إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 31 أغسطس 2014

602 موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة الجزء الأول: التحديث الباب الثالث: التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية نفـــــع اليـــهود Utility of the Jews



602


موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية

للدكتور عبد الوهاب المسيري

المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة

الجزء الأول: التحديث

الباب الثالث: التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية

نفـــــع اليـــهود

Utility of the Jews

«نَفْع اليهود» مصطلح يعني النظر إلى أعضاء الجماعات اليهودية من منظور مدى نفعهم للمجتمعات التي يوجدون فيها، وهو واحد من أهم الموضوعات الأساسية، الواضحة والكامنة، التي تتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، وبخاصة النازية.

والدفاع عن اليهود من منظور نفعهم يتضمن داخله قدراً كبيراً من رفضهم وعدم قبولهم كبشر لهم حقوقهم الإنسانية المطلقة. فالعنصر النافع عنصر متحوسل يُستفاد منه طالما كان نافعاً ومنتجاً، كما يجب التخلص منه إن أصبح غير نافع وغير منتج. وهذا المقياس لم يُطبَّق على أعضاء الجماعات اليهودية وحدهم، وإنما على كل أعضاء المجتمع الذي تحكمه الدولة القومية المطلقة العلمانية التي تقوم بحوسلة الطبيعة والإنسان. ومفهوم نَفْع الإنسان مفهوم محوري في فكر حركة الاستنارة نابع من الواحدية المادية.

وقد كانت الجماعات اليهودية تضطلع بدور الجماعة الوظيفية في كثير من المجتمعات، فكان بعضها يضطلع بدور الجماعة الوظيفية القتالية والاستيطانية في العصور القديمة، وتحولوا إلى جماعة وظيفية تجارية في العصور الوسطى في الغرب. وكان يُنظَر إليهم باعتبارهم مادة بشرية تُستجلَب للمجتمع كي تقوم بدور أو وظيفة محددة، ويتم قبولها أو رفضها في إطار مدى النفع الذي سيعود على المجتمع من جراء هذه العملية. ومما دعَّم هذه الرؤية، فكرة الشعب الشاهد التي تنظر إلى اليهود كأداة للخلاص، ومن ثم ينبغي الحفاظ عليهم بسبب دورهم الذي يلعبونه في الدراما الدينية الكونية، وهي الفكرة التي سادت أوربا الكاثوليكية الإقطاعية. وقد استقر اليهود في إنجلترا وفرنسا في العصور الوسطى في الغرب كأقنان بلاط وكمصدر نَفْع ودَخْل للإمبراطورية. وكان يُشار إليهم أحياناً على أنهم سلع أو منقولات. ويمكن القول بأنه قد يكون من الأدق النظر إلى اليهود باعتبارهم أدوات إنتاج وإدارة، لا باعتبارهم بشراً أو قوى إنتاج. وقد استقر اليهود في ألمانيا ثم في بولندا على هذا الأساس. وظهر بينهم يهود البلاط أو يهود الأرندا، وكانوا هم أيضاً جماعات وظيفية، وكان يُنظَر إليهم من حيث إنهم يؤدُّون وظيفةً ما، كما كان يُحكَم عليهم بمقدار النجاح أو الإخفاق في أدائها. ومن أكثر الأمثلة إثارةً على أن اليهود كان يتم التسامح معهم والتصريح لهم بالاستيطان كمادة نافعة، وضعهم في شبه جزيرة أيبريا، فقد كانت توجد عناصر يهودية كثيرة في بلاط فرديناند وإيزابيلا. بل إن أحد أثرياء اليهود لعب دوراً مهماً في عقد القرآن بينهما وفي توحيد عرش قشطالة وأراجون. وقام بعض أثرياء اليهود بتمويل حرب الملكين ضد المسلمين، وهو ما أدَّى إلى هزيمتهم وإنهاء الحكم الإسلامي. ومع هذا، تم طرد أعضاء الجماعات اليهودية بعد سبعة شهور فقط من إنجاز هذه العملية العسكرية التي مولوها، ذلك أن نجاحها قد أدَّى إلى أن دورهم كجماعة وظيفية مالية نافعة لم يَعُد لازماً.

وقد كان وضع اليهود مستقراً تماماً داخل المجتمعات الغربية كجماعة وظيفية وسيطة ذات نَفْع واضح. ولكن هذا الوضع بدأ في التقلقل مع التحولات البنيوية العميقة التي خاضها المجتمع الغربي ابتداءً من القرن السابع عشر وظهور الثورة التجارية. ولم يَعُد بالإمكان الاستمرار في الدفاع عن وجود اليهود من منظور فكرة الشعب الشاهد (الدينية). فظهرت فكرة العقيدة الألفية أو الاسترجاعية التي تجعل الخلاص مشروطاً بعودة اليهود إلى فلسطين. ولكن هذه الأسطورة ذاتها لا تزال مرتبطة بالخطاب الديني، ولم يكن مفر من أن يتم الدفاع عن اليهود على أسس لادينية علمانية، كما لم يكن بد من طرح أسطورة شرعية جديدة ذات طابع أكثر علمانية ومادية. ومن ثم، ظهرت فكرة نَفْع اليهود للدولة، هذا المطلق العلماني الجديد، فتم الدفاع عن عودة اليهود إلى إنجلترا في القرن السابع عشر من منظور النفع الذي سيجلبونه على الاقتصاد الإنجليزي، حيث نُظر إليهم كما لو كانوا سلعة أو أداة إنتاج. وكان المدافعون عن توطين اليهود يتحدثون عن نقلهم على السفن الإنجليزية بما يتفق مع قانون الملاحة الذي صدر آنذاك ويجعل نَقْل السلع، إلى إنجلترا ومنها، حكراً على السفن الإنجليزية. كما أن كرومويل فكر في إمكانية توظيفهم لصالحه كجواسيس. وعمل اليهود في تلك المرحلة في وسط أوربا كيهود بلاط، وهم جماعة وسيطة يستند وجودها أيضاً إلى مدى نَفْعها.

وحينما قام أعداء اليهود بالهجوم عليهم من منظور ضررهم وانعدام نَفْعهم، دافع أعضاء الجماعات اليهودية عن أنفسهم لا من منظور حقوقهم كبشر، وإنما من منظور نفعهم أيضاً. فكتب الحاخام سيمون لوتساتو عام 1638 كتاباً بالإيطالية تحت عنوان مقال عن يهود البندقية عدَّد فيه الفوائد الكثيرة التي يمكن أن تعود على البندقية وعلى غيرها من الدول من وراء وجود اليهود فيها، فهم قد طوَّروا فروعاً مختلفة من الاقتصاد، يضطلعون بوظائف لا يمكن لغيرهم الاضطلاع بها مثل التجارة، ولكنهم على عكس التجار الأجانب خاضعون لسلطة الدولة تماماً، ولا يبحثون عن المشاركة فيها. وهم يقومون بشراء العقارات، ومن ثم لا ينقلون أرباحهم خارج البلاد. إن اليهود من هذا المنظور يشبهون رأس المال الوطني (مقابل رأس المال الأجنبي) لابد من الحفاظ عليه والدفاع عنه.

وقد تبنَّى منَسَّى بن إسرائيل المنطق نفسه في خطابه لكرومويل حتى يسمح لليهود بالاستيطان في إنجلترا. كذلك تبنَّى أصدقاء اليهود المنطق ذاته، فطالب جوسيا تشايلد رئيس شركة الهند الشرقية عام 1693 بإعطاء الجنسية لليهود الموجودين في إنجلترا بالفعل. وأشار إلى أن هولندا قد فعلت ذلك وازدهر اقتصادها بالتالي. كما كتب جون تولاند عام 1714 كتيباً هاماً للغاية عنوانه الأسباب الداعية لمنْح الجنسية البريطانية لليهود الموجودين في بريطانيا العظمى وأيرلندا دافع فيه عن نَفْع اليهود مستخدماً المنطلقات نفسها التي استخدمها لوتساتو.

ومن أهـم المدافـعين عن نَفْع اليهود، الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، حيث بيَّن أهمية دورهم في العصور الوسطى، وكيف أن طَرْد اليهود ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم اضطرهم إلى اختراع خطاب التبادل لنقل أموالهم من بلد إلى آخر، ومن ثم أصبحت ثروات التجار غير قابلة للمصادرة، وتمكنت التجارة من تحاشي العنف، ومن أن تصبح نشاطاً مستقلاًّ، أي أنه تم ترشيدها.

ولعل أدقَّ وأطرف تعبير عن أطروحة نَفْع اليهود ما قاله إديسون في مجلة سبكتاتور في 27 سبتمبر 1712 حين وصف بدقَّة تحوُّل اليهود إلى أداة كاملة، فاليهود منتشرون في كل الأماكن التجارية في العالم، حتى أصبحوا الأداة التي تتحدث من خلالها الأمم التي تفصل بينها مسافات شاسعة والتي تترابط من خلالها الإنسانية. فهم مثل الأوتاد والمسامير في بناء شامخ. ورغم أنهم بغير قيمة في ذاتهم، غير أن أهميتهم مطلقة لاحتفاظ هيكل البناء بتماسكه.

وقد استمر هذا الموضوع الكامن شائعاً في الفكر الغربي، ثم ازداد انتشاره وتواتره مع علمنة الحضارة الغربية وسيادة الفلسفات المادية النفعية التي تحكم على مجالات الحياة كافة، وليس على اليهود بمفردهم، من منظور المنفعة. ولذا، نجد أن فكرة نَفْع اليهود تزداد محورية في الفكر الغربي في أواخر القرن الثامن عشر، وهي أيضاً المرحلة التي لم يَعُد فيها وضع أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب مقلقلاً وحسب، بل صل فيها إلى مرحلة الأزمة. وقد تزامنت هذه العمليات الانقلابية مع ظهور فكر كلٍّ من آدم سميث في إنجلترا والفيزيوقراط في فرنسا، حيث كان كل منهما يطالب الدولة بتنظيم وزيادة ثروتها، كما كانا يتقبلان فكرة أن الهدف النهائي (والمطلق) لكل الأشياء هو مصلحة الدولة. ومن هنا، ظهر الفكر النفعي الذي يرى العالم كله من منظور المنفعة. وكان أعضاء الفريق الأول يرى أن الصناعة هي المصدر الأساسي للثروة، في حين كان أعضاء الفريق الثاني، بحكم وجودهم في بلد زراعي أساساً، يرون أن الزراعة هي المصدر الأساسي للثروة. ولكن، مع هذا، تظل فكرة المنفعة هي الفكرة الأساسية. فأعلنت الأكاديمية الملكية في متز عن مسابقة عام 1785 لكتابة بحث عن السـؤال التـالي: هل بالإمكان جَعْل يهود فرنسا أكثر نفعاً وسعادة؟ ونشر كريستيان دوم كتابه الشهير عن موضوع نَفْع اليهود عام 1781 بعنوان بخصوص إصلاح المكانة المدنية لليهود. كما نشرت كتابات عديدة بأقلام الكُتَّاب الفرنسيين الذين ساهموا في الثورة الفرنسية مثل ميرابو وغيره، دافعوا فيها عن نَفْع اليهود أو إمكانية إصلاحهم أو تحويلهم إلى شخصيات نافعة منتجة. وموضوع نَفْع اليهود يشكل إحدى اللبنات الأساسية في كتابات السياسي الإنجليزي والمفكر الصهيوني المسيحي اللورد شافتسبري، الذي اقترح توطين اليهود في فلسطين لأنهم جنس معروف بمهارته ومثابرته، ولأنهم سيوفرون رؤوس الأموال المطلوبة، كما أنهم سيكونون بمثابة إسفين في سوريا يعود بالفائدة لا على إنجلترا وحدها، وإنما على العالم الغربي بأسره.

وقد سيطر الفكر الفيزيوقراطي وفكر آدم سميث على كثير من الحكام المطلقين، حيث كانت حكومات البلاد الثلاثة التي اقتسمت بولندا واليهود فيما بينها، في أواخر القرن الثامن عشر، يحكمها حكام مطلقون مستنيرون (فريدريك الثاني في بروسيا، وجوزيف الثاني في النمسا، وكاترين الثانية في روسيا). فتبنت هذه الحكومات مقياس المنفعة تجاه أعضاء الجماعات اليهودية، فتم تقسيمهم إلى نافعين وغير نافعين. وكان الهدف هو إصلاح اليهود وزيادة عدد النافعين، وطرد الضارين منهم أو عدم زيادتهم. كما كان معظم أعضاء الجماعة اليهودية مركَّزين في التجارة، وقد أخذت عملية تحويل اليهود إلى عناصر نافعة شكل تشجيعهم على العمل في الصناعة أو الزراعة، وهو ما يُسمَّى «تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج». كما لم يكن ممكناً أن يُعتَق من اليهود سوى النافعين منهم. وكان يُنظَر إلى اليهود كمادة بشرية، فكانت تُحَدُّ حريتهم في الزواج حتى لا يتكاثروا. وكان الشباب يُجندون حتى يتم تحديثهم وتحويلهم إلى عناصر نافعة.

ولا يمكن فهم تاريخ الحركة الصهيونية ولا تاريخ العداء لليهود (بما في ذلك النازية) إلا في إطار مفهوم المنفعة المادية هذا. فقد تبنَّى المعادون لليهود هذا المفهوم وصدروا عنه في رؤيتهم وأدبياتهم، فراحوا يؤكدون أن أعضاء الجماعة اليهودية شخصيات هامشية غير نافعة، بل ضارة يجب التخلص منها، وتدور معظم الأدبيات العنصرية الغربية في القرن التاسع عشر حول هذا الموضوع، وهي أطروحة لها أصداؤها أيضاً في الأدبيات الماركسية، وضمن ذلك أعمال ماركس نفسه، حيث يظهر اليهودي باعتباره ممثلاً لرأس المال الطفـيلي الذي يتركز في البورصـة ولا يغامر أبداً بالدخول في الصناعة. وتظهر الأطروحة نفسها في كتابات ماكس فيبر الذي يرى أن رأسمالية اليهود رأسمالية منبوذة، بمعنى أنها رأسمالية مرتبطة بالنظام الإقطاعي القديم ولا علاقة لها بالنظام الرأسمالي الجديد (ومن المفارقات أن اليهودي الذي كان رمزاً لرأس المال المحلي المتجذر، أصبح هنا رمز رأس المال الأجنبي الطفيلي المستعد دائماً للرحيل والهرب).

وقد وصل هذا التيار إلى قمته في الفكر النازي الذي هاجم اليهود لطفيليتهم وللأضـرار التي يُلحقونهـا بالمجتمـع الألماني وبالحضـارة الغربية. وقد قام النازيون بتقسيم اليهود بصرامة منهجية واضحة إلى قسمين:

1 ـ يهود غير قابلين للترحيل، وهم أكثر اليهود نفعاً.

2 ـ يهود قابلون للترحيل (بالإنجليزية: ترانسفيرابلtranferable ) وقابلون للتخلص منهم (بالإنجليزية: ديسبوزابل disposable) ويُستَحسن التخلص منهم بوصفهم عناصر غير منتجة (أفواه تأكل ولا تنتج [بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters] حسب التعبير النازي المادي الرشيد الطريف) وبوصفهم عناصر ضارة غير نافعة لا أمل في إصلاحها أو في تحويلها إلى عناصر نافعة منتجة.

ومما يجـدر ذكره والتأكيد عليه، أن هذا التقسـيم تقسيم عام شامل، غير مقصور على اليهود، فهو يسري على الجميع، فقد صنَّف الألمان المعوقين والمتخلفين عقلياً وبعض العجزة والمثقفين البولنديين باعتبارهم «غير نافعين»،أي قابلين للترحيل ويستحسن التخلص منهم.وقد سويت حالة كل هؤلاء (بما في ذلك اليهود) عن طريق الترحيل إلى معسكرات السخرة أو الإبادة،حسب مقتضيات الظروف والحسابات النفعية المادية الرشيدة المتجاوزة للقيم والغائيات الإنسانية.

وقد تقبُّل الصهاينة هذا الإطار الإدراكي، فنجد أن هرتزل يرى أن اليهود عنصر بشري فائض غير نافع يجب توظيفه وجعله عنصراً نافعاً للحضارة الغربية عن طريق تحويله إلى مستوطنين، بل عن طريق تحويل أعضاء الجماعات كافة إلى عُمَلاء للقوة الاستعمارية الراغبة في الاستفادة منهم. ويمكن القول بأن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي فكرة الشعب العضوي المنبوذ مضافاً إليها فكرة نَفْع اليهود. ويتحدث ناحوم سوكولوف بالطريقة نفسها عن اليهود وكيفية تحويلهم إلى مادة نافعة. كما كان مفكرو الصهيونية العمالية يصرون على إمكانية تحويل اليهود إلى عنصر نافع ومنتج من خلال غزو الأرض والعمل.

ويجب أن نشير هنا إلى ألفريد نوسيج الفنان الصهيوني الذي عاون هرتزل في تأسيس المنظمة الصهيونية وكان أحد زعماء الصهيونية في ألمانيا. وامتد به العمر إلى أن استولى النازيون على السلطة واحتلوا بولندا. فتعاون نوسيج مع الجستابو ووضع مخططاً لإبادة يهود أوربا باعتبارهم عناصر غير نافعة. وقد حاكمه يهود جيتو وارسو وأعدموه. وقد فعل رودولف كاستنر، المسئول الصهيوني في المجر، الشيء نفسه حينما تفاوض مع أيخمان (المسئول النازي) بخصوص تسهيل نَقْل يهود المجر (باعتبارهم عناصر غير نافعة قابلة للترحيل والإبادة) مقابل السماح لبعض الشباب اليهودي بالسفر إلى فلسطين والاستيطان فيها (« شباب من أفضل المواد البيولوجية » على حد قول أيخمان أثناء محاكمته).

وفي الاعتذاريات الصهيونية، قبل 1948، نجد أن الزعماء الصهاينة يصرون على مدى نَفْع القاعدة الصهيونية للمصالح الإمبريالية ومدى رخصها. وقد فعل ذلك كلٌّ من وايزمان وجابوتنسكي في خطاباتهم وخطبهم. وبعد إنشاء الدولة، لا يزال هذا بُعداً أساسياً في الإدراك الإسرائيلي للذات وفي الإستراتيجية الإسرائيلية، إذ تحاول الدولة الصهيونية أن تظل قاعدة يفوق نفعها كل ما تحصل عليه من معونات، وأن يظل دورها عنصراً أساسياً مهماً ونافعاً للغرب.

والتعبيرات المجازية التي تُستخدَم للإشارة إلى الدولة الصهيونية تؤكد كلها كونها أداة نافعة؛ فالدولة هي حصن ضد الهمجية الشرقية (وضد الأصولية الإسلامية في الوقت الحالي)، وهي مؤخراً حاملة طائرات لأمريكا، وهي في كلتا الحالتين ليس لها قيمة ذاتية، وإنما تنبع قيـمتها مما تؤديه من خـدمات وما تجلـبه من منفعة، فالدولة هنا وظيفة ودور وليسـت كياناً مسـتقلاً له حركياته. وهي تسـتمد استمرارها، بل وجودها، من مدى مقدرتها على أداء هذا الدور. ولذا فنحن نشير إلى الدولة الصهيونية باعتبارها دولة مملوكية، علاقتها بالغرب تشبه علاقة المملوك بالسلطان فهي علاقة نفعية محضة، مستمرة طالما استمرت حاجة السلطان إلى الأداء المملوكي، ونحن نشير لها كذلك باعتبارها الدولة الوظيفية، أي الدولة التي تضمن استمرارها وبقاءها من خلال أدائها لوظيفتها. وربما يبيِّن هذا مدى أهمية الانتفاضة التي أثبتت أن الدولة الصهيونية غير قادرة على أداء دورها ووظيفتها كقاعدة إستراتيجية في الشرق الأوسط، وأن نفعها ليس كبيراً، وأن أداءها لوظيفتها أصبح أمراً مُكلِّفاً للغاية.

ومن هنا تحرُّك الدولة الصهيونية السريع لتجد لنفسها وظيفة جديدة، فبدلاً من أن تكون حاملة طائرات أو معسكراً للمماليك، ستصبح « سوبر ماركت » مثل سنغافورة، ومركزاً للسماسرة والصيارفة، وربما ركيزة أساسية لقطاع اللذة (ملاهي ـ كباريهات ـ مصحات ـ سياحة). ومن هنا أهمية توقيع اتفاقية السلام والإصرار على ضرورة رفع المقاطعة العربية، حتى يتسنى للدولة الصهيونية أن تلعب دورها الجديد الذي لا يختلف كثيراً عن بعض الأدوار التي كان يلعبها أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في الغرب. إن الدولة الصهيونية ستصبح سوبر ماركت، أي فردوساً أرضياً يضم كل السلع التي يحلم بها الإنسان، فيذوب فيها ويفقد حدوده وينسى كل المُنغِّصات، مثل التاريخ، والذاكرة القومية، والهوية، والكرامة، والقيم الأخلاقية.

ومما يجدر ذكره أن سياسة البلاشفة تجاه اليهود لا تخلو من هذا المنظور النفعي. فعندما كان من مصلحة الاتحاد السوفيتي دَمْج اليهود تمـاماً، قررت الدولة السـوفيتية أن هـذا هو الحل الوحيد للمسـألة اليهودية،وذلك باعتبار أنه لا يوجد شعب يهودي.ولكن الاتحاد السوفيتي وجد في الأربعينيات أن من مصلحته الاعتراف بالشعب اليهودي وبدولته اليهودية في فلسطين،على أمل أن تشكل الدولة اليهودية خلية اشتراكية في الوسط العربي الإقطاعي المتخلف فتقوم بتثوير المنطقة،ومن ثم سمح بالهجرة السوفيتية،بل دافع المتحدثون السوفييت عن حقوق الشعب اليهودي بشراسة غير معهودة فيهم. وكان الاتحاد السوفيتي أول دولة اعترفت بشكل قانوني بالدولة الصهيونية وسمحت بهجرة يهود بولندا وغيرهم.وفي الوقت الحالي،يسمح الاتحاد السوفيتي مرة أخرى بهجرة اليهود السوفييت، بعد البريسترويكا،لإرضاء الغرب والحصول على التكنولوجيا المتقدمة والدعم المادي،وربما للتخلُّص من أعضاء الجماعة اليهودية، أي أن السوفييت يدورون في إطار النمط النفعي المادي، خصوصاً أن هذا التخلص يأخذ شكل تصدير السلعة البائرة للشرق.




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق