1548
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق
الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية في اليهودية
الباب الحادى عشر: الـشعائر
الأوامر والنواهي (متسفوت )
Mitzvot
«الأوامر والنواهي» هي المقابل العربي لكلمة «متسفوت» العبرية التي تعني أيضاً «الوصايا» أو «الفرائض». و«متسفوت» صيغة جمع مفردها «متسفاه». وللكلمة (داخل النسق الديني اليهودي) معنيان: معنى عام، وهو القيام بأي فعل خيِّر تمتزج فيه الأفعال الإنسانية بالقيم الدينية، فإذا ساعد يهودي أخاه منطلقاً من حبه له فهذه «متسفاه» (وتأتي عادةً في هذه الصيغة). أما المعنى الخاص للكلمة (ويأتي عادةً في صيغة «متسفوت») فهو الوصايا أو الأوامر والنواهي (متسفوت) التي تُكوِّن في مجموعها التوراة. وتشمل المتسفوت ستمائة وثلاثة عشر عنصراً، منها مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وثلاثمائة وخمسة وستون نهياً، وهي موجهة إلى اليهود وحسب (إذ أن أبناء نوح لهم وصايا خاصة بهم).
وقد صُنِّفت المتسفـوت إلى أوامر ونواهٍ توراتيــة وأخرى حاخامية. كما قُسِّمت إلى أوامر ونواه أقل أهمية وأخرى أكثر أهمية، وإلى أوامر ونواه عقلانية (أي تُفهَم بالعقل) وأخرى مُوحىً بها (أي يطيعها اليهودي دون تفكير). ومن التصنيفات الأخرى، أوامر ونواه تُنفَّذ بالأعضاء وأخرى بالقلب، وتلك التي لا تُنفَّذ إلا في فلسطين (إرتس يسرائيل)، وتلك التي تنفذ داخلها وخارجها. واليهودي البالغ ثلاثة عشر عاماً ويوماً يُكلف بتنفيذها، وكذلك اليهودية البالغة اثني عشر عاماً ويوماً. ومن هنا تسمية الصبي اليهودي الذي يبلغ سن التكليف الديني «برمتسفاه»، أما الفتاة فهي «بت متسفاه». والنساء غير مكلفات بتنفيذ الأوامر المرتبطة بزمن محدَّد أو فصل محدَّد، مثل إقامة الصلاة، وإن كن مكلفات بإقامة شعائر السبت برغم ارتباطها بزمن محدَّد، وكلٌ من الذكور والإناث مكلفون بالنواهي.
والأوامر تختص بالإله (1 ـ 9)، وبالتوراة (10 ـ 19)، والهيكل والكهنة (20 ـ 38)، والقرابين (39 ـ 91)، والإيمان (92 ـ 95)، والطهارة (96 ـ 113)، والهبات للهيكل (114 ـ 133)، والسنة السبتية (134 ـ 142)، وذبح الحيوانات (143 ـ 153)، والأعياد (154 ـ 170)، والجماعة (171 - 182)، والشرك (185 ـ 189)، والحرب (190 ـ 193)، والعلاقات الاجتماعية (194 ـ 208)، والأسرة (209 ـ 223)، والشئون الاقتصادية (224 ـ 231)، والعبيد (232 ـ 235)، والأذى (236 ـ 248).
أما النواهي، فتختص بالشرك (1 ـ 59)، والهرطقة (60 ـ 66)، والهيكل (76 ـ 88)، والقرابين (89 ـ 157)، والكهنة (158 ـ 171)، وقوانين الطعام (172 ـ 201)، ونذيرو الإله (202 ـ 209)، والزرعة (210 ـ 229)، والإقراض بالربا والتجـارة ومعاملـة العبيـد (230 ـ 272)، والعدل (273 ـ 329)، وجماع المحارم والعلاقات المحرمة الأخرى (330 ـ 361)، والملكية (362 ـ 365).
ومن أهم الأوامر، تلك الأوامر المتصلة بالختان وزراعة الأرض (السنة السبتية) والطعام والأسرة وغيرها. والواقع أن عدم الالتزام بالأوامر والنواهي يعني عدم الانتماء إلى الشعب اليهودي. ومن الملاحَظ أن كثرة الأوامر والنواهي والشعائر المرتبطة بها (في اليهودية) قد أدَّت إلى تكبيل اليهود وإلى زيادة سلطة الحاخامات، الأمر الذي جعل عملية تحديث اليهودية أمراً عسيراً.
ولا شك في أن تزايد الأوامر والنواهي وتقنينها تعبير عن عنصرين مترابطين أولهما الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. فالحلولية تتبدَّى دائماً في كثرة الشعائر وتطرفها، فهي شكل من أشكال تأكيد قداسة من يتمتع بالحلول الإلهي مقابل من يقع خارج دائرة القداسة، أما ثانيهما فهو تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية وهي جماعات عادةً ما تفرض على نفسها عدداً هائلاً من الأوامر والنواهي حتى تحتفظ بهويتها المحايدة الضرورية للاضطلاع بوظيفتها.
وقد حاول الفلاسفة اليهود تفسير الأوامر والنواهي، ففسَّرها موسى بن ميمون بأنها تنازل من جانب الإله للعقل البدائي. وقد أصبحت المتسفوت، بالنسبة إلى القبَّاليين، مثل الأسرار الدينية أو التعويذات السحرية. وهي تشبه، في هذا، السر المقدَّس عند المسيحيين. ولما كان اليهود يشغلون، حسب الرؤية القبَّالية، مركزاً أساسياً في عملية الخلاص الكونية، فإن قيامهم بتنفيذ الأوامر والنواهي مسألة ذات أهمية كونية إذ يستطيع اليهود، من خلال قيامهم بها، أن يسرعوا بزواج الابن/الملك من الابنة/الملكة، أو الإله من الشخيناه، حتى يتوحدا معاً (بالمعنى الجنسي). ولذا، فإن على اليهودي قبل أن يقوم بتنفيذ إحدى الوصايا، أن يقول: «من أجل توحيد الواحد القدوس والشخيناه (أنثاه)».
وهناك كثير من الأوامر والنواهي (مثل تلك الخاصة بالملكية أو بالهيكل أو اللاويين أو الكهنة أو القرابين) ليس لها سوى أهمية جيولوجية تراكمية، بمعنى أنها مرتبطة بمواقف تاريخية سابقة لم يَعُد لها وجود. ومن ثم، لم يَعُد من الممكن تنفيذها رغم ورودها. ولعل أهم هذه الأوامر والنواهي تلك الخاصة بمؤسسة الملكية والهيكل، واللاويين والقرابين. ومع هذا، بدأت بعض هذه الأوامر والنواهي تدب فيها الحياة في إسرائيل مرة أخرى وتكتسب أهمية خاصة. فمع محاولات بعض المتطرفين الدينيين في إسرائيل أن يُعيدوا بناء الهيكل، بدأت إعادة بعث الشعائر الخاصة به، وأُسِّس معهد خاص لدراستها والتأكد من دقة تنفيذها. كما بُعثت بعض الوصايا الخاصة بالشعوب الأخرى مثل تلك التي تدعو اليهودي إلى أن يبيد الأقوام الكنعانية السبعة (187)، وإلى أن يمحو ذكرى العـماليق (188)، وإلى تَذكُّر ما فعـل أولئك بجماعة يـسرائيل (189)، وكذا الوصايا التي تَنْهَى عن الزواج من العمونيين أو المؤابيين (53)، أو عن عقد سلام معهم (54)، كما تَنْهَى عن نسيان ما فعله العماليق باليهود (59). ويعود بعث هذه الأوامر والنواهي إلى الجو العنصري المتزايد في التجمع الصهيوني الذي يعبِّر عن الحلولية الخالية من إله فهذه الأسماء مرتبطة في الوجدان الصهيوني بالعرب داخل أو خارج فلسطين، كما أن العرب يُشار إلىهم في أدبيات جوش إيمونيم بمثل هذه التسميات.
والأهم من كل هذا هو قضية التفسير، فكثير من هذه الوصايا والأوامر، في صيغتها المباشرة، تبدو كأنها مجرد أوامر ونواه ذات طابع أخلاقي عام يتعيَّن على اليهودي التمسك بها، ولكن التفسير يعطيها مضموناً مغايراً تماماً. وللبرهنة على ما نقول، يمكننا أن نشير إلى أحد كتب الأوامر والنواهي وهو كتاب التربية، الذي كتبه حاخام مجهول في القرن الرابع عشر، وصنف فيه الأوامر والنواهي بحسب ترتيب ورودها في العهد القديم ، وشرحها حسبما جاء في التلمود. ومن أهم أهداف هذا الكتاب تحديد المضمون الدقيق للوصايا والنواهي والمُصطلَحات المستخدمة فيها. ومن أهم هذه المُصطلَحات كلمة «أخوك»، أو كلمة «رجل» التي يفسرها بأنها تعني اليهودي وحسب. ولذا، فإن الأوامر والنواهي الخاصة بأن «تحب أخاك» وألا «تسرق أمواله» ولا «تزني بزوجته»، وكذلك ألا تخدعه أو تؤذيه أو تنتقم منه، لا تنطبق إلا على اليهود وحدهم. وتفسر الوصية الخاصة بضرورة إعتاق العبد اليهودي بأنها تعني ضرورة أن يظل العبد غير اليهودي عبداً أبد الدهر. ويُفسِّر الكتاب هذا التكليف الديني بأنه يستند إلى أن الشعب اليهودي أرقى الأنواع البشرية، وأن اليهود خُلقوا ليعرفوا إلههم ويعبدوه، ولذا فهم يستحقون أن يقوم عبيد على خدمتهم، وهم إن لم يستعبدوا الشعوب الأخرى سيضطرون لاستعباد إخوانهم في الدين. ويرى الكتاب أن هذا هو معنى الفقرة الآتية من سفر اللاويين (25/39 ـ 46): «وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد، كأجير كنزيل يكون عندك، إلى سنة اليوبيل يخدم عندك. ثم يخرج من عندك هو وبنوه معه ويعود إلى عشيرته. وإلى ملك آبائه يرجع. لأنهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض مصر لا يباعون بيع العبيد. لا تتسلط عليه بعنف. بل اخش إلهك. وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم. منهم تقتنون عبيداً وإماءً. وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم. وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك. تستعبدونهم إلى الدهر. وأما إخوتكم بنو يسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف». وتُفسَّر الوصية الخاصة بأخذ فائدة على الأموال المُقرَضة للأغيار بأنها تعني ضرورة ألا يبدي اليهودي نحوهم أية رحمة (لأنهم لا يعبدون الرب). وتُفسَّر الوصية الخاصة بعدم اتباع عادات الأغيار بأنها لا تعني فقط أن يعزل اليهودي نفسه عن الأغيار وحسب، وإنما أن يتحدث عنهم بالسوء أيضاً.
وقد كانت مثل هذه الآراء المتطرفة حبيسة الكتب الفقهية التي كُتبت في جيتوات شرق أوربا (مثل كتاب التربية) والتي تشكِّل رغبة من جانب الضعيف في أن ينتقم من الآخرين على الورق، ولذا لم يكن يتداولها سوى بعض الحاخامات الأرثوذكس، وخصوصاً بعد أن رفضت اليهودية الإصلاحية والمحافظة هذه الأوامر والنواهي. ولكن، بعد حرب عام 1967، ومع النفوذ المتزايد للمؤسسة الأرثوذكسية الصهيونية، بدأت تظهر هذه الآراء في الصحف والمجلات الإسرائيلية، بل في الإذاعة والتليفزيون. وقد طُبع كتاب التربية طبعة شعبية مدعومة من الحكومة ويُوزَّع على طلبة المدارس. ويستخدم أعضاء جماعة جوش إيمونيم ما جاء في هذا التفسير لتسويغ الاستيطان واستغلال العمالة العربية، كما أنهم يقتبسون الأوامر والنواهي الخاصة بالعماليق والكنعانيين ويطبقونها على العرب.
وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية في اقتراح الحاخام اليهودي المحافظ فاكنهايم إضافة وصية جديدة (الوصية رقم 614) وهي « واجب البقاء » بمعنى أن واجب اليهود هو البقاء، وقد وصفها بأنها الوصية الأساسية التي تحل محل كل الأوامر والنواهي الأخرى. وهم في الواقع يطلقون على هذه الفكرة اسم «لاهوت ما بعد أوشفيتس»، أي اللاهوت الذي يتصدى للواقع اليهودي بعد الإبادة النازية ليهود أوربا والذي يهدد وجودهم. والبقاء (كما هو معروف) ليس خاصية أخلاقية، وإنما هو خاصية طبيعية داروينية، ولكنه تحوَّل على يد فاكنهايم إلى المتسفاه الأساسية. واليهودية التجديدية تطرح، هي الأخرى، البقاء باعتباره المتسفاه الأساسية بل الوحيدة بالنسبة إلى الشعب اليهودي.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق