1414
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على الس -> العصر الذهبي للأدب ا -> القرن الذهبي
الفصل الحادي عشر
العصر الذهبي للأدب الأسباني
1556-1665
1- السيجلودي أورو (القرن الذهبي)
كتب سرفانتس عام 1584 يقول »ما أكثر العباقرة الملهمين الذين يعيشون اليوم في وطننا اسبانيا(1) وأغلب الظن أنه هو، دون سواه الذي عرف أنه أعظمهم، ولم يكن بعد قد ألف »دون كخوته« (1604) فحين وافى هذا التاريخ فيما بعد كان »القرن الذهبي« (1560-1660) قد بلغ شأوه وتألق بكل سنائه ومجده.
ترى ما الذي أطلق هذا التفجر الثقافي، هذا الحشد الرائع من نجوم الأدب والفن؟ لعله انتصارات أسبانيا في ميادين السياسة والاقتصاد والدين-فتح الأمريكتين واستغلالهما، وقوة أسبانيا ومكاسبها في إيطاليا، والأراضي المنخفضة، والبرتغال، والهند، والنصر على المسلمين في أسبانيا والترك في ليبانتو. ونحن لا نستطيع اليوم، لما بيننا وبين أزمات الروح الأسبانية من بعد الشقة، أن نفهم كيف أججت مخاطر هذه السنوات المثيرة وانتصاراتها حماسة الإيمان الكاثوليكي وجعلت أكثر الأسبان يفخرون بدينهم فخرهم. بأنسابهم؛ أما رقابة المطبوعات ومحكمة التفتيش اللتان قد نحسبهما خائفتين للحريات، فقد تقبلتهما الأمة على أنهما من الاجراءات الحربية الضرورية للوحدة القومية في الحرب الصليبية ضد الإسلام. وهكذا راح العقل الأسباني، الذي حظر عليه أن يشت بعيداً عن العقيدة المقدسة، يحلق داخل حدوده المقيدة، وسط عالم رفيع من القصص والشعر والدراما والعمارة والنحت والتصوير.
صفحة رقم : 9805
ولكنه كان إلى ذلك العصر العلماء الأمناء والمؤرخين الأجرياء، عصر المؤلفات البارزة في اللاهوت والحكم والقانون والاقتصاد والجغرافيا والدراسات الكلاسيكية والشرقية. وفي رأي العلامة الام أن »العلم كان في عهد فليب الثاني أكثر تقدما منه في عصر اليزابيث(2)«. ولا ريب في أن التعليم كان أوفر وأعم. فقد وجد الفقراء والأغنياء على السواء طريقهم إلى الجامعات الكثيرة، وأضيف إلى هذه الفترة عشرون جامعة جديدة إلى الجامعات المشهورة، وكانت جامعة سالامانكا وحدها تضم 5856 طالبا عام 1551(3). »لا يستطيع انسان أن يزعم »أنه كابالليرو (جنتلمان) ما لم يكن كذلك أديباً«.(4) وفتح الملوك والوزراء والنبلاء والأحبار خزائنهم للعلماء والشعراء والفنانين والموسيقيين. على أنه كان هناك بعض النشاز في هذا التصعيد؛ ذلك أن الكنيسة شهرت سوطاً فوق رءوس المعلمين، وحرم فليب الثاني على الشباب، حرصاً منه على الاحتفاظ للجامعات الأسبانية بملئها من الطلاب وجعل العقول الأسبانية نقية من الناحية اللاهوتية، حرم عليهم أن يدرسوا في أي جامعات أجنبية الا كواميرا وبولونيا وروما. ولعل هذا التزاوج الفكري المحصور لعب دورا في عقم أسبانيا الثقافي بعد العصر الذهبي.
وهناك رجلان بارزان من اليسوعيين يدخلان الصورة هنا. أما أولهما، بالتزار جراثيان، مدير كلية اليسوعيين في تاراجونا، فقد وجد الوقت ليكتب (1650 - 53) رواية من ثلاثة مجلدات تدعى »الكريتيكون« وصف فيها تحطيم سفينة لسيد أسباني على جزيرة القديسة هيلانة، وتعليمه للرجل المتوحش الوحيد الذي وجده هناك (أهذا مصدر لروبنسن كروزو ؟)، ثم أسفارهما معا في أرجاء العالم، ونقدهما النفاذ للحضارة الأوربية. وقد أطرب تشاؤمهما وكرههما للنساء شوبنهاور، فوصف الكتاب بأنه »من خيرة الكتب في العالم(5)« ونفح أحد الأصدقاء
?
صفحة رقم : 9806
جرائيان بعض العملة الدولية إذ أختار من كتبه ثلاثمائة فقرة نشرها تحت هذا العنوان »الوحي لميسر، وفن الحكمة الدنيوية«. وقد قام شوبنهاور بترجمة من ترجماتها الكثيرة. وإلى القارئ عينات من هذه:
"حذار من أن يكسف ضوءك ضوء السيد ... لقد
كان التفوق دائما مكروها، وكلما عظم اشتد الكره له.
وشيء من الحذر كفيل بتغطية فضائلك العادية كما تخفي
حسنك باللباس المهمل(6).
إن التوسط في الكفاية يحرز بالاجتهاد تقدما أكثر مما يحرزه
التفوق بدونه(7).
للحظ قواعد، فالعقلاء لا يرون الأشياء كلها وليدة
الصدفة(8).
ليس الكما في الكم بل في الكيف ...
بعض الناس يحكمون على قيمة الكتب بركبهم، وكأنها كتبت لتمرين
الأذرع(9).
فكر كالقلة، وتكلم كالكثرة ... إن الحقيقة للقلة
... ليعتصم الحكيم بالصمت، فإذا سمح لنفسه أحيانا
بالكلام فليكن في حمى القليلين والفاهمين(10).
تعلم كيف تكون لا ... لا يكن الرفض قاطعا، فالحقيقة
تتجلى تدريجيا ... عليك بالمجاملة لتملأ به فراغ الرفض(11).
قد نتبين نضج أمرىء من البطىء الذي يصدق به ما يسمع(12)
هناك دائما متسع من الوقت تضيف فيه كلمة، ولا وقت
لسحب كلمة(13)".
كان المؤرخون الأسبان في هذه الفترة خير المؤرخين في أوربا. وجمع فليب في دار المحفوظات بسيمانكاس مجموعة هائلة من الأوراق الرسمية وغيرها من الوثائق، لأن »الاخباريين والمؤرخين قاصرو العلم بشئون
?
صفحة رقم : 9807
الدولة، ورغبة في تفادي هذا العيب كان من المرغوب فيه جمع ما أمكن من مواد قد تكون ذات فائدة«(14). على حد قوله. وأصبحت هذه المحفوظات ذخرا للمؤرخين منذ ذلك الحين. وقد رجع جيرونيمو دي روريتا إلى آلاف الوثائق الاصلية في إعداد كتابه »حوليات مملكة أراجون« (1562 - 80)، واشتهر في أوربا بأسرها بـ »أعظم الكتاب تدقيقا«.
أما أعظم المؤرخين الأسبان قاطبة، وهو خوان دي مايانا، فقد بدأ حياته ابنا غير شرعي لكاهن في طلبيرة. وإذ ترك في صباه ليدير شئونه بنفسه، فقد شحذ ذكاءه على حجر الضرورة القاسية والفقر الطاحن. وزوده اليسوعيون بتعليم صارم بفضل ما عهد فيهم دائما من سرعة في تبيين الموهبة. فلما بلغ الرابعة والعشرين أرسلوه للتدريس في كليتهم بروما، ثم إلى صقلية، ثم إلى باريس، حيث اجتذبت محاضراته عن توما الأكويني جماهير المستمعين المتحمسين. على ان صحته انهارت، فسمح له وهو في السابعة والثلاثين (1574) بالاعتكاف في بيت الطائفة اليسوعية في طليطلة، فلزمه لا يبرحه إلا نادراً طوال سنيه التسعة والأربعين الباقية من عمره. وهناك كتب رسائل هامة أثارت إحداها ضجة دولية (كما سنرى)، ورسالة أخرى »في عملة المملكة« كانت هجوما جريئا على غش ليرما للعملة، وثالثة تركها دون نشر شرحت »الأخطاء في حكومة جمعية يسوع«. وقد أفرغ أكثر جهده في الأربعين سنة الأخيرة من حياته في تأليف »كتاب في تاريخ اسبانيا« (1592) - الذي كتبه باللاتينية ليتيح لكل الأوربيين المثقفين أن يعرفوا كيف ارتقت اسبانيا إلى مقام الزعامة والقوة. وقد ترجم أكثر الكتاب إلى أنقى اللهجات القشتالية يخص من الكردينال بمبو تحت عنوان »تاريخ أسبانيا« (1601)، وهو أجل المنجزات في تأليف التاريخ الرسمي الاسباني، نابض بالحياة في سرده، بديع في اسلوبه، متمكن في رسمه
?
صفحة رقم : 9808
للأشخاص، جريء في أمانته - »أروع ما شهده العالم من جمع بين العرض الزمني المثير، والتاريخ الرصين(15)«.
وكما أن كتب الأخبار المعروضة حسب تسلسلها الزمني، تدرجت (كما نرى في مؤلفات كالتي ذكرنا) إلى كتب التاريخ بوصفه ضربا من الأدب والفلسفة، كذلك نرى القصص الأسباني في هذا العصر ينتقل من رواية الفروسية والقصة الرعوية ليبلغ في قفزة واحدة أرفع القمم في تاريخ القصة. لقد ظلت روايات الفروسية كثيرة يقبل عليها في نهم كل أسباني من القديسة تريزا إلى سرفانتس، وربما كانت عند بعض القراء تفريجاً من حدة الدين الأسباني المتسامية، لأن عقيدة هذه الروايات كانت الغرام، وولاء الفرسان لم يكن للعذراء مريم بل لمن اختاروا أو هووا من النساء؛ وفي سبيل الدفاع عنهن أو تملكهن تراهم على استعداد لتكسير النصال الكثيرة وتحطيم عدد غير قليل من نواميس الله والبشر. ولكن التهافت على مثل هذه القصص كان يتناقص حين كتب سرفانتس، وكان مونتيتي وخوان لويز فيفز قد سخرا منها، وكان مجلس قشتالة شكا منذ سنين طويلة (1438) من أن »كثيرا من الأذى يلحق بالرجال والفتيان والفتيات وغيرهم« بسبب هذه الروايات، وان الكثيرين »قد اضلتهم هذه القصص عن التعليم المسيحي الصحيح(16)«.
وبلغت الأمور الذروة بفضل تطور آخر، ففي عام 1553 كان كاتب مجهول الهوية قد كتب في »لاثاريللو« دي تورمس« أول قصة بأسلوب البيكارسك (أي التشرد) الذي جعل من أحد الوضعاء الظرفاء بطلا يكفر عن فقره بالتمرد على القانون، وعن تمرده على القانون بالفكاهة الذكية، وفي عام 1569 نشر ماتيو أليمان قصة مرحة سماها »حياة المتشرد جوثمان دي الفاراتشي«. وبعد خمس سنوات تناول سرفانتس هذين المزاجين-حلم الفارس الشهم الآخذ في الزوال، وحكمة رجل الشارع الممزوجة بالفكاهة، وجمع بينهما جنبا إلى جنب في أشهر القصص قاطبة وأروعها إطلاقاً.
صفحة رقم : 9809
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق