إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 30 نوفمبر 2014

469 زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث فصل فى جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام


469

زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث

 فصل

فى جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام

         وفيها: جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام، كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وهذا لا خلاف فيه، ولا خلاف أنه لا يدخلها مَن أراد الحج أو العُمْرة إلا بإحرام، واختُلِفَ فيما سوى ذلك إذا لم يكن الدخولُ لحاجة متكررة، كالحشَّاشِ والحطَّاب، على ثلاثة أقوال:
         أحدها: لا يجوزُ دخولُها إلا بإحرام، وهذا مذهبُ ابنِ عباس رضى الله عنه، وأحمد فى ظاهر مذهبه، والشافعى  فى أحد قوليه .
         والثانى: أنه كالحشَّاشِ والحطَّاب، فيدخُلها بغير إحرام، وهذا القولُ الآخر للشافعى، ورواية عن أحمد .
         والثالث: أنه إن كان داخِلَ المواقيت، جاز دخولُه بغير إحرام، وإن كان خارجَ المواقيت، لم يدخُلْ إلا بإحرام،  وهذا مذهب أبى حنيفة  وهَدْىُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معلومٌ فى المجاهد، ومريدِ النُّسك، وأما مَنْ عداهما فلا واجبَ إلا ما أوجبه اللهُ ورسولُه، أو أجمعت عليه الأُمةُ .
                  وفيها البيانُ الصريح بأن مكة فُتِحَتْ عَنْوَةً كما ذهب إليه جمهورُ أهل العلم، ولا يُعرف فى ذلك خلاف إلا عن الشافعى وأحمد فى أحد قوليه، وسياق القصة أوضحُ شاهد لمن تأمله لقول الجمهور، ولـمَّا استهجن أبو حامد الغزالى  القول بأنها فُتِحَتْ صلحاً، حكى قول الشافعى أنها فُتِحَتْ عَنوة فى (( وسيطه ))، وقال: هذا مذهبُه .
         قال أصحاب الصلح: لو فتحت عَنوة، لقسمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كما قسم خَيْبَر، وكما قسم سائر الغنائم مِن المنقولات، فكان يُخمسها ويَقْسِمُها، قالوا: ولما استأمن أبو سفيان  لأهل مكة لما أسلم، فأمَّنهم،كان هذا عقد صلح معهم، قالوا: ولو فُتِحَتْ عَنوة، لملكَ الغانمون رباعها ودورَها، وكانوا أحقَّ بها مِن أهلها، وجاز إخراجهم منها، فحيثُ لم يحكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا الحُكم، بل لم يَرُدَّ على المهاجرين دُورَهُم التى أُخْرِجُوا منها، وهى بأيدى الذين أخرجوهم، وأقرَّهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها، والانتفاع بها، وهذا مناف لأحكام فتوح العَنوة، وقد صرَّح بإضافة الدُور إلى أهلها، فقال: (( مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ، فَهُوَ آمِنٌ )) .
         قال أرباب العَنوة: لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيَّد بدخول كُلِّ واحد داره، وإغلاقِه بابه، وإلقائه سلاحه فائدة، ولم يُقاتِلْهم خالدُ بن الوليد  حتى قتل منهم جماعة، ولم يُنكر عليه، ولَمَا قَتَلَ مَقيسَ بن صُبابة ، وعبدَ الله بن خَطَلٍ  ومَن ذُكِرَ معهما، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع، لاستثنى فيه هؤلاء قطعاً، ولنقل هذا وهذا، ولو فُتِحَتْ صُلحاً، لم يُقاتِلْهم، وقد قال: (( فإنْ أحَدٌ ترخَّصَ بقتال رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُولُوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ))، ومعلوم أن هذا الإذن المختصَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو الإذن فى القتال لا فى الصلح، فإن الإذن فى الصلح عام .
         وأيضاً فلو كان فتحُها صلحاً، لم يقل: إن الله قد أحلَّها له ساعةً من نهار، فإنها إذا فُتِحَت صُلحاً كانت باقية على حُرْمتها، ولم تخرج بالصُّلْح عن الحُرْمة، وقد أخبر بأنها فى تلك الساعة لم تكن حراماً، وأنها بعد انقضاء ساعة الحربِ عادت إلى حُرْمتها الأُولى .
         وأيضاً فإنها لو فُتِحَتْ صُلحاً لم يعبئْ جيشه: خيالَتهم ورجالَتهم مَيمنةً ومَيسرة، ومعهم السِّلاح، وقال لأبى هريرة : (( اهتِفْ لى بالأنصَارِ ))، فهتفَ بهم، فجاؤوا، فأطافُوا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (( أَتَروْنَ إلى أوْبَاشِ قُرَيْش وأتْبَاعِهِمْ ))، ثم قال بيديه إحداهما على الأُخرى: (( احْصُدُوهُمْ حَصْدَاً حَتَّى توافُونى عَلَى الصَّفَا ))، حتى قال أبو سفيان : يا رسول الله ؛ أُبيحت خضراءُ قريش، لا قريشَ بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ، فَهُوَ آمِنٌ )) . وهذا محال أن يكون مع الصلح، فإن كان قد تقدَّم صلح  وكَلاَّ  فإنه ينتقِضُ بدون هذا .
          وأيضاً فكيف يكون صلحاً، وإنما فُتِحت بإيجاف الخيلِ والرِّكاب، ولم يَحبِسِ اللهُ خيلَ رسوله ورِكابه عنها، كما حبسها يومَ صُلح الحُدَيبية، فإن ذلكَ اليوم كان يوم الصلح حقاً، فإن القَصواء لما بركت به، قالوا: خَلأَتِ القَصْوَاءُ، قال: (( ما خلأت وما ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ ))، ثم قال: (( واللهِ لاَ يَسْأَلُونى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فًيهَا حُرْمَةً مِنْ حُرُماتِ الله إلاَّ أَعْطَيْتُهُمُوهَا )) .
         وكذلك جرى عقدُ الصلح بالكتاب والشهود، ومحضر ملإٍ من المسلمين والمشركين، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة، فجرى مثلُ هذا الصلح فى يومِ الفتح، ولا يُكتب ولا يُشهد عليه، ولا يحضُرُه أحد، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه، هذا مِن الممتنع البيِّنِ امتناعه، وتأمل قوله: (( إن اللهَ حَبَسَ عَنْ مكَّةَ الفيلَ، وسلَّط عليها رسولَه والمؤمنين ))، كيف يُفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذى كان يدخُلها عليهم عَنوة، فحبسه عنهم، وسلَّط رسولَه والمؤمنين عليهم حتى فتحوها عَنوة بعد القهر، وسلطان العَنوة، وإذلال الكفر وأهله، وكان ذلك أجَلَّ قدراً، وأعظمَ خطراً، وأظهرَ آيةً، وأتمَّ نُصرةً، وأعلى كلمةً من أن يُدخلهم تحت رِقِّ الصلح، واقتراحِ العدو وشروطهم، ويمنعهم سلطان العَنوة وعِزَّها وظفرها فى أعظم فتح فتحه على رسوله، وأعزَّ به دينه، وجعله آيةً للعالمين .
         قالوا: وأما قولكم: إنها لو فُتِحَت عَنوة، لقُسِمت بين الغانمين، فهذا مبنىٌ على أن الأرض داخلةٌ فى الغنائم التى قسمها اللهُ  سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها، وجمهورُ الصحابة والأئمةِ بعدهم على خِلافِ ذلك، وأن الأرض ليست داخلة فى الغنائم التى تجب قسمتُها، وهذه كانت سيرةَ الخُلفَاءِ الراشدين، فإن بلالاً  وأصحابَه لما طلبوا مِن عمر بن الخطاب  رضى الله عنه أن يقسِمَ بينهم الأرض التى افتتحوها عَنوة وهى الشامُ وما حولها، وقالوا له: خُذ خُمسها واقسِمْهَا، فقال عمر: هذا غيرُ المال، ولكن أحبسه فَيْئاً يجرى عليكم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه رضى الله عنهم: اقسمها بينَنَا، فقال عمر: (( اللَّهُمَّ اكْفِنِى بلالاً وذَوِيهِ ))، فما حال الْحَوْلُ ومنهم عين تَطْرِفُ، ثم وافق سائِرُ الصحابة رضى الله عنهم عمرَ رضى الله عنه على ذلك، وكذلك جرى فى فتوح مِصرَ والعِراق، وأرض فارس، وسائرِ البلاد التى فُتحتْ عَنوة لم يَقْسِمْ منها الخلفاءُ الراشدون قريةً واحدة .
         ولا يَصحُّ أن يُقال: إنه استطابَ نفوسَهم، ووقفها برضاهم، فإنَّهم قد نازعُوهُ فى ذلك، وهو يأبى عليهم، ودعا على بلالٍ وأصحابه  رضى الله عنهم  وكان الذى رآه وفعله عَيْنَ الصواب ومحضَ التوفيق، إذ لو قُسِمَتْ، لتوارثها ورثةُ أُولئك وأقاربُهم، فكانت القريةُ والبلدُ تصير إلى امرأة واحدة، أو صبىٍّ صغير، والمقاتلة لا شئ بأيديهم، فكان فى ذلك أعظمُ الفسادِ وأكبرُه، وهذا هو الذى خاف عمرُ رضى الله عنه منه، فوفَّقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض، وجعلها وقفاً على المقتالةِ تجرى عليهم فَيْئاً حتى يغزوَ منها آخِرُ المسلمين، وظهرت بركةُ رأيه ويُمنه على الإسلام وأهله، ووافقه جمهور الأئمة .
         واختلفوا فى كيفية إبقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب الإمام أحمد  وأكثرُ نصوصه، على أن الإمام مخيَّر فيها تخييرَ مصلحة لا تخييرَ شهوة، فإن كان الأصلحُ للمسلمين قسمتَها، قسمها، وإن كان الأصلحُ أن يَقِفَها على جماعتهم، وقفها، وإن كان الأصلح قِسمة البعضِ ووقفَ البعض، فعلَه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الأقسام الثلاثة، فإنه قَسَمَ أرض قُريظة والنًَّضير، وترك قِسمة مكة، وقسمَ بعضَ خيبر، وترك بعضَها لما يَنُوبُه مِن مصالح المسلمين .
         وعن أحمد روايةٌ ثانية: أنها تصير وقفاً بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن يُنشئ الإمام وقفها، وهى مذهب مالك  .
         وعنه رواية ثالثة: أنه يقسِمُها بين الغانمين كما يَقْسِمُ بينهم المنقولَ، إلا أن يتركوا حقوقَهم منها، وهى مذهب الشافعى  .
         وقال أبو حنيفة : الإمام مخيَّر بين القسمة، وبين أن يُقِرَّ أربابَها فيها بالخراج، وبين أن يُجلىَهم عنها وينفذ إليها قوماً آخرين يضرِبُ عليهم الخراجَ .
         وليس هذا الذى فعل عمرُ رضى الله عنه بمخالفٍ للقرآن، فإن الأرض ليست داخلةً فى الغنائم التى أمر الله بتخميسها وقسمتها، ولهذا قال عمر: إنها غيرُ المال، ويدل عليه أن إباحةَ الغنائم لم تكن لغير هذِه الأُمة، بل هو مِن خصائصها، كما قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق على صحته: (( وَأُحِلَّتْ لى الغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلُّ لأَحد قَبْلِى ))، وقد أحلَّ اللهُ سبحانه الأرض التى كانت بأيدى الكفارِ لمن قبلنا مِن أتباع الرسل إذا استوْلَوْا عليها عَنوة، كما أحلَّها لِقوم موسى، فلهذا قال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُواْ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]. فموسى وقومُه قاتلوا الكُفَّارَ، واستولَوْا على ديارهم وأموالهم، فجمعُوا الغنائِم، ثمَّ نزلت النارُ مِن السماء فأكلتها، وسكنُوا الأرض والدِّيار، ولم تُحَرَّم عليهم، فعُلِم أنها ليست مِن الغنائمِ، وأنها للهِ يُورِثُها مَنْ يشاء .
        
                    




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق