في الجروح. ووصل إلى نظريته الأساسية في 1615(17). ولكنه نشرها، متأخراً، في فرانكفورت 1628، على أنها "تجارب متواضعة في تشريح الجثث ودماء الحيوان". وهي أول وأعظم أثر في الطب في إنجلترا.
وإن الخطوات التي تدرج فيها الكشف الذي توصل إليه هارفي لتوضيح عالمية العلم. فإن وظائف القلب والدم، ظلت لأكثر من ألف عام، تفسر كما فسرها جالينوس في القرن الثاني الميلادي. وكان جالينوس قد افترض أن الدم يتدفق إلى الأنسجة من الكبد والقلب سواء بسواء، وأن الهواء يمر من الرئتين إلى القلب، وأن الشرايين والأوردة بها مجريان للدم، يدفعهما ويستقبلهما القلب، وفي حركة مد وجزر، وأن الدم يجري من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من القلب عبر
صفحة رقم : 9591
مسام في الحجاب الحاجز بين التجاويف. وعارض ليوناردو دافنشي (حوالي 1506) فكرة مرور الهواء من الرئتين إلى القلب، وأنكر فيساليوس (1543) وجود مسام في الحجاب الحاجز. وكشفت رسومه البارعة للشرايين والأوردة عن أن نهاياتها أو أطرافها دقيقة ومتلاصقة حتى لا تكاد توحي بالمرور والدورة. وأوضح فابريزيو أن الصمامات في الأوردة تجعل من المستحيل تدفق الدم الوريدي من القلب. وتلاشت نظرية جالينوس. واكتشف ميشيل سرفيتس (1553)، وريالدوكولومبو (1558)، الدورة الدموية الرئوية-أي مروره من الجانب الأيمن من القلب عبر الشريان الرئوي إلى الرئتين ومن خلالهما، وتنقية الدم هناك بوساطة التهوية، وعودته عن طريق الوريد الرئوي إلى الجانب الأيسر من القلب. واستبق أندريا سيسالبينو (حوالي 1571)-كما سنرى النظرية الكاملة للدورة، وتحولت النظرية إلى حقيقة واضحة جلية بفضل ما قام به هارفي.
وبينما كان فرانسيس بيكون، المريض الذي يتولاه هارفي، يمجد الاستقراء، توصل هرافي إلى النتيجة الرائعة عن طريق الجمع اللافت للنظر بين الاستنتاج والاستقراء. إنه بتقديره كمية الدم المندفع من القلب في كل انقباض أو تقلص بأنها نصف أوقية سائل، حسب أنه في ساعة، لا بد أن يصب القلب في الشرايين، ما يزيد على 500 أوقية سائل، وهي كمية تزيد على ما يحتويه الجسم كله، فمن أين يأتي كل هذا الدم. وبدا من المستحيل أن هذا القدر الكبير يمكن أن ينتج من ساعة إلى ساعة، من هضم الغذاء. فاستنتج هارفي أن الدم الذي يخرج من القلب يعاد إليه، وأنه ليس ثمة طريق آخر لهذا سوى الوردة. وبفضل التجارب والملاحظات البسيطة-وعلى سبيل المثال، الضغط بالإصبع على أي وريد سطحي-تبين في الحال وبسهولة، أن الدم الوريدي تدفق من الأنسجة نحو القلب.
عندما استعرضت مجموعة الشواهد التي لدى، سواء ما استقيتها من تشريحات الأحياء وتأملاتي فيها، أو من تجاويف القلب والأوعية التي تدخل إليها أو تخرج منها.... والتي كثيراً ما أمعنت التفكير فيها بشكل جدي.... ما عساها تكون كمية
صفحة رقم : 9592
الدم التي تنقل... ووجدت من المستحيل أن تكون مستمدة من عصارات الغذاء الذي يدخل إلى الجسم، دون أن تجف الأوردة تدريجياً، من جهة، وأن تنفجر الشرايين لفرط امتلائها بالدم، من جهة أخرى، إلا إذا وجد الدم له، بطريقة ما، مخرجاً من الشرايين إلى الأوردة، ومن ثم يعود إلى الجانب الأيمن من القلب... أقول إني عندما استعرضت كل هذه البيانات والشواهد، بدأت أفكر في انه يمكن أن يكون هناك، "حركة، كما لو كانت في دائرة."... والآن يمكن أن أستبيح لنفسي أن أدلي بفكرتي عن الدورة الدموية(18).
وتردد طويلاً في نشر النتائج التي توصل إليها، لما كان يعلم من روح المحافظة التي سادت مهنة الطب في عصره. وتنبأ بأن فرد فوق الأربعين لن يقبل نظريته(19). وروى أوبري "سمعته يقول إنه بعد صدور كتابه: الدورة الدموية، تدهور تدهوراً شديداً في عمله، حتى أعتقد السوقة أنه قد اختل عقله(20). وحتى أثبت مالبيجي Malpighi (1660) وجود الأوعية الشعرية التي تحمل الدم من الشرايين إلى الوردة، لم تكن دنيا العلم تسلم بأن الدورة الدموية الحقيقية واقعة. إن الفكرة الجديدة أضاءت كل مجالان الفسيولوجيا تقريباً وأثرت على المشكلة القديمة، مشكلة العلاقة المتبادلة بين الجسم والعقل. ويقول هارفي:
إن أي شعور في العقل، مصحوب بألم أو لذة، بأمل أو خوف، هو سبب في إثارة يمتد أثرها إلى القلب... وفي كل عاطفة تقريباً... تتغير ملامح الوجه، ويظهر الدم جارياً هنا وهناك. وفي حالة الغضب تتقد العينان، ويتقلص إنسان العين. وفي حالة التواضع تغمر الوجنات حمرة الخجل. أما في حالة الشهوة فما أسرع ما يتضخم أو ينتفخ العضو بالدم(21).
صفحة رقم : 9593
وظل هارفي في خدمة شارل حتى الخاتمة الأليمة التي مني بها الملك تقريباً، فقد رافقه حين طوحت الثورة بالملك إلى خارج لندن، كما رافقه في معركة ادجهل Edgehill، حيث نجا من الموت بأعجوبة(22). وفي نفس الوقت نهب الثوار داره في لندن، وعبثوا بمخطوطاته ومجموعات التشريح التي كان يحتفظ بها. وربما كان هارفي قد حلب على نفسه عداوة كثير من الناس نظراً لحدة طبعه وآرائه. ولم يعتبر هارفي الإنسان "إلا قرد ضخماً شريراً كريهاً" كما قال أوبري، وذهب إلى "أننا نحن الأوربيين لم نعرف كيف نسوس نسائنا ونحكمهن، وان الأتراك هم الشعب الوحيد الذي استطاع أن يستخدمهن بحكمة(23). ولما كان محتفظاً بنشاطه وحيويته وهو في سن الثالثة والسبعين، فانه نشر رسالة في "علم الأجنة" (1651)، نبذ فيها الاعتقاد السائد في التوالد التلقائي لكائنات دقيقة من أجسام متحللة. واعتقد هارفي "بأن كل الحيوانات حتى هذه التي تنتج صغارها أحياء، بما في ذلك الإنسان نفسه-تتطور وتخرج من بيضة، وصاغ عبارة "كل حيوان يخرج من بيضة". ومات بعد ذلك بست سنين بسبب شلل أصابه، واهباً معظم ثروته التي تبلغ عشرين ألف جنيه لكلية الأطباء الملكية، وعشرة جنيهات لتوماس هوبز "رمزاً للمحبة".
صفحة رقم : 9594
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق