إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 28 أغسطس 2014

589 موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة الجزء الأول: التحديث الباب الثانى: العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية أثــــر العلمانيـــــة فـــي الجماعــــات اليهوديـــــة The Impact of Secularism on the Jewish Communities


589

موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية

للدكتور عبد الوهاب المسيري

المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة

الجزء الأول: التحديث

الباب الثانى: العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية

أثــــر العلمانيـــــة فـــي الجماعــــات اليهوديـــــة

The Impact of Secularism on the Jewish Communities

تركت عمليات العلمنة أثراً عميقاً في أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فيمكن القول بأنه بعد مرحلة المقاومة الأولى لعمليات العلمنة، والتي استمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، استسلم معظم أعضاء الجماعات اليهودية لهذه المحاولات فزادت معـدلات العلمـنة بينهم بشكل فاق معدلاته بين أعضاء الأغلبية، وذلك للأسباب التي أسلفنا ذكرها في المدخل السابق.

وقد تخلى أعضاء الجماعات اليهودية، بأعداد متزايدة، عن اليهودية الحاخامية، ودخلت أعداد كبيرة منهم في إطار اليهودية الإصلاحية أو المحافظة أو التجديدية. كما أن أعداداً متزايدة منهم تخلت عن أي شكل من أشكال الإيمان الديني وتبنت الأيديولوجيات العلمانية المختلفة، مثل الاشتراكية والماركسية، أو أيديولوجيات علمانية ذات ديباجات يهودية، مثل: اليهودية العلمانية، واليهودية الإثنية، واليهودية الإلحادية، والقومية اليديشية، والصهيونية.

ويُلاحَظ أنه، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع وفي داخل أعضاء الجماعات اليهودية، تزايدت معدلات اندماجهم وأقبلوا على الزواج المختلط. وقد بلغت معدلات العلمنة بين يهود الغرب مقداراً مرتفعاً جداً. ومما ساعد على ذلك أن اليهود الذين تخلوا عن عقيدتهم لم يكونوا مضطرين إلى اعتناق المسيحية كما كان الأمر في الماضي وإنما كان يمكنهم أن يعيشوا علمـانيين دون أي انتمـاء ديني. ومع تزايد الحريات في المجتمعات الغربية، والحرية الجنسية على وجه الخصوص، زاد عدد الأطفال غير الشرعيين بين اليهود، وهي ظاهرة لم تكن معروفة بينهم من قبل، كما زاد تفسُّخ الأسرة وارتفعت معدلات الطلاق. ويُلاحَظ أيضاً تزايد انخراط أعداد اليهود العلمانيين والإثنيين في الحركات السرية والعدمية والماسونية والثورية. وقد لُوحظ مؤخراً تزايد إقبال الشباب اليهودي على الحركات الدينية المستحدثة، أو ما يُسمَّى بالعبادات الجديدة، مثل هاري كريشنا والبهائية. وهذا تعبير عن تزايد معدلات العلمنة وعن أزمتها في آن واحد، وهو الموضوع الأساسي الكامن وراء أفلام الكوميدي الأمريكي اليهودي وودي ألن.

وقد بدأ أعضاء الجماعات اليهودية في البروز والتميز داخل إطار الحضارة الغربية. وقد وصلوا إلى أعلى درجات البروز في الولايات المتحدة (المجتمع العلماني شبه النموذجي) حيث يوجد الآن عشرات اليهود من الأدباء والمفكرين والفنانين والعلماء الذين يدافعون في أغلبيتهم عن الرؤية السائدة في المجتمع. كما يوجد كثير من أعضاء الجماعة اليهودية بين صناع القرار. وظهر من بين صفوف أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كثير من المفكرين الإنسانيين الذين يدافعون عن الإنسان منفصلاً عن الإله، مثل ماركس وتشومسكي. كما ظهر من بينهم مفكرون مثل فرويد جعلوا همهم نزع القداسة عن الإنسان والواقع والنظر إليهما بمنظار علمي مجرد وكأن الإنسان مجرد ظاهرة طبيعية، يرقةٌ أو قردٌ أو حجر، لا سر فيه ولا غاية خاصة لوجوده، وهذه هي إحدى الإسهامات المهمة للعلمانية. ومن المهم أن نبين أن الحضارة العلمانية سمحت لليهودي بتحقيق البروز والتميز بمقدار ما يحقق من علمنة لهويته، أي أن يتعامل مع الواقع من منظور النموذج العقلاني الواحدي المادي ويجعل انتماءه اليهودي مسألة مقصورة على حياته الخاصة وخاصة بالضمير. فبروز اليهودي يتحقق بمقدار تخليه عن يهوديته أو بمقدار نجاحه في تحديثها أو أمركتها، أي علمنتها وصبغها بالصبغة الحديثة أو الأمريكية.
ويُلاحَظ أن نسبة اليهود تتزايد في قطاعات المجتمع التي تتصف بقدر عال من العلمنة والتحرر من القيم المطلقة. ولذا، نجدهم يتركزون في القطاعات التي يتحول الإنسان فيها إلى مادة عامة استهلاكية، وفي تلك القطاعات التي تتسم بالعلاقات التعاقدية وعدم الإيمان بالحرمات، مثل: صناعة السينما، والصحافة الرخيصة، وتجارة الرقيق الأبيض، وتجارة العقارات. ولعل هذا البروز في الحضارة العلمانية، وكذلك التركز في قطاعات اقتصادية بعينها (بعضها مشين)، هو ما جعل البعض يتصور أن ثمة مؤامرة يهودية لعلمنة العالم، أو أن العلمنة ما هي إلا عملية يقوم اليهود بنشرها وإذاعتها. وهذا التصوُّر يفترض أنه لو اختفى اليهود لاختفت العلمانية، وهو تصوُّر يخلط بين الجزء الفعال (اليهود) والكل المركب (العلمانية)، وهو افتراض يفشل بطبيعة الحال في تفسير انتشار العلمانية في ربوع العالم في الصين والهند واليابان ونيجيريا حيث لا يوجد يهود على الإطلاق.

وتختلف معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية من بلد إلى آخر، كما تختلف أشكال العلمنة حسب المحيط الحضاري. ففي أمريكا اللاتينية حيث كانت معدلات العلمنة منخفضة في المجتمع، كان معدلها منخفضاً بين الجماعات اليهودية. وقد احتفظت كل جماعة منها بهويتها الدينية والإثنية، ومن هنا كان انقسام يهود أمريكا اللاتينية إلى جماعات متنافرة. ولكن، مع تزايُد العلمنة في المجتمع ككل، يُلاحَظ أيضاً تزايُد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية وانصهارهم في المجتمع اللاتيني أو انصرافهم عن الدين وانخراطهم في المحافل الماسونية والنوادي الاجتماعية أو اندماجهم في جماعة واحدة. أما في فرنسا وإنجلترا، فقد زادت معدلات العلمنة وأخذت شكل الابتعاد عن الكنيسة. وقد انعكس هذا الوضع على يهود البلدين، فانصرفوا هم أيضاً عن الذهاب إلى المعبد اليهودي.

وتأخذ العلمنة في الولايات المتحدة شكلاً خاصاً، وهو استيعاب الكنيسة في المؤسسات الإثنية العلمانية بحيث تحوَّلت إلى مؤسسة تُعبِّر عن إحساس الجماعة بذاتها وبهويتها، وهذا أمر مهم في مجتمع مهاجرين يتسم بعدم الثبات وعدم وجود مؤسسات دينية تقليدية فيه. وينطبق الشيء نفسه على يهود الولايات المتحدة إذ فقد أغلبيتهم هويتهم الدينية وظهرت هوية واحدة يهودية - أمريكية وتحول المعبد اليهودي إلى المؤسسة التي يُعبِّر يهود أمريكا من خلالها عن هويتهم. ويجب ملاحظة أن التمسك بالهوية الإثنية هو تعبير، في واقع الأمر، عن تزايد معدلات العلمنة، ولا يشكل عودةً إلى اليهودية.

وينقسم يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، من منظور العلمنة، إلى ثلاثة أقسام. فهناك أولاً يهود الوسط الذين يعيشون في مناطق مثل روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء، وهؤلاء يعيشون تحت الحكم الشيوعي منذ عام 1917، ولذا فقد فقدوا انتماءهم الديني تماماً. أما القسم الثاني، فهو يهود الغرب (زبادنكي) الذين يعيشون في جمهوريات البلطيق التي ضُمَت إلى الاتحاد السوفيتي عام 1940. لكن هؤلاء كانوا يحتفظون بهوية دينية وإثنية أكثر وضوحاً، وقد هاجر غالبيتهم في الفترة 1970 ـ 1990. والقسم الثالث هو يهود جورجيا والجمهوريات الإسلامية، ومعدلات العلمنة بين هؤلاء منخفضة مثل معدلات العلمنة في المجتمعات التي يعيشون فيها.

أما أهم أشكال العلمنة في الغرب فهو ظهور ما نسميه «الهوية اليهودية الجديدة» وظهور «اليهود الجدد»، وهم يهود (سواء من الناحية الدينية أو الإثنية) اسماً وقالباً وحسب، وعلمانيون جوهراً وقلباً.

أما بقية الجماعات اليهودية في العالم، الفلاشاه ويهود الهند ويهود العالم العربي... إلخ، فيختلف معدل العلمنة بينهم حسب المعدلات السائدة في مجتمعاتهم. وعلى كل حال، فقد لعبت المنظمات الصهيونية واليهودية الغربية، مثل الأليانس، دوراً أساسياً في تغريب أعضاء الجماعات اليهودية وتحديثهم وعلمنتهم، مع ملاحظة أن مستوى العلمنة بين الأقليات يزيد عادةً عن معدلها بين الأغلبية. كما أن أعضاء الجماعات اليهودية حينما ينتقلون إلى إسرائيل تتم علمنتهم بسرعة مذهلة.

وقد لُوحظ أن عدد الراغبين في الهجرة إلى فلسطين المحتلة يتناقص مع تزايد علمنة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وعلى سبيل المثال، فإن ما يزيد على 90 % من السوفييت، وهم من أكثر الجماعات اليهودية علمنةً، يتجه إلى الولايات المتحدة التي يُطلَق عليها باليديشية «جولدن مدينا» أي المدينة الذهبية، أي صهيون العلمانية، ويؤثرونها على إسرائيل.

وعلى كلٍّ، يمكن القول بأن الدوافع وراء الهجرة اليهودية، سواء إلى الولايات المتحدة أو إلى فلسطين، كانت دائماً دوافع علمانية، فهي هجرة تهدف إلى تحقيق الحراك الاجتماعي لصاحبها. وما كان يحدث أحياناً أن تصاحبها ديباجات يهودية بالنسبة لبعض اليهود المتدينين، أما الغالبية الساحقة فكانت دوافعها وديباجاتها مادية علمانية صريحة.




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق