إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 30 نوفمبر 2014

496 زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث فصل [فى قدوم وفد ثقيف]


496

زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث

 فصل

[فى قدوم وفد ثقيف]


         قال ابن إسحاق: وقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة مِن تبوك فى رمضانَ، وقَدِمَ عليه فى ذلك الشهر وفدُ ثقيف، وكان مِن حديثهم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتَّبع أثَره عروةُ بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخُل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجعَ إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كما يتحدث قومُك أنهم قاتلوك))، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان منهم، فقال عُرْوَة: يا رسول الله؛ أنا أحبُّ إليهم مِن أبكارهم، وكان فيهم كذلك محبَّباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يُخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على عُلِّيَّة له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينَه، رمَوْه بالنبل مِن كل وجه، فأصابه سهمٌ فقتله، فقيل لعُرْوة: ما ترى فى دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها، وشهادةٌ ساقها الله إلىَّ، فليس فىَّ إلا ما فى الشهداء الذين قُتِلُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحِلَ عنكم، فادفِنونى معهم، فدفنُوه معهَم، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: ((إن مَثَلَه فى قَوْمِهِ، كَمَثَلِ صَاحبِ يَس فى قَوْمِهِ)).
         ثم أقامت ثقيف بعد قتل عُرْوَة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينَهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب مَنْ حولهم مِن العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، كما أرسلوا عُرْوَة، فكلَّموا عبد ياليل ابن عمرو بن عُمير، وكان فى سن عُرْوَة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يفعل وخشى أن يُصنع به كما صُنِع بعُرْوَة، فقال: لستُ بفاعل حتى تُرسلوا معى رجالاً، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثةً من بنى مالك، فيكونون ستة، فبعثوا معه الحَكَم بن عَمْرو بن وَهْب، وشُرَحبيل بن غيلان، ومن بنى مالك: عثمان بن أبى العاص، وأوس ابن عوف، ونمير بن خَرَشَة، فخرج بهم، فلما دَنَوْا من المدينة، ونزلوا قناة لَقُوا بها المغيرة بن شعبة، فاشتدَّ ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر فقال: أقسمتُ عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكونَ أنا أُحدِّثه، ففعل، فدخل أبو بكر على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرةُ إلى أصحابه، فروَّح الظهر معهم، وأعلمهم كيف يُحيُّون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب عليهم قُبَّة فى ناحية مسجده كما يزعمون.
         وكان خالدُ بن سعيد بن العاص هو الذى يمشى بينهم، وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كِتابهم، وكان خالد هو الذى كتبه، وكانوا لا يأكلون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكُلَ منه خالد، حتى أسلموا.
                  وقد كان فيما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغيةَ، وهى اللاتُ لا يَهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما برِحُوا يسألونه سنةً سنةً، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى، وإنما يريدون بذلك فيما يُظهرون أن يَسْلَمُوا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يُروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخُلَهُمُ الإسلامُ، فأبىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها، وقد كانوا يسألونه مع ترك الطاغية أن يُعفيهم مِن الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانَهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما كسرُ أوثانكم بأيديكم، فسنُعفيكم منه، وأما الصلاةُ، فلا خير فى دين لا صلاة فيه)). فلما أسلمُوا وكتب لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، أمَّر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سناً، وذلك أنه كان من أحرصهم على التفقه فى الإسلام، وتعلُّم القرآن.
         فلما فرغوا من أمرهم وتوجَّهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف، أراد المغيرة بن شعبة أن يُقَدِّمَ أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان، فقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذى الهَدْمِ، فلما دخل المغيرةُ بن شعبة، علاها يضربُها بالمعول، وقام دونَه بنو مُعتِّب خشية أن يُرمى أو يُصاب كما أُصيب عُروة، وخرج نساء ثقيف حُسَّراً يبكين عليها، ويقول أبو سفيان  والمغيرة يضربها بالفأس ((واهاً لك واهاً لك)) فلما هدمها المغيرةُ، وأخذ مالها وحُليها، أرسل إلى أبى سفيان مجموعَ مالها مِن الذهب والفضَّة والجَزْع.
                  وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود  قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قُتِلَ عُروة يريدان فراق ثقيف، وأن لا يُجامعاهم على شىء أبداً، فأسلما، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تولَّيا مَنْ شِئْتُمَا)) قالا: نتولَّى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وخالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ))، فقالا: وخالنا أبا سفيان.
  فلما أسلم أهل الطائف، سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضى عن أبيه عُروة دَيْنًا كان عليه من مال الطاغية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقْضِهِ  وعُروة والأسود أخوان لأب وأُم  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكاً)) فقال قارب ابن الأسود: يا رسول الله؛ لكن تَصِلُ مسلماً ذا قرابة  يعنى نفسَه  وإنما الدَّيْنُ علىَّ، وأنا الَّذى أُطْلَبُ به، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يَقضى دَيْنَ عُروة والأسود من مال الطاغية، ففعل.
         وكان كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتب لهم: ((بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبى رسول الله إلى المؤمنين، إن عِضَاه وَجٍّ وصيدَه حرام، لا يُعضد، من وُجِدَ يصنعُ شيئاً مِن ذلك، فإنه يُجلد، وتُنزع ثيابه، فإن تعدَّى ذلك، فإنه يؤخذ، فيبلغ به إلى النبى محمد، وإن هذا أمرُ النبى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
         فكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله. فهذه قصة ثقيف من أولها إلى آخرها، سُقناها كما هى، وإن تخلل بين غزوها وإسلامها غزاةُ تبوك وغيرها، لكن آثرنا أن لا نقطع قِصتهم، وأن ينتظم أوَّلُهَا بآخرها ليقع الكلام على فقه هذه القصة وأحكامها فى موضع واحد
                  فنقول: فيها مِن الفقه: جوازُ القتال فى الأشهر الحُرُم، ونسخُ تحريم ذلك، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة فى أواخر شهر رمضان بعد مضى ثمان عشرة ليلة منه، والدليل عليه ما رواه أحمد فى ((مسنده)): حدثنا إسماعيل عن خالد الحذَّاء، عن أبى قِلابة، عن أبى الأشعث، عن شدادِ ابن أوس، أنه مَرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمَنَ الفتح على رجل يحتجِمُ بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدى، فقال: ((أفْطَرَ الحَاجِمُ والْمَحْجومُ))، وهذا أصح مِن قول مَن قال: إنه خرج لعشر خلون من رمضان، وهذا الإسناد على شرط مسلم، فقد رَوى به بعينه: ((إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىء)).
         وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصرُ الصلاة، ثم خرج إلى هوازن، فقاتلهم، وفرغ منهم، ثم قصد الطائف، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة فى قول ابن إسحاق، وثمان عشرة ليلة فى قول ابن سعد، وأربعين ليلة فى قول مكحول. فإذا تأملت ذلك، علمتَ أن بعض مدةِ الحصار فى ذى القعدة، ولا بُد، ولكن قد يُقال: لم يبتدئ القتال إلا فى شوَّال، فلما شرع فيه، لم يقطعه للشهر الحرام، ولكن من أين لكم أنه صلى الله عليه وسلم  ابتدأ قِتالاً فى شهر حرام، وفرق بين الابتداء والاستدامة.
                    





يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق