إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 1 مايو 2014

1360 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> على سفوح بارناسوس -> إدموند سبنسر 4- إدموند سبنسر 1552 - 1599





1360


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> على سفوح بارناسوس -> إدموند سبنسر

4- إدموند سبنسر


1552 - 1599


وكتب سبنسر "مات سدني، مات صديقي بهجة الدنيا وزينتها(29)" إن سدني هو الذي أمد سبنسر بالشجاعة لينظم القريض. نشأ إدموند ابناً لا يبشر بحسن المستقبل لصانع ملابس باليومية، وكان ينتمي من بعيد لآل سبنسر الإرستقراطيين، مما لم يتح للصبي أية فرصة للظهور. ومكنته أموال البر والصدقات من اللحاق بمدرسة Merchant Taylors ثم كلية بمبروك في كامبردج حيث عمل ليكسب أجر إقامته بالقسم الداخلي بها. وما أن بلغ سن السابعة عشرة حتى كان يكتب، بل حتى ينشر، شعراً. وحاول هارفي أن يوجهه إلى القوالب والموضوعات الكلاسيكية القديمة. وحاول سبنسر في تواضع أن يرضيه، ولكن سرعان ما تمرد على القيود التي فرضتها الأوزان البغيضة على عروس الشعر عنده. وفي 1579 عرض على هارفي القسم الأول من ملحمته "الفيري كوين"، ولم يتذوق هارفي محتواها المجازي الذي يشبه أسلوب العصور الوسطى، ولم يقدر وزنها الشعري الرقيق، ونصح الشاعر أن يتخلى عن مشروعه، ولكن سبنسر تابع العمل.
إن هارفي، النكد المجهم المشاكس، هو الذي هيأ لسبنسر مكاناً في خدمة ارل ليستر. وهناك التقى الشاعر بسدني وأحبه وأهدى إليه "تقويم الراعي" (1579) قلد فيها من حيث الشكل تيوكريتس، ولكنه اتبع فيها خطة التقاويم الشعبية المألوفة التي تحدد أعمال الرعاة تبعاً لفصول السنة. وقامت فكرتها الرئيسية على حب غير مرغوب فيه من جانب الراعي كولين كلوت لروزيلاند القاسية. وليست مما يوصي أحد بقراءتها، ولكن إطراء سدني لها أكسب سبنسر شيئاً من الإقبال عليها أو التهليل لها. وارتضى الشاعر، رغبة منه في كسب العيش، منصب سكرتير آرثر لوردجراي نائب الملكة الجديد في إيرلندا (1579)، ورافقه إلى ساحة القتال. وشهد وأقر ما عمد إليه آرثر من ذبح من استسلموا من الإيرلنديين في سمروك. وبعد سبع سنوات من الخدمة الكتابية للحكومة الإنجليزية في إيرلندا، منح من الأملاك المصادرة من الثوار الإيرلنديين، قصر كلكولمان Kilcolman على الطريق بين مالو وليمرك، بالإضافة إلى 3000 فدان.



وهناك أخلد سبنسر إلى حياة الزراعة الهادئة وانصرف إلى الشعر الرقيق. وخلد ذكرى موت سدني بمرثية بليغة ولكنها مطولة عنوانها "أستروفيل" (1586)، ثم صقل وطول في ملحمته "فيري كوين" وعبر البحر، وهو ممتلئ حماسة إلى إنجلترا، وقدمه رالي إلى الملكة، فكتب لها إهداء "الأجزاء" الثلاثة الأولى، "لتبقى في ظل خلود شهرتها. "وليضمن الترحيب بالقصيدة صدرها ببضعة أبيات في المديح موجهة إلى كونتيس بمبروك، وليدي كارو، وسير كرستوفر هاتون، ورالي، وبرجلي، ووالسنهام، واللورد داث هنزدن وبكهيرست وجراي وهوارد افنجهام، وارل إسكس ونرثمبرلند وأورمند وكمبرلند. ولما كان بيرجلي يناصب ليستر العداء ويحمل له الأضغان، فانه قال عن سبنسر إنه شاغر خامل، ولكن كثيراً من الناس هللوا له بوصفه أعظم شاعر منذ عهد تشوسر. وتلطفت الملكة فمنحته معاشاً سنوياً قدره خمسون جنيهاً، وتلكأ بيرجلي، بوصفه وزير الخزانة، في دفعه. وكان سبنسر يأمل في شيء أكثر سخاء. فلما خاب أمله عاد أدراجه إلى قصره في إيرلندا ليتابع ملحمته المثالية، وسط الهمجية والكراهية والخوف.
وكانت خطته أن تكون القصيدة في أثني عشر جزءاً، نشر الثلاثة الأولى منها في 1590، وثلاثة أجزاء أخر في 1596. ولم يذهب إلى أبعد من هذا. ومع هذا فإن الفيري كوين ضعف الإلياذة وثلاثة أمثال "الفردوس المفقود". وقدم كل جزء على أنه قصة رمزية- للقداسة والاعتدال وضبط النفس والعفة والصداقة والعدالة واللياقة والكياسة، وقصد الأجزاء جميعها "أن تصوغ أو تشكل سيداً ماجداً" أو إنساناً نبيلاً ذا خلق فاضل وديع(30)، بتزويده بالأمثلة التي تعين على تشكيله، وكل هذا يتفق مع فكرة سدني في أن الشعر عبارة عن تعاليم أخلاقية تنقلها نماذج متخيلة. وإذ التزم سبنسر جانب الحشمة والوقار، فانه لم يجز لنفسه إلا يضع قطع قليلة شهوانية أو حسية. فهو يلقي نظرة عجلى على "صدر عاجي عار للانقضاض عليه غنيمة باردة(31)"، ولكنه لا يذهب إلى أبعد من هذا. وإنه في ستة من الأقسام الرئيسية ليشدو بأعلى أنغام حب الفروسية والشهامة، باعتباره خدمة خالية من الأثرة للسيدات والجميلات.
أما نحن الذين نسينا الفروسية والشهامة، فإننا نضيق ذراعاً بالفرسان وتربكنا المجازات


والاستعارات والقصص الرمزية، فان ملحمة الفيري كوين، تكون لنا في أول الأمر بهيجة سارة يشل غريب، ولكنها أخيراً شيء لا يحتمل. إن تلميحاتها السياسية التي فرح بها أو استاء لها المعاصرون، فقدت قيمتها لدينا، وإن المعارك اللاهوتية التي تشير إليها لهي الإرهاصات الراسبة في صبانا، وإن قصصها لهو في أحسن الأحوال، أصداء شجية لفرجيل وآريستو وتاسو، وليس ثمة قصيدة في الأدب العالمي تفوق "الفيري كوين" في أفكارها المتكلفة، وتغييراتها الكئيبة في الأوضاع السوية للكلمات والأسلوب، وألفاظها المهجورة وتعبيراتها الجديدة الطنانة، ومبالغاتها الرومانتيكية الحمقاء التي لم تلطفها ابتسامة آريستو. ومع ذلك فان كيتس وشللي أحبا بنسر وجعلاه "شاعر الشعراء" فلماذا؟ ألان شيئاً من الجمال الحسي للشكل عوض عن سخف العصور الوسطى وأسلوبها، أم لأن فخامة الوصف زركشت شيئاً زائفاً غير واقعي؟ وكان المقطع الجديد ذو الأبيات التسعة صعباً من ناحية التعبير الفني، وكثيراً ما يروعنا سبنسر بإتقانه الكامل وسهولته الدافقة. ولكنه، كم من مرة أفسد منطقه من أجل قافية!
وانقطع عن ملحمة "فيري كوين" لينظم قصائد موجزة ربما كانت تبرر شهرته، من ذلك قصيدته "حبي الصغير"، على شكل السونيت، التي كانت تشبه هوى بترارك ونزواته وخيالاته. أو إنها ربما كانت تعكس أيام خطبته التي دامت عاماً لإليزابث بويل. وقد تزوجها في 1594، وشدا بأفراح الزفاف في أرق قصائده Epithalamium وإنه ليقتسم معنا مفاتن العروس، دون أثرة أو أنانية.
يقول:
أنبئوني يا بنات التجار هل رأيتم

مخلوقاً جميلاً مثل هذا في بلدكم من قبل

بمثل هذه الملاحة والوسامة والرقة مثلها.

تزينها نعمة الجمال وكنز الفضائل

وعيناها الواسعتان وكأنهما لؤلؤتان تشعان نوراً،

وجبهتها الناصعة البياض كالعاج



ووجنتاها وكأنهما تفاحتان كستهما الشمس بحمرة الورد،

وشفتاها كثمرتين من الكريز تسحران الرجال ليقضموهما.

وصدرها الذي يشبه وعاء من قشدة لم تتخثر بعد،

وثدياها أشبه بزنبقتين تفتحتا

وعنقها الناصع البياض مثل عمود من المرمر،

وجسمها بأسره وكأنه قصر جميل...

ولما انتهى الحفل والولائم أمر مدعويه أن ينصرفوا دون إبطاء، قائلاً:
هيا، الآن اكففن أيتها الآنسات، لقد انتهت مسراتكن،

كفى، إن النهار كله كان لكن

والآن ولى انهار، والليل يرخي سدوله.

فأحضرن العروس إلى منزل العريس...

وضعنها في مخدعها

وأحطنها بالزنبق والبنفسج

وضعن الأستار الحريرية فوقها،

مع الملاءات المعطرة والأغطية المزركشة.

وليكن الليل هادئاً ساكناً

دون زوابع عاصفة أو شجارات صاخبة محزنة.

كما رقد جوبيتر مع ألكمينا...

ولتكف الآنسات والشبان عن الغناء،

ولا تدعن الغابات يجبنهم أو يرجعن أصداءهم.

فهل ثمة عذراء زفت بمثل هذه العذوبة والحلاوة؟

ودعم سبنسر هذا التحليق، وهذه الانطلاقة "بأربع ترانيم" (1596) يمجد فيها الحب الدنيوي والجمال الدنيوي، والحب الإلهي والجمال الإلهي. ونهج نهج أفلاطون وفيسينو، وكاستليوني، ومهد الطريق للشاعر كيتس، فأقر بما اقترف من "أعمال شريرة كثيرة"، فقرر في نفسه أن ينفذ إلى أعماق الجمال الطبيعي



ليجد ويشعر بالجمال الإلهي الذي يكمن بدرجات متفاوتة في كل ما هو على الأرض.
ولما كان سينسر يعيش على بركان من الشقاء في إيرلندا، فانه كان من الموت قاب قوسين أو أدنى، في كل يوم. وقبل أن ينفجر بركان الثورة ثانية، كتب في نثر رقيق (لأن الشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يكتب نثراً جيداً) "رأيه في الحالة الراهنة في إيرلندا" يدافع عن طريقة أفضل لاستخدام الأموال وترتيب الجنود الإنجليز لإخضاع الجزيرة. وفي أكتوبر 1598 قام الايرلنديون الذين جردوا من أملاكهم في مونستر بثورة وحشية، وطردوا المستوطنين الإنجليز وأحرقوا حصن كلكلمان. ونجا سبنسر وزوجته بحياتهما وهربا إلى إنجلترا. وبعد شهور ثلاثة، وقد انتهى رصيد الهوى والمال، قضى الشاعر نبه (1599)، ودفع ارل اسكس الأصغر- الذي قدر له أن يلحق بسبنسر بعد فترة وجيزة، ودفع نفقات الجنازة، التي سار فيها النبلاء والشعراء الذين نثروا الأزهار، وألقوا المراثي على قبره في كنيسة وستمنستر.
وسادت إنجلترا الآن لهفة جنونية على نظم "السونيت"، نافست اللهفة على الدراما، وكلها تقريباً غاية في براعة الشكل، ذات قالب واحد من حيث الموضوع الرئيسي والعبارة، وكلها تقريباً موجهة إلى العذارى أو الحماة، تنعى عليهم أنهم يغلون أيديهم إلى أعناقهم أو لا يبسطونها إلى الشعراء، وكانوا يستحثون الجمال على أن يأذن بقطف ثماره قبل أن تذبل عن سوها. وقد تقتحم القصيدة في بعض الأحيان نغمة مبتكرة ويبشر العاشق سيدته بمولود مكافأة لها على الاقتران السريع. وينقب كل شاعر فيجد فتاة أحلامه- دانيل: دليا، لودج: فيليس، كونستابل: ديانا، فولك جريفيل: ساليا. وكان أشهر ناظمي السونيت هؤلاء، هو صمويل دانيل، على أن بن جونسون- الذي كان "قاسياً" أكثر منه "لذاً"- قال عنه إنه "رجل أمين وليس شاعراً(32)" وحرمت قصيدة ميشيل درايتون "Pegasus" حول كل أشكال الشعر، بما كان له من قدم في النثر. ولكن إحدى قصائده ضربت على نغمة جديدة، فوخزت الفتاة ونبهتها إلى مغبة صدودها، بأن آذنها بالوداع- "إذا لم يكن ثمة رجاء أو عون، تعالي، نتبادل القبل ثم نفترق".


وكان الأدب الإنجليزي في جملته في عهد إليزابث- فيما خلا الدراما- متخلفاً جيلاً عن الأدب الفرنسي. كان النثر قوياً مرناً، وفي الغالب معقداً مطنباً إلى حد الضجر، خيالياً، ولكنه أحياناً يحرك المشاعر بجلاله الملكي أو إيقاعه الفخم. ولم ينتج النثر الإنجليزي أحداً مثل رابليه أو مونتاني، وقلد الشعر الأشكال الأجنبية في حرص وحذر، باستثناء The Faerie Queen, Eoithalamium ولم يجد بسنسر قراء له في القارة قط، كما لم يجد رونسار (شاعر فرنسي في القرن السادس عشر) قراء له في إنجلترا. فان الشعر يخلق من اللغة والعاطفة موسيقى لا يمكن الاستماع إليها خارج حدود الكلام، لقد اتصلت الأغاني الشعبية البسيطة بالناس ووصلت إليهم، بشكل أشد وثاقاً مما فعل شعر القصور والبلاط، فان الغاني كانت معلقة على جدران البيوت والحانات، وكانت تغنى وتباع في الشوارع، وما زالت أغنية "لورد راندال" تهز مشاعرنا بلحنها الحزين(33). وربما كان هذا الشعر الشعبي- لا المحسنات البارعة اللطيفة- في قصائد السونيت، هي التي مهدت عقول الناس في عصر إليزابث ليقدروا شكسبير.


يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق