1380
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> جيمس السادس والأول -> جون دون
6- جون دون
1573-1631
في مؤتمر هامبتون كورت اقترح مندوب بيوريتاني ترجمة جديدة للكتاب المقدس
صفحة رقم : 9566
فاعترض أسقف لندن بأن الترجمات الموجودة صالحة تماماً. فقاطعة الملك جيمس وأمر بأن تتخذ إجراءات خاصة لترجمة رسمية موحدة يقوم بها أفاضل العلماء في كلتا الجامعتين، ويراجعها الأساقفة ثم تقدم إلى مجلس الشورى، ثم يعتمدها الملك حتى يمكن تلاوتها دون غيرها في كل الكنائس(49)". ونهض بهذه المهمة سير هنري سافيل وستة وأربعون عالماً آخرون، مستندين إلى ترجمات ويكلف وتندال القديمة، وأنجزوا عملهم في سبع سنين (1604-1611) وأصبحت هذه الترجمة المعتمدة" رسمية في 1611، وكان له أثرها البالغ على الحياة والأدب الحديث في إنجلترا. ودخل إلى اللغة الإنجليزية من هذه الترجمة ألف من العبارات البليغة، وكان تقديس الإنجيل آنذاك قوياً جداً في هذه البلاد البروتستانتية، ولكنه الآن تزود بدفعة جديدة من القداسة والإقبال عليه في إنجلترا، كما ازدادت معرفة البيوريتانيين ثم الكويكرز بنصوصه والتعيد به، بشكل لا يعدله إلا حب المسلمين للقرآن الكريم وتمسكهم به. وكان آثر الترجمة على أسلوب الأدب الإنجليزي مفيداً كل الفائدة، فقد وضعت حداً للتعقيدات الطويلة الغريبة في النثر الإنجليزي في عهد إليزابث، وانتهت به إلى جمل قصيرة قوية واضحة طبيعية وأحلت محل المصطلحات والتراكيب الأجنبية ألفاظاً أنجلوسكونية واصطلاحات إنجليزية مفعمة بالحيوية. وكان فيها ألف من الأخطاء العلمية، ولكنها حولت العبرية الرفيعة واليونانية العادية في الكتاب المقدس بقسميه إلى أروع تحفة في النثر الإنجليزي.
وثمة مؤلفان آخران من النثر الرفيع ميزا هذا العصر. كتاب سير والتر رالي "تاريخ العالم" (وهو ثانيهما في الظهور)، وكتاب روبرت بيرتون "تشريح الكآبة Anatomy of Melancholy، (1621) - وهو المرجع الضخم الذي وضع فيه القسيس سان توماس في أكسفورد نبذاً مما جمعه من المعلومات اللاهوتية
صفحة رقم : 9567
والتنجيمية، والقديمة والفلسفية. وحسب أساتذة الجامعة أول الأمر أنه "مرح فكه ظريف" ولنه أصبح في حياته فيما بعد مكتئباً إلى حد أنه لم يكن يسره ويسعده إلا بذاءة بحارة الزوارق في نهر التاميز(50). وللتخلص من كآبته "التهم" "بيرتون" "المؤلفين" الذين أمدته بهم مكتبة بودليان. وفي هذه الكتب وفي مخطوطه وفي علم التنجيم وفي الخدمات الكهنوتية، قضى أيامه الكئيبة ولياليه الممتلئة بالنجوم. وحسب طالعه الخاص، وتنبأ باليوم الذي سيوافيه فيه الأجل المحتوم بدقة، إلى حد أن تلاميذ أكسفورد ارتابوا في أنه شنق نفسه ليثبت أنه يعلم الغيب(51).
أنه نشيط مفعم بالحيوية في كتابه. ولما شرع في فحص وسواس المرض عنده ووصف العلاج له، وجد أن الاستطراد ألطف من خطته. وبالمرح الشاذ، الذي يشبه مرح رابليه في موضوعاته غير المطروقة، ناقش كل شيء عن غير قصد كما كان يفعل مونتاني، ويتبل صفحاته هنا وهناك بشيء من اللاتينية واليونانية، ويغري قارئه شيئاً فشيئاً بشكل لطيف، إلى لا شيء، وهو لا يدعي الأصالة، ويشعر بأن كل التأليف سرقة، "ما أرانا نقول إلا معاداً من لفظنا مكرراً، وربما كان الإنشاء والمنهج من عندنا فحسب(52)." ويعترف بأنه عرف الدنيا عن طريق الكتب وعن طريق الأنباء التي تتسرب إلى أكسفورد فحسب.
أني لأسمع أنباء جديدة كل يوم، كما أسمع الإشاعات العادية عن الحرب والطاعون والحرائق والفيضانات والسرقات، وحوادث القتل والمذابح والنيازك والمذنبات والأطياف والأعاجيب والأشباح، وعن المدن التي تم الاستيلاء عليها، والمدن التي حوصرت في فرنسا وألمانيا وتركيا، وإيران وبولندة.... الخ والتجمعات والاستعدادات اليومية وغيرها، مما يتم في هذه الأيام العاصفة، فتنشب المعارك، ويذبح كثير من الرجال، كما نسمع عن غرق السفن وأعمال القرصنة والمعارك البحرية، ثم الصلح وتكوين العصبات، ثم عن خدع حربية وإنذارات جديدة، إنها فوضى هائلة من العهود
صفحة رقم : 9568
والرغبات والأعمال والقرارات، والظلامات والقضايا البينات والدفوع والقوانين والتصريحات.... والآراء والإنشقاقات والهرطقات.... والأعراس، والمسرحيات التنكرية وشعارات الرياء والحفلات، واحتفالات اليوبيل.... والجنازات(53)
وأنه ليحس (مثل ثورو) أنه إذا قرأ أخبار يوم الأحد، فقد يكتفي بها ويأخذها قضية مسلمة بقية العام، مع مجرد تغيير في الأبهاء والتواريخ. وهو يرتاب في أن الإنسان سائر على طريق التقدم، ومع ذلك يقول "لسوف أصنع يوتوبيا (دنيا مثالية) خاصة بي... أتحكم فيها بمحض حريتي "ويصفها في تفصيل خيالي غريب. والواقع، على أية حال، أنه كان يؤثر تصفح الكتب في هدوء في مكتبه أو على ضفاف التاميز، على الانصراف إلى إصلاح البشر. ويقدم له كل مؤلفي العالم أحسن ما لديهم، ويثقل كاهله ما يجمع من اقتباسات، فيعود مكتئباً مغتماً من جديد، وبعد مائة وأربع عشرة صحيفة ممتلئة، يعقد العزم على التوصل إلى أسباب الكآبة، وهي الخطيئة، والشهوة الجامحة، والإفراط، والشياطين. والسحرة، والنجوم، والإمساك، والإسراف الجنسي،.... وأعراضها (أي الكآبة) ومن بينها: "ريح تقرقر في البطن.... وتجشؤات كريهة.... وأحلام مزعجة(54)". وبعد أن أكمل مائتي استطرد، تراه يصف أنواع العلاج للكآبة: الصلوات، الغذاء، الدواء، الملينات، إدرار البول، الهواء الطلق، الرياضة، الألعاب، الحفلات المسرحية، الموسيقى، الصحبة المرحة، النبيذ، النوم، فصد الدم، الاستحمام. ثم يستطرد من جديد، إلى حد أن كل صحيفة تغدو مخيبة للآمال ومفرحة معاً- إذا توقف سير الزمن.
أما في الشعر فقد اختفى شعراء "السونيت"، وظهر "شعراء ما وراء الطبيعة": ريتشارد كروشو، أبراهام كاولي، جون دون، جورج هربرت- الذين عبروا في جمال وديع، عن الهدوء والتقوى في بيت الكاهن الأنجليكاني، ولقد سماهم صمويل جونسون "ميتافيزيقيين"، من ناحية واحدة فقط، لأنهم نزعوا إلى الفلسفة واللاهوت والجدل، وأساساً لأنهم اختاروا عن ليلي، أوجونجورا، أو البلياد- أسلوباً يتميز بالبدع والنزوات اللغوية، والذكاء اللفظي والتركيبات
صفحة رقم : 9569
المعقدة، والمقتطفات الكلاسيكية، والغموض المتكلف. على أن شيئاً من هذا كله لم يحل دون أن يكون "دون" أرق شعراء العصر.
وعاصر جون دون- مثل جونسون وتشابمان- ثلاثة عهود.ففي عهد إليزابث كتب في الحب، وفي عهد جيمس عن التقوى، وفي عهد شارل عن الموت. ومنذ نشأ كاثوليكياً، وتعلم على أيدي الجزويت وفي أكسفورد وكمبردج، فقد خبر مرارة الاضطهاد وهدأة الاختفاء. واعتقل أخوه هنري لإيوائه كاهناً محكوماً عليه بالموت، وقضى هنري نحبه في السجن، وزاد من اكتئاب جون انصرافه في بعض الأحيان إلى كتابات سانت تريز ولويس دي جرانادا الروحية. ولكن في 1592 نبذ عقله الفتي النابض بالحيوية، ما ورد في ديانته من معجزات وكرامات، وحام في العقد الثالث من عمره حول المغامرات العسكرية والجنسية وفلسفة التشكك.
ولفترة من الزمن قصر جون دون شعره على الاتصال الجنسي غير المشروع صراحة، ففي القصيدة رقم 17 من قصائده التأملية التي تعروها الكآبة، امتدح "أحلى شيء في الحب: التنوع (لذة الهوى في التنقل):
ما كان أسعد آباءنا في الزمان الأول
أولئك الذين لم يجدوا في تعدد العشاق جرماً(55).
وفي قصيدته التأملية رقم 18 سبح في "الدردنيل بين ستوس وأبيدوس في صدرها" وفي القصيدة رقم 19 "إلى حبيبته وهي تأوي إلى مخدعها" نزع عنها ثيابها، وفي خيال واسع، طلب إليها: امحي ليدي "أن تجوسا حيث تشاءان". وخلط بين علم الحشرات والعشق، وحاول أن يبرهن على أنه ما دام أن البرغوث عضهما معاً فانه قد خلط دمه بدمها فقد تزوجا آنذاك بالدم، ومن ثم يسرحان في نشوة لا إثم فيها(56). ولكنه أتخم بالمظاهر فسئمها، ووجد أنه ليس كريماً منه أن يرتكب الفاحشة مع كرائم السيدات، ونسي مفاتنهن الموقوتة، ولم يتذكر إلا الحيل التي كن قد تعلمنها من دنيا لا قلب لها، وصب على عشيقته جوليا أكبر
صفحة رقم : 9570
اللعنات، ونصح قارئه أن يختار رفيقة طبيعية غير متكلفة لأن "الحب المبني على الجمال، سريع الفناء مثل الجمال(57)" ثم أنشد مقطوعة شعرية مضادة لفيللون، ووضع ميثاقاً شعرياً كان كل مقطع فيه يهوى على "العشق" بضربة قاتلة.
وفي 1596 أبحر مع اسكس، وساعد في الحملة على قادس، وأبحر معه ثانية في 1597 إلى جزر الآزور وأسبانيا. ولما عاد إلى إنجلترا وجد وظيفة محترمة، سكرتيراً لسير توماس أجرتون "حامل أختام الملكة"، ولكنه هرب مع ابنة أخيه وتزوجها (1600)، ونشط في أن يعولها بالشعر، وواتاه الأولاد بمثل السهولة التي واتته بها القوافي. وغالباً ما عجز عن غذائهم وكسائهم، وساءت صحة زوجته، وكتب يدافع عن الانتحار. وأخيراً رق قلب سير أجرتون فأرسل إلى الأسرة مبلغاً من المال (1608)، ووهبها سير روبرت دروري مسكناً في قصره (1610) في Drury Lane. ولكن بعد عام واحد فقد سير روبرت ابنته الوحيدة، فنشر دون، بلا توقيع، أولى قصائده العظمى، رثاء لها، بعنوان An Anatomy Of The World، وفيها ضخم من موت إليزابث دروري تضخيماً حتى جعل منه فناء الإنسان ثم الكون بأسره:
وهكذا يغنى العالم منذ اللحظة الأولى....
وتدعو الفلسفة الجديدة كل الناس إلى الشك
وخمد عنصر النار،
وضاعت الشمس والأرض، ولا يستطيع عقل أي إنسان
أن يوجهه التوجيه الصحيح للبحث عنها.
ويعترف الناس صراحة أن الدنيا قد ولت،
على حين أنهم في الكواكب وفي القبة الزرقاء
يتلمسون الكثير من الجديد ثم يرون أن كل هذا
قد انهار من جديد....
لقد تفتت كل شيء، وضاع التماسك،
كل الزاد الكريم، وكل علاقة(58).
صفحة رقم : 9571
وهكذا حزن لأنه يرى كيف أن هذه الأرض "عرجاء مشلولة"، وكانت يوماً مشهد الافتداء السماوي. والآن في الفلك الجديد، مجرد "ضاحية" للدنيا. وفي إحدى حالاته النفسية نراه يمجد "الظمأ المقدس إلى العلوم". وفي حالة أخرى يتساءل متعجباً هل سينتهي العلم بالجنس البشري إلى الدمار.
إنا نحارب أنفسنا بالأمراض الجديدة
وبالفيزياء الجديدة هناك آلة جديدة للحرب أسوأ كثيراً(59).
وكذلك تحول إلى الدين. فان تكرار إصابته بالأمراض والعلل، والموت المشئوم لأصدقائه الواحد بعد الآخر، انتهيا به إلى خشية الله، فانه، ولو أن عقله ظل يحاول في اللاهوت، فانه كان قد تعلم ألا يثق في العقل كذلك، على أنه عقيدة أخرى، وقرر أن المذهب القديم يجب قبوله دون مزيد من النقاش، إذا كان يوفر هدوء البال ولقمة العيش. وفي 1615 صار قسيساً إنجليكانياً، ولم يقتصر حينئذ على إلقاء المواعظ في نثر كئيب مؤثر، ولكنه نظم كذلك بعضاً من أكثر الأشعار الدينية تأثيراً في اللغة الإنجليزية. وفي 1616 عين قسيساً خاصاً لجيمس الأول، وفي 1621 أصبح رئيس كهنة سانت بول. ولم ينشر قصائده الغنائية الجنسية التي نظمها في شبابه، ولكنه كان قد سمح بتداول نسخ مخطوطة منها، أما الآن فانه-كما روى جونسون "يندم أشد الندم، ويسعى إلى إعدام كل قصائده(60)". وكتب بدلاً منها "قصائد مقدسة من نوع السونيت"، وتحدى الموت. وهو يصفر في الظلام.
أيها الموت. لا تزه ولا تتكبر، ولو أن بعضهم قد أسموك
جباراً رهيباً، لأنك لست كذلك.
لأن هؤلاء الذين تظن أنك صرعتهم
لا يموتون. أيها الموت الحقير، إنك كذلك لن تستطيع أن تصرعني...
لقد انقضت غفوتنا القصيرة، ولسوف نكون في يقظة أبدية،
ولن يكون ثمة موت بعد الآن، ولسوف تموت أنت أيها الموت(61).
وبعد أن أبل من مرض شديد، كتب في مذكراته في 1623، سطوراً مشهورة: "إن موت أي رجل يهد من كياني لأني جزء متشابك في الجنس البشري، ومن ثم لا أرسل
صفحة رقم : 9572
أحداً لأستفسر عمن تنعى النواقيس، إنها تنعاني أنا(62)". وفي أول يوم جمعة من الصوم الكبير 1631، نهض من فراش مرضه ليلقي العظة التي بادر الناس فقالوا إنها عظة جنازته هو، وكان معاونوه قد حاولوا أن يثنوه عن الكلام، ولما رأوا (كما قال صديقه المخلص ايزك والتون) أن علته قد اشتدت حتى تركته مجرد جلد على عظم(63)"، وما أن انتهى من إلقاء موعظته التي كان فيها فصيحاً في التعبير عن الإيمان بالبعث، "مبتهجاً أشد الابتهاج لأن الله أعانه على القيام بهذا الواجب المرغوب فيه، حتى أسرع إلى بيته الذي لم يغادره... إلا محمولاً على أيدي رجاله الأتقياء إلى قبره(64)". ووافاه الأجل (31 مارس 1631) بين ذراعي أمه التي كانت قد احتملت صابرة آثامه، كما استمعت في حنان وعطف إلى عظاته.
لقد كانت حياة حافلة متوترة، انتظمت كل العواطف من شهوة الحب، وشك وانحلال، واختتمت في عزاء دافئ، هو عزاء الإيمان القديم. إننا نحن أبناء اليوم الذين يسارع إلينا النعاس حين نقرأ سبنسر، لنجد أنفسنا، وقد هزها من سباتها هذا الواقعي الخيالي على نحو عجيب، هذا الروح الوسيط معاً، عند قراءة كل صفحة من صفحاته تقريباً. إن شعره خشن، ولكنه هكذا أراده. إنه نبذ اللطائف المتكلفة في حديث الإليزابثيين واستطاب الألفاظ التي لن تبل جدتها، وبحور الشعر الأخاذة. وأحب الأنغام الناشزة المتنافرة التي يستطيع تحويلها إلى أنغام متناسقة لم تألفها الأذن. ولم يكن ثمة شيء مبتذل في شعره بعد أن تخرج في المواخير. إن هذا الرجل الذي صقل الفحش، كما صقله كاتوللوس من قبل، اكتسب من رقة الشعور والفكر، ومن أصالة في العبارة والعاطفة، ما لم يضارعه فيه شاعر آخر في ذلك العصر، الهم إلا شكسبير نفسه.
صفحة رقم : 9573
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق