79
تاريخ الخلفاء ( السيوطي )
المأمون عبدالله أبو العباس
المأمون عبدالله أبو العباس بن الرشيد ولد سنة سبعين ومائة في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول وهى الليلة التى مات فيها الهادى واستخلف أبوه وأمه أم ولد اسمها مراجل ماتت في نفاسها به وقرأ العلم في صغره سمع الحديث من أبيه وهشيم وعباد بن العوام ويوسف بن عطية وأبي معاوية الضرير وإسماعيل بن علية وحجاج الأعور وطبقتهم وادبه اليزيدى وجمع الفقهاء من الآفاق وبرع في الفقه والعربية وايام الناس ولما كبر عنى بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن روى عنه ولده الفضل ويحيى بن أكثم وجعفر بن أبي عثمان الطيالسى والأمير عبدالله بن الطاهر وأحمد بن الحارث الشيعى ودعبل الخزاعى وآخرون وكان أفضل رجال بنى العباس حزما وعزما وحلما وعلما ورأيا ودهاء وهيبة وشجاعة وسوددا وسماحة وله محاسن وسيرة طويلة لولا ما أتاه من محنة الناس في القول في خلق القرآن ولم يل الخلافة من بنى عباس أعلم منه وكان فصيحا مفوها وكان يقول معاوية بعمره وعبدالملك بحجاجه وأنا بنفسي وكان يقال لبنى عباس فاتحة وواسطة وخاتمة الفاتحة السفاح والواسطة المأمون والخاتمة المعتضد وقيل إنه ختم في بعض المضانات ثلاثا وثلاثين ختمة وكان معروفا بالتشيع وقد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن والعهد بالخلافة إلى على الرضى كما سنذكره قال أبو معشر المنجم كان المأمون أمارا بالعدل فقيه النفس يعد من كبار العلماء وعن الرشيد قال إنى لأعرف في عبدالله حزم المنصور ونسك المهدى وعزة الهادى ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابع يعنى نفسه لنسبته وقد قدمت محمدا عليه وإنى لأعلم أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء والنساء ولولا أم جعفر وميل بنى هاشم لقدمت عبدالله عليه استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمان وتسعين وهو بخرسان واكتنى بأبى جعفر قال الصولى وكانوا يحبون هذه الكنية لأنها كنية المنصور وكان لها في نفوسهم جلالة وتفاؤل بطول عمر من كنى بها كالمنصور والرشيد وفي سنة إحدى ومائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد وجعل ولى العهد من بعده على الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه وهو الذي لقبه الرضى وضرب الدراهم باسمه وزوجه ابنته وكتب إلى الآفاق بذلك وأمر بترك السواد ولبس الخضرة فاشتد ذلك على بنى العباس جدا وخرجوا عليه وبايعوا إبراهيم بن المهدى ولقب المبارك فجهز المأمون لقتاله وجرت أمور وحروب وسار المأمون إلى نحو العراق فلم ينشب على الرضى أن مات في سنة ثلاث فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلى وقد مات فردوا جوابه أغلظ جواب فسار المأمون وبلغ إبراهيم بن المهدى تسلل الناس من عهده فاختفى في ذى الحجة فكانت أيامه سنتين إلا أياما وبقى في أختفائه مدة ثمان سنين ووصل المأمون بغداد في صفر سنة أربع فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخضرة فتوقف ثم أجاب إلى ذلك وأسند الصولى أن بعض آل بيته قالت إنك على بر أولاد على بن أبي طالب والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم فقال إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولى ولم يول أحدا من بنى هاشم شيئا ثم عمر ثم عثمان كذلك ثم ولى على فولى عبدالله بن عباس البصرة وعبيدالله اليمن ومعبدا مكة وقثم البحرين وما ترك أحدا منهم حتى ولاه شيئا فكانت هذه منة في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت وفي سنة عشر تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل وبلغ جهازها ألوفا كثيرة وقام أبوها بخلع القواد وكلفتهم مدة سبعة عشر يوما وكتب رقاعا فيها أسماء ضياع له ونثرها على القواد والعباسيين فمن وقعت يده رقعة باسم ضيعة تسلمها ونثر صينية ملئت جوهرا بين يدى المأمون عند ما زفت إليه وفي سنة إحدى عشرة أمر المأمون بأن ينادى برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير وأن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بن أبي طالب وفي سنة اثنتى عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافا إلى تفضيل على على أبي بكر وعمر فإشمأزت النفوس منه وكاد البلد يفتتن ولم يلتئم له من ذلك ما أراد فكف عنه إلى سنة ثمان عشرة وفي سنة خمس عشرة سار المأمون إلى غزو الروم ففتح حصن قرة عنوة وحصن ماجدة ثم سار الى دمشق ثم عاد في سنة ست عشرة إلى الروم وافتتح عدة حصون ثم عاد إلى دمشق ثم توجه إلى مصر ودخولها فهو أول من دخلها من الخلفاء العباسيين ثم عاد في سنة سبع عشرة إلى دمشق والروم وفي سنة ثمان عشر امتحن الناس بالقول في خلق القرآن فكتب إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعى بن عمر طاهر بن الحسن في امتحان العلماء كتابا يقول فيه وقد عرف أمير المؤمنك أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وقصور أن يقدروا الله حق قدره ويعرفوه كنه معرفته ويفرقوا بينه وبين خلقه وذلك أنهم ساووا بين الله وبين ما أنزل من القرآن فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه وقد قال الله تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا فكل ما جعله الله فقد خلقه كما قال الله تعالى فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وقال أحكمت آياته ثم فصلت والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه ثم انتسبوا إلى السنة وأظهروا أنهم أهل الحق والجماعة وجعل الظلمات والنور وقال كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وأن من سواهم أهل الباطل والكفر فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم فتركوا الحق إلى باطلهم واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم إلى أن قال فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظا وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه والهائل على أعدائه من أهل دين الله وأحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق به من عمى عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبالتوحيد وكان عما سوى ذلك أعمى وأضل سبيلا ولعمر أمير المؤمنين إن اكذب الناس من كذب على الله ووحيه وتخرص الباطل ولم يعرف الله حق معرفته فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا وامتحنهم فيما يقولون واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه وأعلمهم أنى غير مستعين في عملى ولا واثق بمن لا يوثق بدينه فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك وكتب المأمون إليه أيضا في أشخاص سبعة أنفس وهم محمد بن سعد كاتب الواقدى ويحيى بن معين وأبو خيثمة وأبو مسلم مستملى يزيد بن هارون وإسماعيل بن داود وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن إبراهيم الدورقى فأشخصوا إليه فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه فردهم من الرقة إلى بغداد وسبب طلبهم أنهم توقفوا أولا ثم أجابوه تقية وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة ففعل ذلك فأجابه طائفة وامتنع آخرون فكان يحيى بن معين وغيره يقولون أجبنا خوفا من السيف ثم كتب المأمون كتابا آخر من جنس الأول إلى أسحاق وأمره بإحضار من امتنع فأحضر جماعة منهم أحمد بن حنبل وبشر بن الوليد الكندى وأبو حسان الزيادى وعلى بن أبي مقاتل والفضل بن غانم وعبيدالله بن عمرو القواريرى وعلى بن الجعد وسجادة والذيال بن الهيثم وقتيبة بن سعيد وسعدوية الواسطى وإسحاق بن أبي اسرائيل وابن الهرس وابن علية الأكبر ومحمد بن نوح العجلى ويحيى بن عبدالرحمن العمرى وأبو نصر التمار وأبو معمر القطيعى ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم وعرض عليهم كتاب المأمون فعرضوا ووروا ولم يجيبوا ولم ينكروا فقال لبشر بن الوليد ما تقول قال قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة قال والآن فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب قال أقول كلام الله قال لم أسألك عن هذا أمخلوق هو قال ما أحسن غير ما قلت لك وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه ثم قال لعلى بن أبي مقاتل ما تقول قال القرآن كلام الله وإن أمرنا أمير المؤمنين بشىء سمعنا وأطعنا وأجاب أبو حسان الزيادي بنحو من كلام الله لا أزيد على هذا قال ابن البكاء الأكبر أقول القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك ذلك ثم قال لأحمد بن حنبل ما تقول قال كلام الله قال أمخلوق هو قال هو فقال له إسحاق بن إبراهيم والمجعول مخلوق قال نعم قال فالقرآن مخلوق قال لا أقول مخلوق ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون فورد عليه كتاب المأمون بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية ويقول الكتاب فأما ما قال بشر فقد كذب لم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق فادع به إليك فإن تاب فأشهر أمره وإن أصر على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده فاضرب عنقه وابعث إلينا برأسه وكذلك إبراهيم بن المهدى فامتحنه فإن أجاب وإلا فاضرب عنقه وأما على بن أبي مقاتل فقل له ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلل وتحرم وأما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي يسرقه من الأنبار ما يشغله وأما احمد بن يزيد أبو العوام وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه جاهل يحسن الجواب إذا أدب ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك وأما أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى مقالته واستدل على جهله وأفنه بها وأما الفضل بن غانم فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة يعنى ولاية القضاء واما الزيادى فأعلمه أنه كان منتحلا ولاء أول دعى فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه وذكر أنه إنما قيل له الزيادى لأمر من الأمور قال وأما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره وأما ابن نوح والمعروف بأبي معمر وابن حاتم فأعلمهم انهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد وإن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله إلا لإربائهم وما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحل ذلك فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركا وصاروا للنصارى شبها وأما ابن شجاع فأعلمه أنك صاحبه بالأمس والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذى كان استحله من مال على بن هشام واما سعدويه الواسطى فقل له قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث والحرص على الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة واما المعروف بسجادة وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس العلماء القول بأن القرآن مخلوق فأعلمه أن في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التى دفعها إليه على بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وأما القواريرى ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه وأما يحيى العمرى فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف وأما محمد بن الحسن بن على بن عاصم فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة التى حكيت عنه وإنه بعد صبى محتاج إلى أن يعلم وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن فجمجم عنها وتلجلج فيها حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف فأقر ذميما فانصصه عن إقراره فإن كان مقيما عليه فأشهر ذلك وأظهره ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت بعد بشر وابن المهدى فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف قال فأجابوا كلهم عند ذلك إلا أحمد بن حنبل وسجادة ومحمد ابن نوح والقواريرى فأمر بهم إسحاق فقيدوا ثم سألهم من الغد وهم في القيود فأجاب سجادة ثم عاودهم ثالثا فأجاب القواريرى ووجه بأحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح إلى الروم ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين فغضب وأمر بإحضارهم إليه فحملوا إليه فبلغتهم وفاة المأمون قبل وصولهم إليه ولطف الله بهم وفرج عنهم وأما المأمون فمرض بالروم فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه وهو يظن انه لا يدركه فأتاه وهو مجهود وقد نفذت الكتب إلى البلدان فيها من عبدالله المأمون وأخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده بهذا النص فقيل إن ذلك وقع بأمر المأمون وقيل بل كتبوا ذلك وقت غشى أصابه ومات المأمون يوم الخميس لاثنتى عشرة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة بالبدندون من أقصى الروم ونقل إلى طرطوس فدفن بها قال المسعودى كان نزل على عين البدندون فأعجبه برد مائها وصفاؤه وطيب حسن الموضع وكثرة الخضرة فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة فأعجبته فلم يقدر احد يسبح في العين لشدة بردها فجعل لمن يخرجها سيفا فنزل فراش فاصطادها وطلع فاضطربت وفرت إلى الماء فتنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه ثم نزل الفراش ثانية فأخذها فقال المأمون تقلى الساعة ثم أخذته رعدة فغطى باللحف وهو يرتعد ويصيح فأوقدت حوله نار فأتى بالسمكة فما ذاقها لشغله بحاله ثم افاق المأمون من غمرته فسأل عن تفسير المكان بالعربي فقيل مد رجليك فتطير به ثم سأل عن اسم البقعة فقيل الرقة وكان فيما عمل من مولده أنه يموت بالرقة فكان يتجنب نزول الرقة فرقا من الموت فلما سمع هذا من الروم عرف وأيس وقال يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه ولما وردت وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزوى هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون أو عن ملكه المأسوس خلفوه بعرصتى طرسوسمثل ما خلفوا أباه بطوس قال الثعالبي لا يعرف أب وابن من الخلفاء أبعد قبرا من الرشيد والمأمون قال وكذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد ولم ير الناس مثلهم فقبر عبدالله بالطائف وعبيدالله بالمدينة والفضل بالشام وقثم بسمرقند ومعبد بإفريقية
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق