1460
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق
الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية في اليهودية
الباب السادس: اليهودية الحاخامية (التلمودية)
الموضوعات الأساسية الكامنة في التلمود
Major Themes in the Talmud
منذ نهاية القرن السابع للميلاد، ومع مطلع القرن الثامن، صار التلمود العامل الجوهري في التجربة الدينية للجماعات اليهــودية، إذ أصبـح المعيـار السـائد المقـبول في كل ما يتعـلق بحيــاة اليهــود وأعمـالهم ونشـاطهم الفكــري. حتى أننـا حينـما نتحدث عن «اليهودية» بعد ذلك التاريخ، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن «اليهودية الحاخـامية»، أي «التلمـودية». وقد اسـتُـخدم التلمود حتـى نهــاية القـرن التاسـع عشر أساساً للتربية بين أعضاء الجماعات اليهودية، فكان الدارسون في كثير من الجماعات اليهودية في الغرب يستذكرونه سبع ساعات يومياً طوال سبع سنوات.
والتلمود سجل المحاولات التي بذلها حاخامات اليهود لتفسير العهد القديم بما يتناسب مع وضع اليهود باعتبارهم جماعات منتشرة في العالم وليس باعتبارهم شعباً مستقراً في أرضه له عاصمته وهيكله وديانته المرتبطة بالأرض والعاصمة والهيكل. وهو أيضاً تعبير عن محاولة اليهودية الحاخامية (التلمودية) عزل جماهير اليهود عن بقية الشعوب، وخصوصاً بعد ظهور المسيحية التي اتخذت من العهد القديم كتاباً مقدَّساً، وأكملته وعدلته بالعهد الجديد. والآلية الكبرى لتعميق العزلة هي تغليب الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي على غيرها من الطبقات والنزعات بحيث يحل الإله في الشعب ويملؤه قداسةً تعزله عن العالم المدنَّس العادي حوله، وهذه الانعزالية مسألة عادية في معظم المجتمعات الوثنية وفي كثير من المجتمعات التقليدية التي كانت تشجع الفصل بين الطبقات والجماعات الدينية وتسهل عملية إدارة شئونها. بل تُعَدُّ مسألة حيوية وأساسية بالنسبة للجماعات الوظيفية المالية وهو الدور الذي اضطلعت به معظم الجماعات اليهودية في العالم حتى بدايات القرن التاسع عشر. فبدون الانعزالية، لم يكن بإمكان أعضاء الجماعات الوظيفية الاحتفاظ بحيادهم وتعاقديتهم وموضوعيتهم وهي أمور لازمة وأساسية للقيام بالأعمال المالية في المجتمعات التقليدية. ولكن هذه الانعزالية، في حالة الجماعات اليهودية، شأنها في هذا شأن أية جماعة وظيفية أو أقلية تُوجَد في الوضع نفسه، كانت تأخذ في الغالب شكل التعالي على الناس. وقد تعمقت الانعزالية حتى أصبح التعارض بين اليهود وغير اليهود (الأغيار) من المقولات الأساسية في التلمود وفي غيره من الكتابات الفقهية اليهودية.
والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود بحيث يمكننا اعتبار التصور التلمودي للإله يشكل نكسة للفكر التوحيدي وللرؤية التي طرحها الأنبياء في العهد القديم. فالتلمود يخلع العديد من الصفات الإنسانية واليهودية على الإله. والعصمة ليست من صفاته، فهو يكون مشغولاً خلال اثنتى عشرة ساعة يومياً: يقرأ التوراة في الساعات الثلاث الأولى، ويحكم العالم في الثلاث التالية، ويفكر في إفناء العالم، ثم يترك كرسي القضاء إلى كرسي الرحمة، ويجلس في الساعـات الثـلاث التالية يرزق العـالم كلـه من أكبر الحيوانات إلى أصغرها. وفي الثلاث الأخيرة، يلعب مع التنين أو الحوت. والإله، في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبِّر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يُمضي وقتاً طويلاً من الليل يزأر كالأسد. ولكنه في آخر الأيام، بعد إقامة المجتمع اليهودي الأمثل في العصر المشيحاني، في ظل الدولة المستعادة، يجلس على العرش يقهقه لانتصار شعبه، وعبثآً يتوافد الوثنيون طالبين قبولهم. ويتبدَّى التعصب الإلهي في أنه حينما يأتي الماشيَّح سيصبح كل الناس عبيداً لجماعة يسرائيل.
وتظهر الحلولية والانعزالية في تلك القداسة التي تحيط بالتلمود. وهو في الواقع ـ كما أسلفنا ـ مجرد تفسير للعهد القديم وضعه الحاخامات، إلا أنه، مثله مثل كل كتب التفسير اليهودية، يكتسب قداسة خاصة. وقد سيطرت أسطورة الشريعة الشفوية على الوجدان اليهودي سيطرة تامة بعد ظهور المسيحية، فكان يُنظر إلى التلمود في بداية الأمر باعتبار أنه يأتي في المرتبة الثانية بعد التوراة، ولكنه أصبح بعد حين يُلقَّب بالتوراة الشفوية، أي صار مساوياً لتوراة موسى في المرتبة، ولم يَعُد في وسع أي يهودي مخالفته. وأخذت درجة قداسته في الازدياد والاتساع حتى أصبح أكثر قداسة من التوراة نفسها. وقد قال أحد الحاخامات: «يا بني كن حريصاً على مراعاة أقوال الكتبة [أي الحاخامات واضعي التلمود] أكثر من حرصك على أقوال التوراة، لأن أحكام التوراة تحوي الأوامر والنواهي. أما شرائع الكتبة، فإن من ينتهك واحـدة منها يجلب على نفسه عقوبة الإله». وقـد جـاء أيضاً أنه: «لا خلاص لمن ترك التلمود واشتغل بالتوراة لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى، وهي أفضل من أقوال الأنبياء».
وفي معرض تقديس التلمود والإيمان المطلق بكل ما دوَّنه الحاخامات فيه، ورد في التلمود أن خلافاً ما قد وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل، تقرَّر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وفي هذا المقام أيضاً، ردد بعض الحاخامات أن الإله يستشير الحاخامات على الأرض إذا صادفته مسألة معضلة يتعذر عليه حلها في السماء. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائماً، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.
ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب. (كان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش إيمونيم الحلولية).
وتساءل كُتَّاب التلمود عن سبب تشبيه اليهود بشجرة الزيتون، وترد الإجابات التالية:
1 ـ لأن شجرة الزيتون لا تفقد أوراقها، كما أن كل اليهود لن يضيعوا في هذا العالم أو العالم الآتي.
2 ـ وكما أن الزيتون لا ينتج زيتاً إلا بعد العصر والضغط عليه، فإن أعضاء جماعة يسرائيل لن يعودوا كذلك إلى جادة الصواب إلا بعد الآلام والعذاب.
3 ـ شُبِّه اليهود بحبة الزيتون لأن زيت الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى. وكذلك جماعة يسرائيل، لا يمكن أن تختلط مع الشعوب الأخرى. ويدَّعي التلمود أن روح الإله من روح الشعب كما أن الابن جزء من أمه، ولذا فمن يعتدي على يهودي فهو كمن يعتدي على العزة الإلهية، ومن يعادي جماعة يسرائيل أو يكرهها فإنه يعادي الإله ويكرهه، وخصوصاً إذا عرفنا أن الإله كان يقطن بينهم حينما كانوا في أرض الميعاد، وأن الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) بقيت معهم حينما نُفوا خارجها إذ أن موسى طلب ذلك من الإله.
وكان الاختيار في بادئ الأمر تلقائياً نابعاً من رحمة الإله وإرادته الإلهية، ولكن اليهود ـ حسب الرؤية التلمودية الحلولية ـ بينوا أنهم جديرون بهذا الاختيار. ولذا، تحوَّل الاختيار من مجرد منحة من الإله إلى حق من حقوقهم مُلزم له وإلى دين عليه أن يؤديه حتى لو ضلوا الطريق. وقد جاء في التلمود على لسان الإله: «لن أعامل جماعة يسرائيل كالأمم الأخرى، حتى وإن لم تعمل حسنات إلا قليلاً تافهاً كروث الدجاج المتناثر في الحظيرة، فسأجمع هذه الحسنات ليكون لها حسنات كثيرة». وهكذا اختل التوازن الحلولي لصالح اليهود مرة أخرى، وإن كان هناك رأي تلمودي مغاير يرى أن الاختيار تكليف إلهي وعبء مُلقى على كاهل اليهود عليهم أن يضطلعوا به. والتوراة هي ميراث الشعب المختار وحده، ومن يدرسها من الأغيار يستحق الموت (ولكن ثمة رأياً تلمودياً مغايراً يرى أن الوثني الذي يدرس التوراة هو في منزلة الكاهن الأعظم).
هذه النزعة الانعزالية المتعالية توجد في معظم صفحات التلمود المليء بالأحكام الموجهة ضد غير اليهود (وخصوصاً سفر عفوده زاره أو عبادة الأوثان)، فلن يدخل الجنة سوى اليهود. وقد خلق الإله الأغيار على هيئة الإنسان لكي يكونوا لائقين بخدمة اليهود الذين خُـلقت الدنيا من أجلهم، إذ ليس من الملائم أن يقوم حيوان على خدمة الأمير، وهو على صورته الحيوانية. ولا يُعتدُّ بشهادة غير اليهودي أمام المحاكم إلا في حالات قليلة. وإذا وقع أذى بشخص، فمن المهم جداً تحديد هل هذا الشخص يهودي أم لا، بل إن هذا التمييز يسري أيضاً في المعاملات التجارية. وفي مسائل الطهارة، يعتبر الأغيار أنجاساً في حياتهم. ولكن مقابرهم، باعتبار أنها غير مقدَّسة، لا تنجس الكهنة. والعكس صحيح بالنسبة إلى اليهود، فهم طاهرون في حياتهم وقبورهم مصدر نجاسة أساسي للكهنة اليهود.
ويتناسى التلمود الفرق بين الأخيار والأشرار من الأغيار، رغم أنه تمييز أساسي في العقيدة اليهودية نفسها. بل إن التلمود يطلب أحياناً إلى اليهود أن يسـتخدموا مقياسـين أخلاقيين: أحدهما للتعامل مع اليهود، والآخر للتعامل مع غير اليهود (انظر: بابا متسيعا 95 أ، وبابا قما 113 أ). وقد جاء في التلمود أنه لا يصح أن يباع لليهودي الشيء الذي يحتمل فساده إن تُرك، ولكنه من الممكن أن يُباع لغير اليهودي، كما يُحرَّم على الطبيب اليهودي أن يعالج مريضاً غير يهودي (إلا لدرء أذى الأغيار).
ولأن التلمود يرى أن اليهود وحدهم يجسدون روح الإله، لذا نجده لا يرحب بالمتهوِّدين. وقد ورد فيه «إن المتهوِّدين مثل القذى في عين جماعة يسرائيل» وهو موقف لا يزال يسيطر على المؤسسة الأرثوذكسية وريثة التراث التلمودي في إسرائيل. وكان اليهودي يشكر إلهه على أن مكانه «بين أولئك الذين يجلسون في بيت الدراسة والمعبد [أي اليهود] ولم تجعل مكاني بين أولئك الذين يذهبون إلى المسارح والسيرك [أي غير اليهود]». وحتى حينما كان بعض المفسرين ينصحون اليهود بعدم الكذب على الأغيار، فإنهم يصرون على ضرورة عدم الاحتكاك بهم، أو الدخول معهم في علاقة. وقد قال أحد الشارحين في القرن السابع عشر في بولندا إن من الواضح أن التوراة تأمر اليهود بأن يحتفظـوا بالكراهـية بينهـم وبين الأغيـار حتى يبعدوا خطر الزواج المُختلَط. ولذا، فلا يمكن السماح بتلك الأفعال التي قد تقلل الكره بين اليهود والأغيار. وتصل النزعة المتعالية ذروتها في عبارة: «اقتل أفضل الأغيار، اسحق رأس أنبل الأفاعي». وقد اقتبس أحد كتيبات الحاخامية العسكرية الإسرائيلية هذه العبارة التلمودية التي أثارت ضجة داخل إسرائيل وتصدَّى لها بعض القادة الدينيين ووصفوها بأنها تشويه للعقيدة اليهودية.
فالحلولية إذن هي الإطار الفلسفي، والانعزالية والتعالي الإثنيين هما الترجمة العملية لها. ولكن التلمود كتاب جيولوجي ضخم يضم موضوعات شتى وتراكمت فيه رؤى وآراء مختلفة، فكل العقائد اليهودية المعروفة قد دُوِّنت وصُنِّفت فيه، بشكل واضح أحياناً، وبشكل غامض مشوش أحياناً أخرى. كما يضم التلمود أيضاً موضوعات وطرائف لا تنضوي بالضرورة داخل إطار فلسفي واضح، أو رؤية دينية محددة، فهو يتحول أحياناً إلى مجرد وثيقة اجتماعية لا توجه الواقع وإنما تعكسه وحسب. فصفحات التلمود تعكس وضع اليهود الاقتصادي كجماعة وظيفية تعمل بالتجارة. ولذلك، كان على اليهودي، حسب التقاليد التلمودية، أن يتلو ثلاث تسبيحات شكر كل يوم لأن الإله خلقه يهودياً، ولأنه لم يخلقه امرأة ولم يخلقه فلاحاً. وقد جاء أنه «لا يوجد عمل أكثر امتهاناً من فلاحة الأرض». ومع هذا، هناك أقسام طويلة في التلمود عن الزراعة وقوانينها وأفضالها. ومن أهم أنواع التجارة التي مارسها أعضاء الجماعات اليهودية تجارة الرقيق. ولذا، فإننا نجد أن التلمود نظم عملية امتلاك عبد من الأغيار. فهو يُمتلَك بالشراء أو بالصك أو بالخدمة الفعلية. ويوجد في التلمود صيغة لاستمارة يتم ملؤها للحصول على عبد تقول: «هذا العبد تم استعباده بصورة قانونية وليس له أي حق من حقوق الأجراء، وليست له مطالب يقدمها للملك أو الملكة. وليست به أية علامة إنسانية، وهو خال من أية عيوب جسدية ومن أية علامة في الجلد تدل على إصابته بالبرص سواء حديثاً أم في الماضي». وكانت طبقة العبيد مُحتَقرة كما كان يسود الاعتقاد بأنهم كسالى: «هناك عشرة مقاييس من النوم نزلت إلى العالم، فأخذ العبيد تسعة منها وأخذ بقية الناس الواحد المتبقي». ولا يتمتع العبد بثقة كاتبي التلمود، فهو لا يُعَدُّ إنساناً، ولذا فليس بإمكان اليهودي أن يصلي معه أو أن يصلي عليه أو يسير في جنازته.
ولا يقتصر التلمود على حياة اليهود العامة، وإنما يمتد ليشمل أخص خصوصياتهم. فهو يتناول، ضمن ما يتناول، كل دقائق إعداد الطعام وتناوله والعلاقات الخاصة بين الرجل وزوجته والطمث. وينبعث من صفحات التلمود احتقار عميق للمرأة، وقد كتب أحدهم يقول: «هناك أربع خصائص للنساء: فهن شرهات، ومتصنتات وكسولات وغيورات، وهن أيضاً كثيرات الشكوى وثرثارات». وقد أفاض التلمود بشأن الصفة الأخيرة: "نزلت إلى العالم عشرة مقاييس للكلام، أخذت النساء تسعة منها وأخذ الرجال واحداً".
والتلمود كتاب طبي أيضاً. ولذا، فإننا نجد فيه وصفات طبية عديدة، فهو ينصح بضرورة التعرض للماء البارد بعد حمام ساخن. كما نجد في التلمود شرحاً لأسباب الإمساك وطريقة معالجته. وينصح التلمود أيضاً بأن من: «يطيل البقاء في المرحاض، يطيل الرب أيامه وسنيه». وهناك صلاة شكر تُتلى بعد تلبية نداء الطبيعة.
وعلاوة على كل هذا، يمكن اعتبار التلمود كتاب فولكلور يعكس شتى الممارسات والآراء الخرافية التي كانت سائدة في مكان نشأته، سواء في بابل أو في الأماكن الأخرى التي عاش فيها الشارحون. ولأن كُتَّاب التلمود يدورون في نطاق حلولي، فإننا نجدهم يؤمنون بإمكانية التحكم الكامل والتوصل للحل السحري (الغنوصي) وبفاعلية العلاجات العجائبية والعقاقير الشيطانية والسحر والرقى والتعاويذ. والتلمود أيضا كتاب تنجيم وسحر وتفسير أحلام. ومما يُذكَر فيه أن قارئه الراغب في رؤية العفاريت رؤية العين يمكنه ذلك باتباع خطوات تم تحديدها بدقة متناهية، وإن أراد طرد العفاريت فصفحاته تضم تعاويذ تفي بذلك الغرض. وتصل الحلولية إلى ذروتها (أو هوتها) حين يؤكد التلمود أن الحاخامات كانوا قادرين على الخلق، فقد ذكر أن حاخاماً خلق مرة إنساناً بأن نطق اسم الإله الأعظم وأرسله إلى الحاخام زعيرا الذي تحدَّث إليه، ولكنه لم يستطع أن يجيب، فتعجب الحاخام قائلاً: «أنت مخلوق بفعل السحر، ارجع إلى التراب».
وقد أثر التلمود، بما احتوى من نظرة حلولية انعزالية، في كثير من أجزائه، في الفكر الصهيوني، حيث وجد المفكرون الصهاينة ما يدعم اتجاهاتهم. فقد جاء في سفر «عفوده زاره» على سبيل المثال لا الحصـر: «ينبغي ألا تُؤجَّر البيوت لغير اليهود في أرض يسرائيل، ناهيك عن الحقول». وهذه إحدى القواعد الأساسية للصندوق القومي اليهودي. كما أن الصهاينة يقتبسـون من التلمـود عبارات مثل: «من يقيم خارج أرض يسرائيل هو مثل إنسان بدون إله» (كتوبوت 110ب).
ولكن نظراً لخاصية التلمود الجيولوجية، فإننا نجد أنه يرد فيه عكس هذه الأفكار تماماً، فقد قال الحاخام يهودا: "من يصعد من بابل إلى أرض يسرائيل، فقد انتهك إحدى الوصايا الإلهية". ويستشهد بسفر إرميا (27/22)، ثم يقول: "مثلما أنه ممنوع مغادرة أرض يسرائيل إلى بابل، فمن الممنوع أيضاً مغادرة بابل إلى غيرها من البلدان"، ثم يستطرد قائلاً: "إن من يعيش في بابل كأنه مقيم في أرض يسرائيل" (كتوبوت 111أ). كما توجد في التلمود أيضاً أفكار متناقضة عن العصر المشيحاني، بعضها ذو نكهة صهيونية انعزالية والبعض الآخر معاد لها وله نزعة اندماجية عالمية.
وتجد التوسعية الصهيونية تبريراً لها في الصورة التي يرسمها التلمود لحدود الأرض في المستقبل، فهي سوف تمتد وتصعد في جميع الجهات، ومن المقدر لأبواب القدس أن تصل إلى دمشق، وسوف يأتي المنفيون لينصبوا خيامهم في الوسط. وقد جاء أيضاً: "إن فلسطين تُدعى أرض الظبي، فكما أن جلد الظبي يعجز عن استيعاب لحمه وجسمه، كذلك هي أرض يسرائيل: عندما تكون مأهولة تجد لنفسها متسعاً، لكنها تتقلص متى كانت غير مأهولة". فحدود هذه الأرض متغيرة، وتزداد بازدياد المستوطنين اليهود فيها. ولا يختلف هذا القول كثيراً عن موقف تيودور هرتزل من الحدود حين بيَّن أن ما سيقرر حدود الدولة هو مدى حاجة الصهاينة: "كلما ازداد عدد المهاجرين ازدادت حاجتنا إلى الأرض".
ورغم أن ثمة عناصر صهيونية في التلمود، إلا أنه لا يمكن القول بأنه تسبَّب في ظهور الصهيونية. فالصهيونية حركة سياسية تهدف إلى استعمار فلسطين عن طريق توطين عنصر سكاني غريب فيها، وتعود جذورها أساساً إلى الفكر الألفي الاسترجاعي البروتستانتي وإلى وضع اليهود داخل الحضارة الغربية كجماعة وظيفية وإلى الإمبريالية الغربية. كما أن المؤسسة الحاخامية التلمودية ذات العلاقة الوثيقة بأثرياء اليهود في كل أنحاء العالم، والتي امتزجت مصالحها بمصالحهم بحيث أصبح الفريقان يشكلان النخبة القائدة، كانت تقف ضد فكرة العودة المشيحانية لأن مصالح هذه النخبة (ومصالح الجماعة الوظيفية ككل) كانت مرتبطة تمام الارتباط بمجتمعاتها المختلفة ومتجذرة فيها، ومن هنا كان حرصها على تأسيس حلقات ومدارس تلمودية (أكاديميات ـ يشيفات) تعمل على تخريج حاخامات ملمين بالأوضاع المحلية الخاصة، قادرين على إصدار الفتاوى الملائمة التي تفسر الأوضاع الجديدة وتتكيف معها. وبعد التهجير البابلي، استقلت الحلقات التلمودية في بابل، وحينما ظهرت حضارة الأندلس حرص أثرياء الجماعة اليهودية هناك على استقلال الحلقات فيها. وقد استقل يهود الغرب الإشكناز بحاخاماتهم ومدارسهم التلمودية. ولم يكن من مصلحة هؤلاء الأثرياء العـودة إلى فلسـطين، بل كانت مصلحتهم في البقاء في المنـفى. ومن هنا، يتواتر الحديث في التلمود عن أن "شريعة الدولة هي شريعتنا"، وعن ضرورة انتظار الماشيَّح في صبر وأناة حتى يأذن الإله. ومن هنا أيضاً، وقفت المؤسسة الحاخامية التلمودية ضد النزعات المشيحانية الصهيونية التي كانت أسـاساً نزعـات شـعبية تعبِّر عن بؤس فـقراء اليهود، وعدم إدراكهم للعلاقات الدولية أو لطبيعة البؤس الواقع عليهم. وقد ظلت هذه المؤسسة واقفة بقوة ضد كل المشحاء الدجالين تستعدي عليهم السلطات وتجند فقهاءها لإثبات كذبهم كما فعل الحاخام نحميا مع شبتاي تسفي. كما كانت تُكفِّر كل من كان يفكر في العودة وتُوجِّه إليه تهمة أنه ارتكب جريمة التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتس). ويُلاحَظ أن ظهور الصهيونية الحديثة مرتبط بتآكل المؤسسة الحاخامية التلمودية وبانهيار نفوذ التلمود تماماً. وحينما نشر هرتزل كتيب دولة اليهود، عارضه كبار الحاخـامات جميـعاً، وبالذات الأرثوذكـس (التلموديون). ولذا، فإن التلمود، على مستوى من المستويات، كان مسئولاً إلى حدٍّ ما عن تخفيف حدة النزعة المشيحانية في اليهودية، وبالتالي نجح في صد الصهيونية.
وقد تقصَّى الدكتور أسعد رزوق موقف التلمود من العرب، فوجد أنه (في بعض نواحيه) تعبير عن الانعزالية المتعالية نفسها. وقد جاء في سفر سوكاه (52 ب) أن الإله ندم على خلقه أربعة أشياء: المنفى، والكلدانيين، والإسماعيليين (أي العرب)، ونزعة الشر. وينسب التلمود إلى العرب أعمال السحر، فقد جاء في سفر سنهدرين (67ب) أن عربياً امتشق السيف وقطع به الناقة، ثم قرع جرساً فنهضت دون وجود آثار عليها. والعرب، حسبما جاء في التلمود، خبراء في الطب، وخصوصاً الطب الشعبي. ويرد في التلمود العديد من القصص الطريفة والأعاجيب عن العرب. وهناك قصص ليست في صالح راويها الحاخامي إذ أن بعضها يدل على خبرة العرب وبراعتهم واحترامهم موتى اليهود أكثر من احترام الحاخام إياهم. وأخيراً، فقد جاء في سفر السبت (11 أ) القول التالي: "لا بأس من الخضوع لحكم واحد من أبناء إسماعيل بدلاً من حكم الغريب [أي الأدومي]". وبحسب ما جاء في حاشية الشارح، فإن المقصود بذلك هو تفضيل الحكم العربي على البيزنطي، وهو ما يشكل أساساً تلمودياً للمصالحة مع العرب بل قبولهم حكاماً!
هذه بعض الأفكار والموضوعات الأساسية في التلمود. ويجب أن نقرر مع جيمس باركس، وهو مؤرخ غير يهودي متعاطف مع اليهودية، قوله: «إنه لم يكن من الصعب أن يقتبس أي دارس للتلمود، وبيسر شديد، كثيراً من الآراء والمشاعر التافهة والمضحكة بل الكريهة، وبوسعه أن يفعل ذلك دون أن يخطئ في الاستشهاد أو يزيف السياق، إذ أن مثل هذه النصوص توجد في الأدب الحاخامي [الجيولوجي] الضخم وغير المترابط». ونحن إذا وافقناه على رأيه هذا، فلن نحيد عن طريق الصواب، فهذا أيضاً هو رأي الحاخام جيكوب آجوس أحد أهم مؤرخي اليهودية.
وهذا هو أيضاً رأي المؤلف اليهودي الصهيوني برنارد لازار، الذي وصف التلمود بأنه "كتاب ضد المجتمع". وقد لعب دوراً حاسماً في تحويل اليهود إلى شعب واحد، فهو الذي صنع النفس اليهودية وصاغ خصائصها، وهو "خالق الجنس أو صانع العنصر اليهودي"، و"هو الذي علَّم اليهود الاستعلاء والتفوق المليء بعصبية ضيقة وضارية". ولعل مثل هذه الآراء، التي تفسر سلوك اليهود في إطار بعض ما جاء في التلمود، هي المسئولة عن موقف المعادين لليهود الذين يجعلون كل يهودي في كل زمان ومكان مسئولاً عما ورد فيه من آراء متعصبة. ومثل هذا الرأي ينم عن عدم إدراك لطبيعة التلمود أو طبيعة علاقة اليهودية به. فالتلمود ليس كلاًّ متجانساً، كما أن اليهود ليسوا على معرفة بما جاء فيه ككل، وهو لا يحدِّد سلوك اليهود كافة في كل زمان ومكان. والواقع أن من يحوِّل التلمود إلى نموذج تفسيري لسلوك اليهود أو أعضاء الجماعات اليهودية (كما يفعل كثير من الدارسين)، يكون قد حكم على نفسه بالانفصال عن الواقع والفشل الذريع في التنبؤ.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق