إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 29 نوفمبر 2014

449 زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث فصل فى فقه هذه القصة


449

زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث

    فصل

فى فقه هذه القصة


         ففيها جوازُ القِتال فى الشَّهرِ الحَرامِ إن كان ذِكْرُ التاريخ فيها برجب محفوظاً، والظاهر  والله أعلم  أنه وهم غيرُ محفوظ، إذ لم يُحفظ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه غزا فى الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعثَ فيه سريَّة، وقد عيَّرَ المشركون المسلمين بقتالهم فى أوَّل رجب فى قصة العلاء بن الحضرمى، فقالُوا: استحلَّ محمَّدٌ الشهرَ الحرامَ، وأنزل الله فى ذلك: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}[البقرة: 217]، ولم يثبُت نسخُ هذا بنص يجبُ المصيرُ إليه، ولا أجمعتِ الأُمةُ على نسخه، وقد استُدِلَّ على تحريم القِتال فى الأشهر الحُرُم بقوله تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة: 5] ، ولا حُجَّة فى هذا، لأن الأشهر الحُرُم ههنا هى أشهر التسيير الأربعة التى سيَّر الله فيها المشركين فى الأرض يأمنُون فيها، وكان أولها يومَ الحج الأكبر عاشرَ ذى الحِجَّة، وآخِرُها عاشِر ربيع الآخر، هذا هو الصحيحُ فى الآية لوجوه عديدةٍ، ليس هذا موضعها
         وفيها: جوازُ أكل ورق الشجر عند المخمَصَةِ، وكذلك عُشْبُ الأرض.
         وفيها: جوازُ نهى الإمام وأميرِ الجيش للغُزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجُوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهرهم عِند لقاء عدُوِّهم، ويجب عليهم الطاعةُ إذا نهاهم.
وفيها: جوازُ أكل ميتة البحر، وأنها لم تدخل فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة: 3] ، وقد قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ}[المائدة: 5]، وقد صحَّ عن أبى بكر الصِّدِّيق، وعبدِ الله بن عباس، وجماعةٍ من الصحابة، أن صيدَ البحـر ما صِيد منه، وطعامَه ما مات فيه، وفى السنن: عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: ((أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ والجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فالكَبِدُ والطِّحَالُ))حديث حسن،  وهذا الموقوف فى حكم المرفوع، لأن قولَ الصحابى: ((أُحِلَّ لنا كذا، وحُرِّمَ علينا)) ينصَرِفُ إلى إحلال النبىِّ صلى الله عليه وسلم وتحريمه.
         فإن قيل: فالصحابةُ فى هذه الواقعة كانوا مضطرين، ولهذا لما همّوا بأكلها قالُوا: إنها ميتة، وقالوا: نحنُ رسلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونحنُ مضطرون، فأكلُوا، وهذا دليلٌ على أنهم لو كانوا مستغنين عنها، لما أكلُوا منها.
                   قيل: لا ريب أنهم كانوا مضطرين، ولكن هيأ الله لهم مِن الرزق أطيَبه وأحلَّه، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لهم بعد أن قَدِمُوا: ((هَلْ بَقِىَ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَئ))؟ قالوا: نعم، فأكل منه النبى صلى الله عليه وسلم، وقال: ((إنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ لَكُم))، ولو كان هذا رِزق مضطر لم يأكل منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى حال الاختيار، ثم لو كان أكلهم منها للضرورة، فكيف ساغَ لهم أن يدَّهِنُوا من وَدَكهَا ويُنجِّسوا به ثيابهم وأبدانَهم، وأيضاً فكثير من الفقهاء لا يُجَوِّز الشبعَ مِن الميتة، إنما يُجَوِّزون منها سدَّ الرمق، والسَّرِيَّة أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمِنُوا، وتزوَّدوا منها.
         فإن قيل: إنما يتم لكم الاستدلالُ بهذه القصة إذا كانت تلك الدابَّة قد ماتت فى البحر، ثم ألقاها ميتةً، ومن المعلوم، أنه كما يُحتَمَلُ ذلك يُحتمل أن يكون البحرُ قد جَزَرَ عنها، وهىَ حية، فماتت بمُفارقة الماء، وذلك ذكاتُها وذكاةُ حيوان البحر، ولا سبيلَ إلى دفع هذا الاحتمال، كـيف وفى بعض طرق الحديث: ((فجَزَرَ البَحْرُ عَنْ حُوتٍ كالظَّرِبِ)).
         قيل: هذا الاحتمالُ مع بُعده جِداً، فإنه يكاد يكون خرقاً للعادة، فإن مثلَ هذه الدابة إذا كانت حية إنما تكون فى لُجَّةِ البحر وثَبَجِهِ دون ساحِلِه، وما رقَّ منه ودنا من البر، وأيضاً فإنه لا يكفى ذلك فى الحِلِّ، لأنه إذا شك فى السبب الذى مات به الحيوان، هل هو سبب مبيح له أو غير مبيح؟ لم يَحِلَّ الحيوانُ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الصيد يُرمى بالسهم، ثم يُوجد فى الماء: ((وإنْ وَجَدْتَّه غَرِيقاً فى المَاء، فلا تأكلْهُ فإنَّكَ لا تَدْرِى الماءُ قَتَلَه أَوْ سهمك))، فلو كان الحيوانُ البحرىُّ حراماً إذا مات فى البحر، لم يُبَحْ، وهذا مما لا يُعلم فيه خلاف بين الأئمة.
         وأيضاً فلو لم تكن هذه النصوصُ مع المبيحين، لكان القياسُ الصحيحُ معهم، فإن الميتة إنما حُرِّمَتْ لاحتقان الرُّطوباتِ والفضلاتِ والدمِ الخبيث فيها، والذكاةُ لما كانت تُزيل ذلك الدم والفضلات، كانت سببَ الحِلِّ، وإلا فالموتُ لا يقتضى التحريم، فإنه حاصل بالذكاة كما يحصُلُ بغيرها، وإذا لم يكن فى الحيوان دم وفضلاتٌ تُزيلها الذكاة، لم يَحْرُمْ بالموت، ولم يُشترط لحِلِّه ذكاة كالجراد، ولهذا لا ينجَسُ بالموت ما لا نَفس له سائلة، كالذُّباب والنَّحلة، ونحوهما، والسمكُ من هذا الضرب، فإنه لو كان له دم وفضلات تحتقِن بموته، لم يَحِلَّ لموته بغير ذكاة، ولم يكن فرق بينَ موته فى الماء وموتِه خارجَه، إذ من المعلوم أن موتَه فى البر لا يُذهِبُ تلك الفضلات التى تُحرِّمُه عند المحرِّمين إذا مات فى البحر، ولو لم يكن فى المسألة نصوص، لكان هذا القياسُ كافياً.. والله أعلم.
 




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق