1461
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق
الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية في اليهودية
الباب السادس: اليهودية الحاخامية (التلمودية)
ســــــمات التلــــــمود الأساســـــية
Essential Characteristics of the Talmud
حينما يتم تناول أي نص أياً كانت قداسته، لابد أن يؤخذ في الاعتبار سياقه التاريخي، فلا يمكن فهم ما جاء في العهدين القديم والجديد إلا بفهم الوضع في فلسطين منذ التسلل العبراني في كنعان حتى ظهور المسيح، ولا يمكن فهم ما يقوله المسيح (رغم أهميته الدينية والأخلاقية المطلقة) إلا بإدراك الأبعاد التاريخية في أقواله. فالمطلق رغم مطلقيته، لابد أن يتبدَّى من خلال النسبي (في لحظات) إذ أن الإنسان الذي يعيش في التاريخ لا يمكنه أن يدرك المطلق إلا من خلال النسبي. ورؤية المطلق في علاقته بالنسبي، والإلهي في علاقته بالتاريخي، لا تعني بالضرورة أن يُردَّ الأول برمته إلى الثاني، وإنما تعني أن الثاني هو المجال الذي يتبدى من خلال الأول. وإذا كان هذا ينطبق على الكتب الدينية (المقدَّسة)، فهو لا شك ينطبق بشكل أكبر على كتب الشروح والتفسير، مهما خلعت على نفسها من قداسة وإطلاق. والتلمود هو، في نهاية الأمر، كتاب تفسير وضعته القيادة الدينية لأقليات متناثرة كانت تعيش في قلق وخوف وإحساس بالخطر المحدق بها (الحقيقي والوهمي) في عصور لم يكن يُعترَف فيها بحقوق أعضاء المجتمع، ناهيك عن حقوق أعضاء الأقليات، تلك الأقليات التي كانت تلعب دور الجماعة الوظيفية المرتبطة بالطبقة الحاكمة، ولكنها كانت غير محبوبة منها، كما كانت قريبة من الطبقات الشعبية ولكنها مكروهة منها. لقد كانت هذه الجماعة تعيش، إذن، في عزلة عن الجميع (وكان التلمود من أهم وسائل هذا العزل). وقد نتج عن هذا الوضع إحساس زائد بالذات، ولذا فَقَد أعضاء الجماعات اليهودية وقياداتهم قدراً كبيراً من علاقتهم بالواقع وانفصل فكرهم عنه، وأصبح التلمود مجالاً للتعويض عما يلاقونه من اضطهاد، فتحوَّل التلمود إلى صياغـات لفظية يمارسـون من خـلالها الانتقام من أعدائهم، عن طريق الحط من شأنهم وإظهار التفوق اليهودي، وخصوصاً في آخر الأيام بعد عودة الماشيَّح حيث يبطشون ويبطش ربهم بكل أعدائهم. وقد كان شراح التلمود ينغمسون في هذه التهويمات اللفظية في الوقت الذي كانوا يعانون فيه صنوف العذاب ويُعامَلون معاملة الحيوان في بعض الأحيان. ومما له دلالته العميقة أن التلمود البابلي أكثر تسامحاً تجاه الأغيار من التلمود الفلسطيني، نظراً لأن وضع أعضاء الجماعة اليهودية في بابل كان أفضل من وضع أعضاء الجماعة في فلسطين، الأمر الذي صعَّد حدة العمليـة الانتقاميـة التعويضية في فلسطين وخفف من حدتها في بابل. والتلمود كان يُكتَب بلغة أو لغات ميتة لا تفهمها الشعوب التي كان اليهود يعيشون بين ظهرانيها، كما أن عدم وجود الطباعة ووسائل النشر ذات الإمكانيات العالية كان يجعل الحصول على نسخة من التلمود مسألة صعبة، فتحوَّل التلمود إلى جيتو لفظي يمارس فيه اليهودي حريته الوهمية كاملة!
وقد بدأت عملية التفسير والتعليق على العهد القديم حين كان اليهود يعيشون في وسط حلولي وثني مشرك، الأمر الذي جعل نبرة الفتاوى والشروح الحاخامية الأولى بشأن الأغيار حادة رافضة، وهي حدة تعود إلى العهد القديم نفسه حين وجد اليهود أنفسهم مكروهين يعيشون بين شعوب وثنية (كنعانيين ثم بابليين وفرس وهيلينيين ورومان) وتحت هيمنتها أحياناً، ويشكل التعامل معهم خطراً على الدين التوحيدي الجديد. ومن هنا جاءت النظرة المتطرفة إلى الأغيار، والتي تُسوِّغ الاستيلاء على أملاك الوثنيين وتستنكر تقديم أيِّ نوع من المساعدة إلى عبدة الأصنام. ورغم أن المجتمعات التي كان يعيش فيها أعضاء الجماعات قد تغيَّرت بعد أن تبنت ديانات سماوية توحيدية، فإننا نجد أن اليهودية وقد تحولت إلى عقيدة أقلية، مهددة، تود الحفاظ على هويتها، وتبنت رؤية حلولية متعالية للذات مقابل الآخر. وحدث الخلط بين عبدة الأوثان والمسيحيين، كما يظهر في إشكالية العكوم، فقد وُجِّه إلى التلمود اتهام بأن كلمة «عكوم» الواردة فيه ليست في حقيقتها اختصاراً للعبارة العبرية «عوفيد كوخانيم أومزالوت»، أي «عابد الكواكب وأبراج النجوم»، وإنما اختصار لعبارة «عبودت كريستوس وميريام»، أي «عبدة المسيح ومريم»، أي «المسيحيين». والمسألة موضع نقاش ونظر ولكنها تبين طبيعة الخلط.
ويتكون التلمود من نص، وشرح، وتعليق، وتعليق على التعليق، وإضافات شتى. وقد استمرت عملية وضعه مئات الأعوام في أزمنة وأمكنة مختلفة، ربما ابتداءً من التهجير إلى بابل حتى تم الانتهاء من تدوينه وإضافة التعليقات في القرن الثاني الميـلادي. واستمرت التعليقات حتى نهاية القرن التاسع عشر، أي أن كتابته استمرت عبر التاريخ واشترك فيها ما يزيد على ألف حاخام. فهو يتكون، إذن، من تراكم مستويات على مستويات أخرى دون أن تتفاعل معها بالضرورة مثل تراكم الطبقات الجيولوجية. ولذا، يمكننا أن نقول إن التلمود ليس الثمرة النهائية للتفكير بقدر ما هو عملية التفكير نفسها، ولكنه على أية حال ليس تفكيراً يتسم بحد أدنى من الوحدة، بل ينبع من حركيات اجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة ويتأثر بها. واستمرت عملية التراكم هذه دون حذف الأفكار الانعزالية الكريهة التي عبر عنها بعض الحاخامات بغير رقابة ذاتية أو خارجية عليها. وقد عمَّق هذا الاتجاه تلك القداسة التي خلعها التلمود على نفسه. وقد أدَّى هذا إلى أن عملية التحرير، والتغيير والتعـديل، أصبحـت أمراً مسـتحيلاً لا يمكـن حتى التفكير فيه، فالنص المقدَّس لا يصح تعديله أو الخوض فيه أو تبديله.
ومع هذا، فقد جرت محاولة لإعادة صياغة التلمود تهدف إلى تضييق المجال الدلالي لبعض الكلمات، بحيث تحل الكلمة المحددة محل الكلمة العامة حتى لا ينطبق ما جاء فيه من آراء وأحكام على كل الناس في كل زمان ومكان، وبحيث يضيق المجال الدلالي لكلمة مثل «الأغيار» وتحل محلها كلمة «الكنعانيين»، أو «البابليين».
ولكل ما تقدَّم، لا يتسم التلمود بالاتساق الداخلي، إذ يحوي داخله العديد من الأفكار والأطر الفلسفية المتناقضة. فثمة تعارض بين العقل والطبقة التوحيدية من جهة والنزعة الحلولية من جهة أخرى، وهناك الاهتمام المفرط بالطقوس مقابل الاهتمام بالتجربة الدينية الداخلية. وهناك من النصوص ما يؤيد هذا الموقف أو ذاك. وقد أشرنا أثناء عرضنا بعض أفكار التلمود الأساسية إلى أفكار مثل الشعب المختار وضرورة العودة إلى أرض الميعاد، بل إلى أفكار أكثر تطرفاً تحمل الضغينة والكراهية نحو الآخرين. وقد أشرنا إلى أن التلمود يضم أيضاً أفكاراً متناقضة جداً تتصل بهذه الأفكار المحورية نفسها. ويقتصر المعادون لليهود عادةً على اقتباس الأفكار السلبية الحلولية الانعزالية والمتعالية وحدها متجاهلين الأفكار الإنسانية. وحتى نبين مدى عمق ذلك التناقض، يمكننا أن نقتبس من التلمود بعض النصوص ذات البعد الإنساني العميق التي تتجاوز الانعزالية والحلولية. وسيُلاحَظ على سبيل المثال أن الاختيار يكتسب أبعاداً دينية عالمية، إذ أن الإله سينزل العقاب باليهود: "إن لم يتحدثوا عن قداسته للعالمين". فقد نُفيت جماعة يسرائيل وشُتِّتَتْ بهدف واحد هو "الدعوة لليهودية وكسب المتهودين" (بساحيم 87ب). وهذه النزعة التبشيرية، التي تحدد اليهودية باعتبارها عقيدة لا باعتبارها ميراثاً عرْقياً وإثنياً، تفترض تساوي البشر وتتجاوز الحلولية التي ترى أن الإله محصور بين اليهود مقصور عليهم، وقد تبنت اليهودية الإصلاحية هذا الموقف من عملية التهويد.
وتصل الإنسانية قمتها في ذلك النص الذي جاء فيه أن الروح القدس تستقر على الجميع، اليهودي وغير اليهودي، الرجل أو المرأة، العبد والجواري، كل امرئ "حسب أفعاله". كما جاء في جطين (616) أن أحـد الحاخـامات أوصى بإطـعام فـقراء الأغيـار مع فـقراء اليهـود، "وبزيارة مرضاهم مثلما نزور مرضانا، وأن يُدفَن موتاهم مع موتانا حتى ندعم سبل السلام".
ومن الأمور الأخرى التي تُعاب على التلمود، باعتباره أحد الكتب الدينية، أنه يتناول من الموضوعات ما قد يرى البعض، استناداً إلى تجربتهم الدينية، أنها لا علاقة له بالدين مثل الطب وطريقة شراء العبيد. ولكن ما هو مقدَّس لا يوجد بمعزل عما هو دنيوي. كما أن كل نمـوذج ديني يُعرِّف ما هـو ديني ومقدَّس وما هـو دنيوي بطريقتـه الخاصة. وقد اتسع نطاق القداسة في اليهودية بسبب الطبقة الحلولية داخلها ليضم كثيراً من مناحي الحياة. فالأوامر والنواهي (متسفوت) والبالغ عـددها 613 تغـطي تقـريباً كل كبيرة وصغيرة في حياة اليهودي. كما أن التلمود ليس كتاباً دينياً وحسب، وإنما هو أيضاً كتاب فلكلور الجماعات اليهودية. والواقع أن تناقضاته الداخلية لا تنصرف إلى موضوعاته ومنطلقاته الدينية والفلسفية وحسب وإنما تنصرف أيضاً إلى نوعه أو جنسه الأدبي، فهو كتاب فقه وقصص وحكم وأمثال. وعلى قارئ التلمود ودارسه أن يفرق بين ما هو ديني وما هو شعبي.
وفي نهاية الأمر، لابد أن نشير إلى أن كثيراً من الأقوال والأحكام التي وردت في التلمود لا علاقة لها بأي واقع محدد، وإنما هي أحكام خاصة بالهيكل بعد تشييده، أو بدلائل آخر الأيام، وما سيحدث فيها فيما بعدها، الأمر الذي يجعل علاقتها واهية بالسلوك السياسي للأفراد والجماعات. كما أن قضية التفسير أساسية حينما نتناول أي نص ديني. ورغم أن التلمود هو نفسه تفسير، فإنه يخضع دائماً لعملية تفسير من قبل الحاخامات (وتنطوي عملية التفسير على انتقاء واختيار واسـتبعاد). ولما كان التلمـود كتاباً ضخـماً متناقضـاً، فهـو بالضـرورة «حمَّال أوجه»، ويمكن أن يُفسَّر بألف طريقة. وفي كثير من المختارات التي تَصدُر في العصر الحديث، يُلاحَظ أن محرريها يستبعدون العبارات الجارحة والأفكار الكريهة والمواقف العنصرية ويفسرون ما قد يرد منها تفسيراً يضفي عليها معاني إنسانية. وقد تهدف عملية الانتقاء والتفسير هذه إلى إخفاء الجوانب السلبية للتلمود، حتى لا تسبب حرجاً لليهود، ولكن الإحساس بالحرج نفسه يدل على الرغبة في الابتعاد عن المضمون الحلولي العنصري المتعالي.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق