548
زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث
فصل
فى قدوم وفد بنى حنيفة
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى حنيفة، فيهم مُسَيْلِمةُ الكذَّاب، وكان منزلُهم فى دار امرأة من الأنصار من بنى النجَّار، فأتوا بمُسَيْلِمَةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْتَرُ بالثياب، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، فى يده عَسِيبٌ من سَعَفِ النخل، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، كلَّمه وسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ سَأَلتنى هذا العَسِيبَ الَّذِى فى يدى مَا أَعْطَيْتُك)).
قال ابن إسحاق: فقال لى شيخ من أهلِ اليمامة من بنى حنيفة: إنَّ حديثه كان على غير هذا، زعم أن وفد بنى حنيفة أتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فى رحالهم، فلما أسلموا، ذكروا له مكانه، فقالُوا: يا رسول الله؛ إنَّا قد خلَّفنا صاحباً لنا فى رحالنا وركابنا يحفظُها لنا، فـأمر له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما أمر به للقوم، وقال: ((أما إنه ليس بِشَرِّكُم مكاناً))، يعنى حِفظَه ضَيْعَة أصحابِه، وذلك الذى يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم انصرفُوا وجاؤوه بالذى أعطاه، فلما قدموا اليمامه، ارتدَّ عدوُّ اللهِ وتنبَّأ، وقال: إنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معه، ألم يَقُلْ لكم حين ذكرتمونى له: ((أما إنه ليس بشرِّكم مكاناً))؟، وما ذاك إلا لما كان يعلم أنى قد أُشركت فى الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم اللهُ على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صِفَاقٍ وَحَشا. ووضع عنهم الصلاةَ، وأحلَّ لهم الخمر والزِّنَى، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبىّ، فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.
قال ابن إسحاق: وقد كان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مِن مُسَيْلِمَة رسول الله إلى محمَّد رسولِ الله، أما بعد: فإنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معك، وإن لنا نِصفَ الأمر، ولقريشٍ نصفَ الأمر، وليس قريش قوماً يَعْدِلُون. فقدِم عليه رسولُه بهذا الكتاب، فكتب إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بسم الله الرحمن الرحيم: مِنْ محمَّدٍ رسولِ الله، إلى مُسَيْلِمَة الكذَّاب، سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى. أما بعد: فإن الأرض للهِ يُورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين))، وكان ذلك فى آخر سنة عشر.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى سعدُ بنُ طارق، عن سلمة بن نُعيم بن مسعود، عن أبيه، قال: سمعتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حين جاءه رَسُولا مُسَيْلِمَة الكذَّاب بكتابه يقولُ لهما: ((وأَنْتُمَا تَقُولاَنِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ))؟ قالا: نعم. فقال: ((أمَا واللهِ لَوْلاَ أنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ، لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُما)).
وروينا فى ((مسند أبى داود الطيالسى)) عن أبى وائل، عن عبد الله، قال: جاء ابنُ النَّوَّاحة وابنُ أُثَال رسَولين لمُسَيْلِمَة الكذَّاب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((تشهدَانِ أِّنِّى رَسُول الله))؟ فقالا: نشهد أن مُسَيْلِمَةَ رسولُ الله. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((آمَنْتُ بِاللهِ ورَسُولِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاَ لَقَتَلْتُكُما)). قال عبد الله: فمضت السُّـنَّة بأن الرُّسُل لا تُقتل.
وفى ((صحيح البخارى)) عن أبى رجاء العُطَارِدى، قال: لما بُعِثَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْنَا به، لحقنا بمُسَيْلِمَة الكذَّاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبُدُ الحجرَ فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسنُ منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا جُثْوَةً من تراب، ثم جئنا بالشاةِ فحلبناها عليه، ثم طُفنا به، وكنا إذا دخل رجب، قلنا: جاء مُنْصِلُ الأسِنَّة، فلا نَدَعُ رُمحاً فيه حديدة، ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها.
قلت: وفى ((الصحيحين)) من حديث نافع بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فجعل يقولُ: إن جعل لى محمدٌ الأمرَ مِن بعده، تبعتُه، وقَدِمَها فى بَشَرٍ كثير من قومه، فأقبل النبىُّ صلى الله عليه وسلم ومعه ثابتُ بنُ قيس بن شَمَّاس، وفى يدِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم قِطعةُ جـريد حتى وقف على مُسَيْلِمَة فى أصحابه، فقال: ((إن سَأَلْتَنى هذِهِ القِطعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أدْبَرْتَ، ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وإنِّى أُرَاكَ الَّذِى أُريتُ فيهِ ما أُريتُ، وهذا ثابت بن قيس يُجيبك عنى)) ثم انصرف. قال ابنُ عباس: فسألتُ عن قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((إنَّك الَّذِى أُريتُ فيه ما أُريتُ)) فأخبرنى أبو هريرة، أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فى يَدَىَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب، فَأَهَمَّنى شأنُهُما، فأُوحِىَ إلىَّ فى المَنامِ أَن انْفُخهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأوَّلْتُهُما كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِى، فَهذانِ هُما، أَحَدُهُما العَنسِى صَاحِبُ صَنْعَاءَ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ صَاحِبُ اليَمَامَةِ)). وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم.
وفى ((الصحيحين)) مِن حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَا أَنا نَائِمٌ إذ أُتيتُ بِخَزَائِنِ الأرْضِ، فوُضِعَ فى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلىَّ وأَهَمَّانى، فأُوْحى إلىَّ أَن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنعَاءَ وصَاحِبَ اليَمَامَةِ)).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق