إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 31 أغسطس 2014

615 موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة الجزء الأول: التحديث الباب الثالث: التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية التحديث وظهور الرأسمالية الرشـيدة والمسـألة اليهوديـة Modernization, Emergence of Rational Capitalism and the Jewish Question


615

موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية

للدكتور عبد الوهاب المسيري

المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة

الجزء الأول: التحديث

الباب الثالث: التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية

التحديث وظهور الرأسمالية الرشـيدة والمسـألة اليهوديـة

Modernization, Emergence of Rational Capitalism and the Jewish Question

أدَّت عمليات التحديث وظهور الرأسمالية الرشيدة إلى تدهور وَضْع أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في الغرب بسبب فقدانهم دورهم، وهو ما يُسمَّى «المسألة اليهودية». ولكن التحديث نفسه وكذا الرأسمالية الرشيدة هما اللذان أدَّيا إلى حل المسألة. ويمكن تقسيم أوربا إلى ثلاث مناطق أساسية، وأساس التصنيف هو نمط التحديث السائد ومدى قوة أو ضعف الرأسمالية الرشيدة:

1 ـ غرب أوربا (إنجلترا وفرنسا وهولندا وغيرها)، ثم الولايات المتحدة فيما بعد، وهي دول التحديث الحر: وهي مجتمعات حققت معدلات عالية من التقدم الاقتصادي في فترة مبكرة، وكان لها مشروع استعماري قوي ساهم في حل معظم مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وحقق قدراً من الوفرة ساعد على خفض حدة الصراعات الطبقية والتوترات الاقتصادية الداخلية.

وقد قامت الطبقة البورجوازية بعملية التحويل الاجتماعي في هذا البلد وتبنَّت مُثُلاً ليبرالية منفتحة. وكانت الرؤية القومية التي سادت هذه المجتمعات هي الأخرى منفتحة، فكانت مسألة الانتماء للوطن مسألة غير عضوية أو عرْقية، وإنما مسألة انتماء قومي متاح لكل من وُلد داخل المجتمع ونشأ على أرضه وكان على استعداد للاضطلاع بوظيفته وأداء واجبه. ولذا، لم تستبعد المُثُل القومية في هذه المجتمعات أعضاء الجماعات اليهودية، وإنما فتحت الأبواب والفرص أمامهم فحققوا الحراك الاجتماعي الذي يحتاجون إليه.

وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، لم تكن معظم هذه البلاد تضم جماعات يهودية كبيرة، إما لعدم وجود يهود فيها أصلاً أو لأنهم طُردوا منها في مرحلة سابقة. وحينما استوطن اليهود مرةً أخرى في هذه البلاد، ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي أي مع بدايات التحديث، فإنهم استقروا في بلاد تحددت فيها الملامح الأساسية للاقتصاد التجاري الرأسمالي، وكانت تضم طبقة تجارية محلية قوية لا تخشى منافسة رأس المال اليهودي بل ترحب به لحاجتها إلى الاستثمارات في المشاريع الرأسمالية والاستعمارية المختلفة. وقد تم توطين أعضاء الجماعات اليهودية في هولندا وإنجلترا في القرن السابع عشر، ثم في العالم الجديد داخل هذا الإطار.

وقد كان اليهود الذين استقروا في هذه البلاد من أصل سفاردي ولديهم كثير من الكفاءات المطلوبة والاتصالات الدولية المهمة، كما كانوا متقدمين من الناحية الحضارية. ثم انضمت إليهم عناصر من الإشكناز شكلوا الأغلبية فيما بعد واستوعبوا كثيراً من عناصر الحضارة الغربية حولهم.

ورغم أن العنصر الإشكنازي كان متمايزاً حضارياً ووظيفياً، إلا أن هذا التمايز تقوَّض بمرور الوقت من خلال المعدلات السريعة للتحديث وفتح باب الحراك الاجتماعي، وكذلك من خلال التقاليد السياسية الليبرالية السمحة. واستمرت عملية دمجهم في المجتمع حتى زال التمايز الوظيفي والاقتصادي تماماً، ثم تبعه التمايز السياسي والحضاري.

لم تكن عملية التحديث سهلة أو متيسرة في أول الأمر، بل كانت بعض الحكومات مثل فرنسا تضطر إلى استصدار قوانين خاصة لفرض التحديث على اليهود الإشكناز في الألزاس واللورين. كما حدثت بعض المشاكل والتراجعات والترديات مثل حادثة دريفوس (في فرنسا). ولعل ظهور الفكر العرْقي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وانتشاره فيها، هو شكل من أشكال التردي. وقد ظهرت بعض التوترات ذات الطابع العرْقي في إنجلترا في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، وذلك بعد هجرة يهود شرق أوربا بأعداد متزايدة، كما ظهرت التوترات نفسها فى الولايات المتحدة مع أزمتها الاقتصادية في الثلاثينيات. لكن مثل هذه المشاكل والتوترات لا تختلف كثيراً عن تلك التي تنشأ في أي مجتمع في فترات الأزمات الاقتصادية، بين أعضاء الأقليات فيها من جهة وبعض العناصر المتطرفة من أعضاء الأغلبية الذين يُضخِّمون خطر أعضاء الأقلية من جهة أخرى، وهي عادةً ما يتم التغلب عليها، كما حدث بالفعل في نهاية الأمر.

2 ـ وسط أوربا (النمسا وألمانيا)، وهي دول التحديث المختلط والشمولي والتحديث تحت رعاية الدولة: وقد بدأ التحديث في هذه الدول وغيرها من دول وسط أوربا في وقت متأخر قليلاً، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وتم تحت إشراف بعض العناصر التقليدية في المجتمع (الملك وبعض النبلاء) أو بإشراف الحكومة، أي أن عملية التطور الصناعي لم تتم حسب النمط الرأسمالي الحر وإنما بتدخل الحكومة.

ولم يكن لهذه الدول مشروع استعماري قوي يساهم في تخفيف حدة التوترات الاجتماعية والاقتصادية (أو أن مشروعها الاستعماري تم إجهاضه على يد دول غرب أوربا ولصالحها)، كما لم تَسُد المُثُل البورجوازية الليبرالية فيها، لأن الطبقة البورجوازية لم تكن قوية بما فيه الكفاية ولم تتول قيادة كل الطبقات، وقنعت في غالب الأمر بدور التابع. وعلى مسـتوى الرؤية القومية، ظـهرت فكرة القومـية العضـوية (الجامعة الألمانية)، وفكرة الشعب العضوي (الفولك)، وهي التي حددت مسألة الانتماء القومي على أساس عضوي ثقافي ضيق، ثم حوَّلته في مرحلة لاحقة إلى مسألة انتماء عرْقي أو انتماء قومي ديني (القومية المسيحية). وهذا الأمر ينطبق على ألمانيا أكثر من انطباقه على الإمبراطورية النمساوية المجرية، التي كانت تشجع التعددية كما هو الحال مع الإمبراطوريات المتعددة القوميات. وإن كان هذا لم يمنع من انتشار الرؤية الألمانية العضوية في النمسا التي كانت دائماً في محيط ألمانيا الثقافي.

ولم يكن هناك جماعة يهودية كبيرة في وسط أوربا. فيهود ألمانيا، على سبيل المثال، لم يزد عددهم على 1% من عدد السكان، ولذا، فإنهم لم يكونوا جماهيراً بمعنى الكلمة. وقد حققوا معدلات عالية من الاندماج في محيطهم الثقافي، فكانوا يتحدثون اللغة الألمانية ويتبعون أسلوب الحياة السائد في المجتمع، وازداد الزواج المُختلَط بينهم. وقد برز كثير من أعضاء الجماعات اليهودية من الرأسماليين (من ورثة يهود البلاط) ولعبوا دوراً مهماً في تطوُّر الرأسمالية والصناعة الألمانية. إلا أن ثمة عناصر أخرى فصلتهم عن محيطهم الثقافي وخلقت لهم وضعاً خاصاً وأعاقت عملية التحديث، منها:

أ) يُلاحَظ أن الهجرة من شرق أوربا في منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1880، والتي كانت هجرة داخلية أي من بلد أوربي إلى آخر، كانت تقذف بأعداد كبيرة من يهود اليديشية المتخلفين، المتمايزين حضارياً وطبقياً، إلى ألمانيا والنمسا. وحينما ضم هذان البلدان أجزاء من بولندا، ضما معها أعداداً كبيرة من يهود اليديشية، الذين هاجرت أعداد منهم إلى المدن الألمانية والنمساوية وبدأوا يصبغون الجماعات اليهودية فيها بصبغة يهودية فاقعة. وكان هؤلاء المهاجرون يُشكِّلون التربة الخصبة للأفكار الصهيونية، كما كانوا يفرضون على يهود هذه البلاد تبنِّي الصهيونية التوطينية حلاًّ لمشاكل اللاجئين. ولا يمكن فهم دعوة هرتزل للصهيونية، وهو اليهودي المندمج بل المنصهر، إلا بإدراك أنه كان مهدداً بفقدان موقعه الطبقي ومكانته الاجتماعية وانتمائه الحضاري بسبب وفود الآلاف من يهود اليديشية. وقد كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية في فيينا لا يزيد عن بضع مئات في أواخر القرن الثامن عشر، ثم قفز عددهم إلى نحو 176 ألفاً مع بداية القرن العـشرين.

ب) ورغم أن يهود ألمانيا والنمسا كانوا مندمجين في محيطهم الثقافي، فإنهم كانوا يتميَّزون طبقياً ووظيفياً. فعدد كبير منهم، وبخاصة في ألمانيا، كان من العاملين بالتجارة وشئون المال وبنسبة تفوق نسبتهم إلى عدد السكان. وبعد تَصاعُد عملية التحديث في ألمانيا، وبخاصة بعد حرب عام 1870 وضم الألزاس واللورين. ومع بدايات المشروع الاستعماري الألماني، ازداد المموِّلون من أعضاء الجماعة اليهودية نشاطاً، وازداد وجودهم وضوحاً حتى ارتبط اليهود في الوجدان الشعبي بالمشروع الحر والاستغلال الرأسمالي والمضاربات، هذا على الرغم من وجود أعداد كبيرة من اليهود المتسولين والفقراء.

جـ) ارتبطت عناصر يهودية أخرى بالحركات الثورية، بحيث ارتبط اليهود في الوجدان البورجوازي في هذه الدول بالشيوعية والحركات الفوضوية والثورية، وزادت هذه العناصر تميُّز اليهود وعزلتهم عن كثير من الطبقات والقطاعات داخل المجتمع. وظل الجو في وسط أوربا مشحوناً بالكراهية العنصرية ضد أعضاء الجماعات اليهودية حتى الحرب العالمية الأولى، حين تحوَّلت النمسا إلى بلد صغير لا أهمية له، وتم تحطيم ألمانيا وإذلالها والقضاء على مشروعها الاستعماري، ثم تحويلها هي ذاتها إلى شبه مستعمرة. وعندما عاودت ألمانيا التحديث، تم ذلك تحت مظلة الدولة وتحت لواء فلسفة شمولية ترفض كلاًّ من البلشفية والليبرالية، وتطرح رؤية عرْقية عضوية صارمة تُهمِّش مختلف أعضاء الجماعات الذين لا ينتمون انتماءً عضوياً كاملاً إلى الأغلبية، وبخاصة اليهود الذين تركَّزوا في اليمين واليسار. وقد سقط رأس المال الذي يملكه الرأسماليون من أعضاء الجمـاعات اليهودية ضحية هذه العملية وهاجرت أعداد كبيرة منهـم إلى الولايات المتحـدة الأمريكية وفلسطين، بما تبقى من ثرواتهم.

3 ـ شرق أوربا (أي روسيا وبولندا ورومانيا)، وهي الدول ذات الاقتصاد الرأسمالي المتخلف التي تعثَّر فيها التحديث وتوقف، ثم استؤنف على النمط الاشتراكي: وقد بُذلَت محاولات شتى في هذه البلاد لتحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج، وخُصِّصت الجوائز للحرفيين وأصحاب العمل الذين يُشغِّلون الصناع اليهود، وأُرسل ألوف اليهود لاستصلاح الأراضي في بعض المناطق الروسية. وحاولت الحكومة إدخال التعليم العلماني بين اليهود ليكتسبوا خبرات تؤهلهم للتعامل مع البنيان الاقتصادي الجديد، واستمرت هذه المحاولات التي ساهم فيها أثرياء اليهود في الغرب حتى عام 1880 تقريباً، ولذلك يُلاحَظ أن الهجرة اليهودية، حتى ذلك الوقت، كانت هجرة داخلية إلى المراكز الصناعية.

ومما ساعد على تخفيف حدة الانتقال إلى النمط الرأسمالي في الإنتاج، في مرحلة ما قبل عام 1880، أن النمط الرأسمالي (في مراحله الأولى) كان يتم بأشكال بدائية، وهو ما أتاح لعدد من اليهود أن يجدوا مجالاً رحباً للعمل في التجارة (في المدن الصناعية الجديدة) وفي الحرف. وقد ظهرت حركة التنوير اليهودية تعبيراً عن تقبُّل اليهود واليهودية لعملية التحديث.

ولكن محاولات تحديث اليهود تعثَّرت في شرق أوربا، وتفاقمت المسألة اليهودية لأسباب مركبة يرجع بعضها إلى طبيعة تركيب الدولة الروسية وطبيعة النظام الاجتماعي السائد فيها وفي دول شرق أوربا، والبعض الآخر يرجع إلى بعض السمات الخاصة بالجماعة اليهودية في روسيا وبولندا، ومن هذه الأسباب:

1 ـ بدأت عملية التحـديث، في روسـيا وبولندا، في مرحلة متأخرة جداً، إذ كان اقتصادهما، حتى بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، اقتصاداً يشبه من الناحية الأساسية اقتصاد البلاد التي يُقال لها متخلفة. ولم يكن لبولندا أو رومانيا مشروعات استعمارية مستقلة، بل كانتا مستعمرتين من قبل روسيا والدولة العثمانية. أما روسيا، فقد كان لها مشروعها الاستعماري الجديد في آسيا على حدودها مع تركيا في منطقة البحر الأسود، وعلى حدودها مع بولندا وأوكرانيا وغيرهما، وعلى حدودها مع الصين واليابان. ولكن هذا المشروع بدأ متأخراً أيضاً ولم يكن قد آتى أُكله بعد نظراً لحداثته ولعدم كفاءة البيروقراطية الروسية وعدم وجود رأس المال الروسي الكافي للاستثمار فيه. بل يُقال إن المشروع الاستعماري لروسيا القيصرية كان يُشكّل عبئاً على الخزانة الروسية، ولذا كان بعض المفكرين الروس يطالبون الدولة القيصرية بالانسحاب من مستعمراتها. ولهذا، لم يساهم المشروع الاستعماري الروسي في حل المشاكل الداخلية للدولة، بل لعله زادها تفاقماً.

2 ـ لم تسُد المُثُل الليبرالية لا في المجال الاقتصادي ولا في المجال السياسي. ويعود هذا إلى عدة أسباب من بينها حجم الدولة الروسية الضخم، وهذه هي إحدى سمات التشكيل الحضاري المتعدِّد القوميات المترامي الأطراف والذي تلعب الدولة فيه دائماً دوراً مركزياً في عمليات النهضة كما تُشكِّل عنصر التوحيد الأساسي. ومن ناحية أخرى، فإن البورجوازية الروسية كانت ضعيفة وهزيلة إلى أقصى حد، ولذا فإن عملية التحديث تمت بقيادة الحكومة الأرستقراطية الروسية الملتصقة بالكنيسة. كما أن القومية البولندية كانت دائماً ملتصقة بالكنيسة الكاثوليكية. وقد سادت مُثُل قومية عضوية منغلقة تجعل الانتماء مسألة ثقافية عضوية أو مسألة عرْقية أو دينية.

3 ـ لم تكن عملية الدمج في دول شرق أوربا تتم داخل إطار حضاري منفتح يفترض المساواة بين الأفراد ويُظهر الاحترام للتراث الحضاري لكل الأقليات، وإنما كان ثمة افتراض بأن حضارة الأغلبية المسيحية أكثر أهمية، وأنَّ من واجب اليهود اللحاق بركب هذه الحضارة.

4 ـ لم تكن عملية الدمج والتحديث والإعتاق تتم عن طريق الإقناع أو عن طريق إظهار النتائج الإيجابية والمكاسب التي قد تحرزها الجماهير اليهودية، وإنما كانت هذه العملية تتم عن طريق الإرهاب والقسر، الأمر الذي كان يثير مخاوف الجماهير اليهودية فتندفع عائدة إلى الجيتو (الفعلي والنفسي) حيث الأمن والطمأنينة.

5 ـ ونظراً لتميُّز الوضع الطبقي لأعضاء الجماعات اليهودية وارتباطهم بالطبقات الحاكمة وبالنظام الإقطاعي داخل نظام الإقطاع الاستيطاني والأرندا، كانت الحركات القومية والثورية الصاعدة تناصبهم العداء ولا تحاول تجنيدهم في صفوفها (إلا في حالات نادرة)، إذ كان اليهود يُعَدُّون من الغرباء والأعداء. وبعد الحرب العالمية الأولى، استُؤنف التحديث في روسيا. أما بولندا وغيرها من دول شرق أوربا، فقد خرجت من الحرب بعد أن عانت من دمار رؤوس الأموال والممتلكات والحياة. وقد ضعفت السوق المحلية تماماً، وحلَّت محلها وحدات اقتصادية صغيرة متنافسة. وقد تدخلت حكومات هذه الدول، وكانت دولاً مركزية حديثة، فقامت بالدفاع عن مصالحها ومصالح طبقاتها الوسطى على حساب الأقليات التي تعيش داخل حدودها. ومما زاد التناقض تفاقماً أن انخفاض مستوى المعيشة كان يعني، أحياناً، ارتفاع مستوى معيشة أعضاء الجماعة اليهودية نظراً لاشتغالهم بالتجارة ولوجود كفاءات لديهم لم تكن متوافرة لبقية أعضاء المجتمع. كما أن تحويلات المهاجرين اليهود، من الخارج (الولايات المتحدة وغيرها من الدول) إلى ذويهم، ساهمت في هذا الإنعاش أيضاً. كل هذه العناصر ساهمت في عزل أعضاء الجماعات اليهودية عن بقية المجتمع وعمَّقت وضعهم كغرباء، وهذا ما جعل الدول لا تكترث بدمجهم وتحديثهم، بل تبذل قصارى جهدها أحياناً لطردهم. ومن هنا، فقد تبنَّت الحكومات الرجعية في هذه الدول سياسة صهيونية تجاه المسألة اليهودية.

6 ـ ومما ساعد أيضاً على تعثُّر عملية تحديث اليهود أن مجتمعات شرق أوربا كانت تخوض تحولات اقتصادية وسياسية عميقة بسبب سرعة معدل النمو الاقتصادي والحضاري في هذه المجتمعات، فهي مجتمعات لم تكن تمارس عملية النمو على النمط الأوربي الغربي البطيء الذي استغرق مئات السنين، وإنما كانت مجتمعات تنمو على نمط العالم الثالث، حيث تحاول الدولة القومية الجديدة أن تقوم بالثورة التجارية والقومية والاجتماعية والصناعية في وقت واحد، رغم ما قد يكون بين هذه الثورات من تناقض في الأهداف والوسائل في بعض الأحيان. كما أن معدلات النمو السريع لا تسمح بتاتاً بالعمل البطيء أو الخطأ المحتمل ومحاولة علاجه، بل تتطلب تحديد الأهداف والاندفاع نحوها. كما أن عملية التحول البطيئة تسمح لأعضاء الأقليات بأن يكتسبوا الخبرات المطلوبة للعمل في الاقتصاد الجديد، وأن يكتسبوا الهوية الجديدة الملائمة للمجتمع الجديد. ففي روسيا مثلاً،كانت المراحل الأولى للانتقال إلى الرأسمالية بطيئة نوعاً،كما أسلفنا،ولم تكن حركة شاملة بعد.غير أن النمو الرأسمالي لم يتوقف عند هذه المرحلة،بل اتسعت رقعة الصناعة لتشمل الصناعة الخفيفة أيضاً،فكان ذلك بمثابة ضربات قاضية دمرت الاقتصاد الإقطاعي ودمرت معه الفروع الرأسمالية الحرفية،حيث كان اليهود يتركَّزون بنسبة مرتفعة.وهكذا،تشابكت عملية تحويل التاجر اليهودي لما قبل الرأسمالية إلى عامل حرفي أو تاجر رأسمالي مع عملية أخرى وهي القضاء على العمل الحرفي لليهودي.ولكن الحرفي اليهودي لم يتمكن من التحول إلى عامل بسبب منافسة الفلاحين الروس المقتلَعين من مزارعهم ذات المستوى المعيشي المنخفض.

7 ـ ومما زاد الأمور تشابكاً وتعقُّداً أن الحرفي اليهودي كان يعمل في كثير من الأحيان فيما يمكن تسمَّيته «الحرف اليهودية» التي وُلدت في الظروف الخاصة بالشتتل والجيتو اليهودي. فلم يكن الحرفي اليهودي يعمل من أجل الفلاحين المنتجين، بل كان يعمل من أجل التجار والصيارفة والوسطاء، ولذلك نجد أن إنتاج السلع الاستهلاكية هو الشاغل الرئيسي للحرفي اليهودي، ذلك لأن زبائنه يتألَّفون من رجال متخصصين في تجارة الأموال والبضائع وغير منتجين أساساً. أما الحرفي غير اليهودي، فإن ارتباطه بالاقتصاد الزراعي جعله لا يُنتج سلعاً استهلاكية، لأن الفلاح يكفي نفسه بنفسه. وهكذا، كان الحرفي غير اليهودي (الحدّاد) يوجد إلى جانب الفلاح، وإلى جانب رجل المال اليهودي كان يوجد الحرفي اليهودي (الخياط). وقد ساعد على تطوُّر الحرفي المسيحي ارتباطه بالتاجر المسيحي الذي كان يُوظِّف أمواله في حرف متخصصة غير مرتبطة بالنظام الإقطاعي (مثل نسج الأصواف)، وهي حرف كان الغرض منها الإنتاج للتصدير وليس للاستهلاك المباشر، أي أنهـا تقـع خارج نطاق النظام الإقطاعي وتُمثِّل نواة الاقتصـاد الجديد، وبالتالي فهي لم تسقط مع الاقتصاد القديم. وانعكس هذا الوضع على الطبقة العاملة اليهودية، فكانت الحرف الأقل قابلية للتطور إلى صناعة محصورةً في أيدي الحرفيين اليهود، على حين انحصرت المهن الأكثر قابلية لهذا التطور في أيدي الحرفيين غير اليهود. فمثلاً نجد أن 99% من صانعي الأقفال كانوا من غير اليهود، في حين كان 94% من الخياطين من اليهود. ويُلاحَظ أن أول الكوادر العمالية التي وُجدَت في صناعات التعدين والنسج قد تشكَّلت بصورة مطلقة من غير اليهود.

8 ـ وثمة عناصر أخرى زادت من حدة المسألة اليهودية في أوربا الشرقية، من أهمها أن الأغلبية العظمى من يهود أوربا ويهود العالم كانت موجودة في بولندا وأوكرانيا التي كانت تتبعها. وقد تم تقسيم بولندا عدة مرات، وتم تقسـيم أعضـاء الجماعة اليهودية فيها بين عدة دول، لكل منها لغتها وسياستها وتوجُّهها الحضاري. فضمت روسيا الجزء الأكبر من الجماعة اليهودية وحاولت ترويس اليهود، أي صبغهم بالصبغة الروسية. وضمت ألمانيا جزءاً آخر، واعتبرت اليهود مواطنين ألمانيين نتيجةً لأنهم كانوا يتحدثون اليديشية (وهي رطانة ألمانية)، وذلك حتى تضرب بهم السكان السلاف. وُضمَّت جاليشيا إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية التي حاولت أن تفرض عليها الولاء والانتماء إليها. أما بولندا، فكانت تطالب من تبقَّى من اليهود فيها بأن يصبغوا أنفسهم بصبغة بولندية. وقد تضاعف عدد يهود رومانيا بعد أن ضمت مقاطعات كانت توجد فيها نسبة عالية من اليهود. وكانت هذه التقسيمات تتم بسرعة وتتضمن تحولات حضارية جوهرية وعميقة دون أن تكون هناك الفسحة الزمنية اللازمة لإنجاز التحول المطلوب.

ويُلاحَظ أنه أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، وقبل قيام الثورة البلشفية، كانت الحدود الجغرافية في المنطقة الحدودية التي يقطنها اليهود في حالة سيولة كبيرة، إذ أصبحت جاليشيا وبكوفينا وبولندا الروسية وليتوانيا مسرحاً للعمليات العسكرية تتحرك فيها الجيوش الألمانية والروسية. وقامت القوات الألمانية في بولندا بمحاولة تجنيد اليهود باعتبارهم عنصراً ألمانياً، وأصدرت القيادة العسكرية الألمانية منشورات بالعبرية واليديشية إلى « إخواننا اليهود». وقام الروس البلاشفة أيضاً بطرح أنفسهم باعتبارهم محرِّري اليهود وكل الأقليات. ومن ثم فقـد طالبـوا أعضـاء الجمـاعة اليهودية بمساندتهم والتحالف معهم. وقد انتهزت العناصر الأوكرانية هذه الفرصة وهاجمت العناصر اليهودية المحلية. وتسبَّب ذلك في إخفاق أعضاء الجماعة في تحديد ولائهم وفي تحديث أنفسهم كما هو مطلوب منهم، وكما حدث فعلاً بين بني ملَّتهم في غرب أوربا.

وبعد هذا الحديث العام والشامل عن مسألة يهود شرق أوربا من ناحية العناصر المشتركة، يمكننا أن نقلِّل من مستوى التعميم قليلاً ونركِّز على روسيا. ونحن في واقع الأمر، حين نتحدث عن يهود شرق أوربا أو يهود اليديشية، نتحدث عن روسيا التي ضمت بولندا مع بداية القرن التاسـع عـشر الميـلادي فظـلت تابعة لها حتى الحرب العالمية الأولى. وبالتالي، فإن روسيا كانت تضم داخل حدودها الأغلبية الساحقة من يهود اليديشية، أي معظم يهود العالم. ومن أهم الأسباب التي ساهمت في عرْقلة عملية تحديث أعضاء الجماعة اليهودية في الإمبراطورية القيصرية ما يلي:

1 ـ كان يهود بولندا يلعبون دوراً تجارياً محدداً ونشطاً في بولندا بسبب إحجام الأرستقراطية البولندية عن العمل في التجارة. وكان النبيل الإقطاعي يفقد منزلته الطبقية إن عمل في التجارة، وهو ما ترك المجال مفتوحاً أمام اليهود. وحينما ضُـمَّت أعداد كبيرة منهم إلى روسيا، وجدوا أنفسهم داخل تشكيل حضاري جديد توجد داخله طبقات تجارية كبيرة ونشيطة، خصوصاً أن النبلاء الروس لم يكن مُحرَّماً عليهم الاشتغال في التجارة. وقد شهدت الصناعة والتجارة الروسيتان حركة انتعاش عام 1807، بعد أن فرض نابليون على روسيا مقاطعة إنجلترا تجارياً، وكانت روسيا في واقع الأمر مستعمرة لإنجلترا من الناحية التجارية. وأدَّى نهوض الحركة التجارية في روسيا إلى ضعف نشاط التجار اليهود.

2 ـ لم يكن في روسيا جماعات يهودية تُذكَر حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، بل كان محظوراً على اليهود دخول روسيا. وإن تم التصريح لهم بالدخول، كان عليهم مغادرتها في الحال. ولما ضمَّت روسيا أجزاءً من بولندا، وضمَّت معها أعداداً كبيرة من اليهود، وجدت روسيا نفسها تضم أكبر تجمُّع يهودي في العالم له صفاته الحضارية المميزة ولغته الغريبة وعقيدته أو عقائده الفريدة التي يدين بها. ولم يكن لدى البيروقراطية الروسية أية معرفة باليهود أو لغتهم أو مشاكلهم.

3 ـ كانت روسيا دولة تحكمها ملكية مطلقة، ولذا فإن مؤسسات الحكم فيها لم تكن مؤسسات حديثة قادرة على مساعدة الأقليات على الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى. بل ربما كان الوضع في روسيا أكثر سوءاً من غيرها من الدول لضخامتها وفساد موظفيها الذين كانوا في العادة مرتشين لا يؤمنون بأهمية العمل الذي يقومون به ولا يدركون أبعاده التاريخية والاجتماعية. وحتى حينما كانت تتوافر النية الصادقة، لم تكن هذه البيروقراطية تمتلك الأدوات اللازمة لترجمة الأفكار الإصلاحية إلى واقع اجتماعي جديد. ولذا، فإن اليهود، الذين كانوا راغبين بإخلاص في أن يخضعوا لعملية التحديث، وجدوا أنفسهم مواجَهين بمؤسسات هزيلة ليس لديها الإمكانات المطلوبة. ويمكن أن نضرب مثلاً بمحاولة بعض أعضاء الجماعة اليهودية الاستجابة إلى محاولات تحديثهم عن طريق العمل بالزراعة (ليخرجوا بذلك من مسام المجتمع الإقطاعي ويدخلوا في قطاع المهن المنتجة)؛ غير أن هذه المحاولة ارتطمت ابتداءً بحقيقة أن الجماعة اليهودية كانت من الجماعات القومية الروسية التي ليس لها أرض. وتم التغلب على هذه العقبة بأن خصصت الدولة القيصرية مساحات من الأرض لتوطينهم. ولكن، لم تكن هناك خطة واضحة للتوطين، فحين تقدمت عدة أسر يهودية عام 1806 إلى حاكم مقاطعة موخيليف لتوطينها في إحدى المناطق المخصصة لهم، لم يتم ذلك إلا بعد مفاوضات طويلة، فاتفق وزير الداخلية مع حاكم الولاية على أن يخصص لهم ستون ألف إيكر (يعادل الإيكر نحو أربعة آلاف متر مربع) من أراضي الإستبس على ضفاف أحد الأنهار. وبعد معاينة الموقع، تقدَّمت نحو 779 أسرة يهودية للاستيطان هناك. ولكن الحكومة لم تقدِّم لهم سوى مساعدات مالية ضئيلة للغاية أنفقها المستوطنون الجدد وهم بعد في الطريق. وعند وصولهم إلى المكان المحدد لهم، وجدوا أن السلطات لم تكن على استعداد لاستقبالهم، وفتكت بهم الأمراض. ومع هذا، فقد استمر تدفُّق اليهود إلى أن أُلغي مشروع التوطين عام 1810.

4 ـ ارتطمت محاولة تحويل اليهود إلى مزارعين بحركة إعتاق أخرى هي حركة تحرير الأقنان عام 1860، وهذه الحركة الأخيرة ضيَّقت الرقعة الزراعية التي يمكن توطين اليهود فيها. وكما بيَّنا من قبل، كان تحرير الأقنان واليهود وأعضاء الأقليات الأخرى جزءاً من حركة واحدة تهدف إلى بناء الدولة المركزية القومية الحديثة في روسيا.

5 ـ وكانت الكتلة البشرية اليهودية في تلك المنطقة (روسيا وبولندا) تُشكِّل معظم يهود العالم، وهي كتلة منعزلة إلى حدٍّ كبير عن محيطها السلافي على المستوى الحضاري والديني والوظيفي، يتحدث أعضاؤها اليديشية ويرتدون أزياء مغايرة لتلك السائدة في المجتمع، ويطلقون لحاهم وسوالفهم بطريقة غريبة. وقد كانت تهيمن عليهم قيادات أرثوذكسية وحسيدية تقليدية غير مدركة للانقلابات الحضارية الاقتصادية التي كانت تحدث في أوربا آنذاك. وكانت أغلبية يهود شرق أوربا من أتباع الحسيدية، كما أن اليهودية نفسها (كنسق ديني) كانت قد وصلت إلى مرحلة من التحجر والتخلف بعد جفاف الفكر التلمودي وبعد هيمنة الحسيدية والقبَّالاه، بحيث أصبح من العسير عليها التأقلم مع الوضع الجديد. ولذا، قوبلت محاولات التحديث في أغلب الأحيان بمعارضة حادَّة من قبل الجماهير اليهودية التي كانت تشعر بأن عملية التحديث هذه ستفقدها مهاراتها وقناعتها التقليدية وستدخلها في عالم غريب عليها. كما أن هذه الجماهير كانت تشعر بأن دعاة الاندماج والتحديث ليسوا إلا نخبة مستفيدة لديها ـ وحدها ـ الكفاءات اللازمة للدخول في هذا العالم الجديد الغريب. وإلى جانب كل هذا، لم يكن يهود شرق أوربا، رغم عزلتهم وتميُّزهم، يشكِّلون وحدة على نحو ما كانوا حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، فقد تهدّم نظام الشتتل تماماً، وانتشرت العلمانية في صفـوفهم، وانصـرف كثير من الشـباب عن العقيدة اليهودية، بل سلكوا درب الجماعات الثورية.

6 ـ وكان من الممكن أن تخف حدة المشكلة عن طريق الهجرة من روسيا وبولندا ورومانيا إلي الولايات المتحدة. وبالفعل، راحت جماهير اليهود غير القادرة على التأقلم تهاجر بالمئات ثم بالآلاف ثم بمئات الآلاف، حتى بلغ عدد من هاجر من يهود اليديشية عدة ملايين. ولكن، لم ينتج عن هذه الهجرة أي تخفيف من حدة الموقف، إذ أن نسبة تزايُد اليهود كانت مرتفعة جداً، شأنها في هذا شأن نسبة تزايُد سكان أوربا بعد الثورة الصناعية. وعلى سبيل المثال، تضاعف يهود جاليشيا على مدى خمسين عاماً. أما في روسيا، فرغم معدلات الهجرة العالية إلى الولايات المتحدة، ورغم اندماج أعداد لا بأس بها، فإن معدل تزايُد السكان اليهود كان يفوق معدل الهجرة والاندماج ويفوق معدل الزيادة بين الروس أنفسهم. فقد كان عدد اليهود عام 1850 نحو 2,350,000، ولكنه تضاعف خلال خمسين عاماً ليصبح 5000.000 عام 1895. ومن المعروف أن عدد سكان كيشينيف كان قد زاد من عشرة آلاف إلى ثمانية عشر ألفاً في عشرين عاماً، قبل قوع المذبحة التي كثيراً ما تُذكَر في الأدبيات الصهيونية. ويذكر أبراهام ليون أن عدد اليهود قد تضاعف خمس مرات بين عامي 1825 و1925، فتكون نسبة الزيادة أكثر مرة ونصف المرة من نسبة الزيادة بين شعوب أوربا.

وقد أدَّى كل هذا إلى تعثُّر عملية التحديث عدة سنوات، ثم إلى توقفـها شـبه الكامل مع بداية القرن العشرين. وأدَّى هذا، بالتالي، إلى تصعيد حدة الصراع الطبقي وإلى الثورات الاجتماعية الحادة التي انتهت بالثورة البلشفية. وتمثَّل هذا التعثر في صدور قوانين مايو عام 1881 التي حرَّمت على أعضاء الجماعة اليهودية الانتقال خارج منطقة الاستيطان اليهودية في روسيا، وفي المذابح المتكررة التي وقعت في ذلك الوقت. ويمكن التأريخ لظهور الحركة الصهيونية بين اليهود بهذا التاريخ. ففي هذه الفترة طُرح بين أعضاء الجماعات اليهودية بشكل جدي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، وهو الحل الذي يرى ضرورة إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين ليهاجر إليها اليهود. وقد تحالفت العناصر الصهيونية، متمثلة في الصهيونية التوطينية في الغرب، مع الصهيونية الاستيطانية في شرق أوربا، ومع بعض القطاعات الدينية التي اكتشفت خطر سقوط الجيتو على اليهودية كما عرفوها وخبروها. والحل الصهيوني لمسألة يهود شرق أوربا هو، في جوهره، الحل الاستعماري الذي يتلخص في تصدير المشاكل إلى الشرق، سواء أكانت هذه المشاكل متمثلة في الفائض السلعي أم كانت متمثلة في الفائض البشري الذي كان اليهود يشكِّلون نسبة كبيرة منه. وفي هذه الحالة،تم ربط المسألة اليهودية بالمسألة الشرقية (أي تقسيم الدولة العثمانية)،فيتم حل المسألة اليهودية (فائض يهودي لا نَفْع فيه) بتصديره إلى الشرق وتوطينه في فلسطين،ويقوم المستوطنون هناك بتأسيس قاعدة للاستعمار الغربي تحمي مصالحه.وهكذا، ينجح الغرب في التخلص من فائضه البشري ويوظفه في خدمته. أما الفائض اليهودي ذاته، فإنه ينجح بذلك في تحقيق الانتماء إلى الغرب خارج أوربا ولكن من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي، وذلك بعد أن فشل في تحقيق هذا الانتماء داخلها من خلال التشكيل الحضاري والقومي الغربي. وقد طُرحت تصورات لحل المسألة اليهودية من بينها الاندماج وقومية الدياسبورا.

وقد قُدِّر للمسألة اليهودية أن تُحَلّ، ولكن الصهيونية لم تكن المسئولة عن ذلك في واقع الأمر. بل إن ظهور الصهيونية يعوق إتمام هذه العملية التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى تحوُّل اليهودية إلى انتماء ديني وحسب، وإلى سقوط الأوهام الدينية القومية التي أفرزها وضع الجماعات اليهودية المتميِّزة كجماعة وظيفية وسيطة. وقد اندمج يهود غرب أوربا في مجتمعاتهم، وازداد هذا الاندماج بعد انحسار موجة هجرة يهود اليديشية. وفي ألمانيا، حُلَّت المسألة نتيجة لظروفها الخاصة بالطريقة النازية، أي بالإبادة، وذلك بعد فشل محاولات التهجير القسري لليهود. أما في الولايات المتحدة، ورغم أن الجذور الجيتوية اليديشية (الشرق أوربية) لا يزال لها أثر في التكوين الاقتصادي والنفسي للجماعة اليهودية، مثل تركُّزهم في أحياء خاصة بهم وزيادة عددهم في الصناعات الاستهلاكية والمهن الحرة، إلا أن أعضاء الجماعة اليهودية قد حققوا على وجه العمـوم الاندماج الاقتصـادي والحضاري شـبه الكامل. ومن ثم، فإن الهجرة من صفوف يهود أمريكا إلى إسرائيل تكاد تنعدم. وقد حلَّت الثورة البلشفية المسألة اليهودية في روسيا، ثم في بولندا، بتحقيق المساواة بين الأقليات الدينية والعرْقية كافة.

ومن الضروري، ونحن ندرس المسألة اليهودية، أن نميِّز بينها وبين المسألة الإسرائيلية. فالمسألة اليهودية هي مشكلة يهود أوربا، وبخاصة يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. أما المسألة الإسرائيلية، فهي مشكلة التجمع الاستيطاني الصهيوني، خصوصاً جيل الصابرا الذي وُلد على أرض فلسطين، ونشأ فيها، ولا يعرف لنفسه وطناً آخر. وقد تشابكت المسألتان، ولكن يظل لكل مسألة حركياتها وآلياتها ومسرحها التاريخي والجغرافي المختلف.





يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق