2348
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
من تاريخ العلامة ابن خلدون
المجلد الخامس
صفحة 179 حتى صفحة 342
دولة بني زنكي بن أقسنقر
الخبر عن دولة بني زنكي بن أقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة والشام ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا ذكر اقسنقر مولى السلطان ملك شاه، وأنه كان يلقب قسيم الدولة. وان السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة ابن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد بن مروان، واستنجد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل، وهزمته العساكر، وانحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة إلى السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضي عنه ورده إلى بلده الموصل. واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكركما مر في موضعه من دولة بني مروان. ثم كان بعد ذلك شأن حلب، واستبد بها أهلها بعد انقراض دولة بني صالح بن مرداس الكلابي، وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش، وسليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم، وتُتش ابن السلطان ألب ارسلان.
وقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش. ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء إلى حلب فملكها، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها. وقد كانوا بعثوا إلى السلطان ملك شاه واستدعوه لملكها فوصل إليهم سنة تسع وسبعين: ورحل تتش عن القلعة، ودخل البرية. واستولى السلطان على حلب، وولى عليها قسيم الدولة اقسنقر، وعاد إلى العراق فعمرها أقسنقر وأحسن السيرة فيها، وسار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه بفتح بلاد العلوية بمصر والشام ففتح الكثير منها وهو معه كما مر. وزحف قبل ذلك سنة ثمانين إلى بني منقذ بشيزر، فحاصره وضيق عليه. ثم رجع عنه عن صلح، وأقام بحلب ولم يزل والياً عليها إلى أن هلك السلطان سنة خمس وثمانين.
واختلف ولده من بعده، وكان أخوه تتش قد استولى على الشام منذ سنة إحدى وسبعين. فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر، وسار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه بالشام، وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة أقسنقر، وحمل باغيسيان صاحب أنْطاكِية وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الأمر في ولد سيدهم ملك شاه. وساروا مع تتش إلى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها، ثم إلى نصيبين ففتحها عنوة، ثم إلى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران، وتولى كبر هزيمته أقسنقر، وقتل قريش بن إبراهيم وملك الموصل من يده وولى تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش. وسار إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان. وكان بركيارق بن ملك شاه قد
استولى على الري وهمذان وكثير من البلاد فسار لمدافعته، وجنح قسيم الدولة أقسنقر وبوزان صاحب الرها إلى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائداً إلى الشام ساخطاً على اقسنقر وبوزان ما فعلاه، فجمع العساكر وسار إلى حلب سنة سبع وثمانين لقتال قسيم الدولة. وأمده بركيارق بالأمير كربوقا في العساكر فبرزوا إلى لقائهم، والتقوا على ست فراسخ من حلب. ونزع بعض عساكر أقسنقر إلى تش فاختل مصافه، وتمت الهزيمة عليه وجيء به أسيراً إلى تتش فقتله صبراً.
ولحق كربوقا وبوزان بحلب، وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مر في أخبار الدولة. وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل، وكانت بلاده آمنة. ولما مات نشأ ولده في ظل الدولة السلجوقية. وكان أكبرهم زنكي فنشأ مرموقا بعين التجلة. ولما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق وأخيه محمد، كان زنكي في جملته، لأنه كان صاحب أبيه. وسار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان. وأنجده سقمان بن أرتق. وكان زنكي بن أقسنقر يومئذ صبيا، وهو في جملة رجال كربوقا ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب. وانهزم سقمان وظهر كربوقا. وفي هذه الحرب أسر بن ياقوتي ابن ارتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سبباً لملك بني أرتق فيها كما مر في أخبار دولتهم. ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمس بعد كربوقا، وبعده جاولي سكاوو، وبعده مودود بن ايتكين، وبعده اقسنقر البرسقي كما تقدم في أخبار السلجوقية. وولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين، وبعث معه ابنه مسعودا. كتب إلى سائر الأمراء هناك بطاعته، ومنهم يومئذ عماد الدين زنكي بن اقسنقر فاختص به.
ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة احدى عشرة، كان اخوه مسعود بالموصل، كما تقدم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقي من الموصل إلى شحنة بغداد. وانتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان محمود، وجمع البرسقي العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود وأتابكه حيوس بك بالموصل، وأغراهما بالمسير إلى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك وأبو علي بن عمار صاحب طرابلس، وزنكي بن قسيم الدولة اقسنقر وجماعة من أمراء الجزيرة. ووصلوا إلى بغداد وصالحهم البرسقي وسار معهم.
ودخل مسعود إلى بغداد، وجاء منكبرس إلى بغداد ونزع إليه دبيس بن صدقة. ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدم في أخبار الدولة. وأقام منكبرس ببغداد. ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخيه مسعود مقامات جليلة. وغلب السلطان أخاه مسعودا، وأخذه عنده، واستنزل أتابكه حيوس بك من الموصل، وأعاد إليها البرسقي سنة خمسة عشر
فعاد زنكي إلى الاختصاص به كما مر. ثم أضاف إليه السلطان محمود شحنة بغداد، وولاية واسط مضافة إلى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما.
ولما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد، وبرز المسترشد لقتاله من بغداد، وحضر البرسقي من الموصل وعماد زنكي فانهزم دبيس عماد الدين في ذلك المقام . ثم ذهب دبيس إلى البصرة، وجمع المنتفق من بني عقيل فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها. وبعث المسترشد إلى البرسقي فعذله في إهماله أمر دبيس، حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر إلى قصره، وهرب دبيس واستولى على البصرة وولى عليها عماد الدين زنكي بن اقسنقر فأحسن حمايتها والدفاع عنها. وكبس العرب في حللهم
بضواحيها، وأجفلوا. ثم عزل البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد، وعاد إلى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك، وقال كل يوم للموصل جديد يستنجدنا . وسار إلى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصفهان أقطعه البصرة وأعاده عليها من قبله.
ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها سنة تسع عشرة. وكان ابنه
عز الدين مسعود بحلب فبادر إلى الموصل، وأقام ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود، وبعث الخليفة عفيفا الخادم إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة، وقاتله فهزمه ونمى عفيف إلى المسترشد وأقام عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن، وفي البر فجمع السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكي السلاح، وأصعد في البر وقدم على السلطان، وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم، ووهن المسترشد لما رأى فأجابه إلى الصلح.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق