إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 30 نوفمبر 2014

470 زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث فصل يمنع قسمة مكة لأنها دار نسك


470

زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث

فصل

يمنع قسمة مكة لأنها دار نسك

         وأما مكة، فإن فيها شيئاً آخر يمنع مِن قسمتها ولو وجبت قسمةُ ما عداها مِن القُرى، وهى أنها لا تُملك، فإنها دارُ النُّسُك، ومتعبَّدُ الخلق، وحرَمُ الربِّ تعالى الذى جعله للناس سواءً العاكِفُ فيه والباد، فهى وقف من الله على العالمين، وهم فيها سواء، ومِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج: 25]، والمسجد الحرام هنا، المراد به الحرم كُلُّهُ، كقوله تعالى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة: 28]. فهذا المرادُ به الحرم كُلُّه، وقولُه سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}[الإسراء: 1]، وفى الصحيح: أنه أُسْرِىَ به مِّنَ بيت أُم هانئ، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة: 196]، وليس المراد به حضورَ نفس موضع الصلاة اتفاقاً، وإنما هو حضورُ الحرم والقُرب منه، وسياقُ آية الحج تدُلُّ على ذلك، فإنه قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، وهذا لا يختصُّ بمقام الصلاةِ قطعاً، بل المراد به الحَرَمُ كُلُّه، فالذى جعله للناس سواءً العاكف فيه والباد، هو الذى توعَّد مَنْ صَدَّ عنه، ومَن أراد الإلحادَ بالظلم فيه، فالحرمُ ومشاعرُه كالصَّفا والمروة، والمسعى ومِنَى، وعَرَفَة، ومُزْدَلِفَة، لا يختصُّ بها أحدٌ دونَ أحد، بل هى مشتركة بين الناس، إذ هى مَحلُّ نُسُكهم ومتعبدِهم، فهى مسجد من الله، وقفه ووضعه لخلقه، ولهذا امتنع النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يُبنى له بيت بمِنَى يُظِلُّه من الحر، وقال: ((مِنَى مُناخُ مَن سَبَقَ)).
          ولهذا ذهب جمهورُ الأئمةِ مِن السَّلَف والخَلَف، إلى أنه لا يجوزُ بيعُ أراضى مكة، ولا إجارةُ بيوتها، هذا مذهبُ مجاهد وعطاء فى أهل مكة، ومالك فى أهل المدينة، وأبى حنيفة فى أهل العراق، وسفيان الثورى، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
         وروى الإمام أحمد رحمه الله، عن علقمة بن نضلة، قال: كانت رِباعُ مكة تُدعى السَّوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر  وعمر، مَن احتاج سكن، ومَن استغنى أسكن.
         وروى أيضاً عن عبد الله بن عمر: ((مَن أكل أُجُورَ بيوتِ مكة، فإنما يأكُلُ فى بطنه نار جـهنم)) رواه الدارقطنى  مرفوعاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وفيه: ((إنَّ الله حَرَّمَ مَكَّة، فَحَرامٌ بَيْعَ رِبَاعِهَا وأَكْلُ ثَمَنِهَا)).
         وقال الإمام أحمد: حدثنا معمر، عن لَيْثٍ، عن عطاء، وطاووس، ومجاهد، أنهم قالوا: يُكره أن تُباع رِباعُ مكَّة أو تُكرى بيوتها.
  وذكر الإمام أحمد، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: مَن أكل من كِراء بيوتِ مكة، فإنما يأكُلُ فى بطنه ناراً.
          وقال أحمد: حدَّثنا هُشيم، حدَّثنا حجَّاج، عن مجاهد، عن عبد الله ابن عمر، قال: نَهَى عَنْ إجارَةِ بُيوتِ مَكَّة وعَنْ بَيْعِ رَباعِهَا، وذكر عن عطاء، قال: نهى عن إجارة بيوتِ مكة.
         وقال أحمد: حدَّثنا إسحاق بن يوسف قال: حدَّثنا عبد الملك، قال: كتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز  إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوتِ مكة، وقال: إنه حرام، وحكى أحمد عن عمر، أنه نهى أن يتَّخِذَ أهلُ مكَّة للدورِ أبواباً، لِينزِلَ البادى حيث شاء، وحكى عن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أنه نهى أن تُغْلَقَ أبوابُ دورِ مكة، فنهى مَن لا باب لداره أن يتَّخِذَ لها باباً، ومَن لداره باب أن يُغْلِقَه، وهذا فى أيام المَوْسِم.ِ
         قال المجوِّزون للبيع والإجارة: الدليلُ على جواز ذلك، كتابُ الله وسُـنَّةُ رسولِه، وعملُ أصحابه وخُلفائه الراشدين. قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}[الحشر: 8]، وقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ}[آل عمران: 195]، وقال: {إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}[الممتحنة: 9] فأضاف الدورَ إليهم، وهذه إضافة تمليك، وقال النبى صلى الله عليه وسلم، وقد قيل له: أين تنزِلُ غداً بدارك بمكة؟ فقال:  ((وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِباعٍ))، ولم يقل: إنه لا دار لى، بل أقرَّهم على الإضافة، وأخبر أن عقيلاً استولى عليها ولم ينزِعْهَا مِن يده، وإضافةُ دورهم إليهم فى الأحاديث أكثرُ من أن تُذكر، كدار أُم هانىء، ودار خديجة، ودار أبى أحمد بن جحش وغيرها، وكانوا يتوارثُونها كما يتوارثون المنقولَ، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلِ))، وكان عقيل هو ورث دورَ أبى طالب، فإنه كان كافراً، ولم يرثه على  رضى الله عنه، لاختلاف الدينِ بينهما، فاستولى عَقِيلٌ على الدور، ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها، بل قبل المبعث وبعده، مَن مات، ورِثَ ورثتُه داره إلى الآن، وقد باع صفوانُ بنُ أُميَّة  داراً لعمر بن الخـطاب  رضى الله عنه بأربعة آلاف درهم، فاتخذها سجناً، وإذا جاز البيعُ، والميراثُ، فالإجارة أجْوزُ وأجوز، فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى، وحججُهم فى القوة والظهور لا تُدفع، وحُجج الله وبيناتُه لا يُبطِلُ بعضُها بعضاً بل يُصَدِّقُ بعضُهَا بعضاً، ويجبُ العملُ بموجبها كُلِّهَا، والواجبُ اتباعُ الحق أين كان.
          فالصوابُ القولُ بموجب الأدلة مِن الجانبين، وأنَّ الدورَ تملك، وتُوهب، وتُورث، وتُباع، ويكون نقلُ الملك فى البناء لا فى الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه، لم يكن له أن يبيعَ الأرض، وله أن يَبنيها ويُعيدَها كما كانت، وهو أحقُّ بها يسكُنها ويُسْكِنُ فيها مَن شاء، وليس له أن يُعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما يستحق إن يقدَّم فيها على غيره، ويختصُ بها لسبقه وحاجته، فإذا استغنى عنها، لم يكن له أن يُعاوض عليها، كالجلوس فى الرِّحاب، والطرقِ الواسعة، والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التى مَن سبق إليها، فهو أحق بها ما دام ينتفع، فإذا استغنى، لم يكن له أن يُعاوض، وقد صرَّح أربابُ هذا القول بأن البيعَ ونقلَ الملك فى رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض، ذكره أصحاب أبى حنيفة.
         فإن قيل: فقد منعتم الإجارة، وجوَّزتُم البيع، فهل لهذا نظيرٌ فى الشريعة، والمعهود فى الشريعة أن الإجارة أوسـعُ من البيع، فقد يمتنع البيع، وتجوز الإجارة، كالوقف والحر، فأما العكس، فلا عهد لنا به؟.
         قيل: كُلُّ واحد من البيع والإجارة عقدٌ مستقل غيرُ مستلزم للآخر فى جوازه وامتناعه، وموردهما مختلِف، وأحكامُهما مختلفة، وإنما جاز البيعُ، لأنه وارد على المحل الذى كان البائعُ أخصَّ به من غيره، وهو البناء، وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة، وهى مشتركة، وللسابق إليها حقُّ التقدم دون المعاوضـة، فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة، فإن أبيتم إلا النظيرَ، قيل: هذا المكاتبُ يجوزُ لسيده بيعُه، ويصيرُ مكاتباً عند مشتريه، ولا يجوزُ له إجارتُه إذ فيها إبطالُ منافعه وأكسابه التى ملكها بعقد الكتابة، والله أعلم. على أنه لا يمنعُ البيع، وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركةً بين المسلمين، فإنها تكون عند المشترى كذلك مشتركة المنفعة، إن احتاج سكن، وإن استغنى أسكن كما كانت عند البائع، فليس فى بيعها إبطالُ اشتراك المسلمين فى هذه المنفعة، كما أنه ليس فى بيع المكاتب إبطالُ ملكه لمنافعه التى ملكها بعقد المكاتبة، ونظيرُ هذا جوازُ بيع أرض الخَراج التى وقفها عمر رضى الله عنه على الصحيح الذى استقر الحال عليه من عمل الأُمة قديماً وحديثاً، فإنها تنتقل إلى المشترى خَراجية، كما كانت عند البائع، وحق المقاتلة إنما هو فى خَراجها، وهو لا يَبْطُلُ بالبيع، وقد اتفقت الأُمة على أنها تُورث، فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفاً، فكذلك ينبغى أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها، وقد نصّ أحمد  على جواز جعلها صداقاً فى النكاح، فإذا جاز نقلُ الملك فيها بالصداق والميراث والهبة، جاز البيعُ فيها قياساً، وعملاً، وفقهاً.. والله أعلم.

                    




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق