11
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء الخامس
ذكر استيلاء أبي عبد الله على إفريقية وهرب زيادة الله أميرها
قد ذكرنا من حال أبي عبد الله ما تقدّم ثمّ إنّ زيادة الله لما رأى استيلاء أبى عبد الله على البلاد وأنّه قد فتح مدينة مِيْلة ومدينة سَطيف وغيرهما أخذ في جمع العساكر وبذل الأموال فاجتمعت إليه عساكر عظيمة فقدّم عليهم إبراهيم بن خُنَيْش وهو من أقاربه وكان لا يعرف الحرب فبلغت عدّة جيشه أربعين ألفًا وسلّم إليه الأموال والعُدد ولم يترك بإفريقية شجاعًا إلاّ أخرجه معه وسار إليه فانضاف إليه مثل جيشه فلّما وصل قسطنطينية الهواء وهي مدينة قديمة حصينة نزل بها وأتاه كثير من كُتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله فقتل في طريقه كثيرًا من أصحاب أبي عبدالله وخاف أبو عبد الله منه وجميع كُتامة وأقام بقُسطنطينية ستّة أشهر وأبو عبدالله متحصّن في الجبل.
فلمّا رأى إبراهيم أنّ أبا عبد الله لا يتقدّم إليه بادر وزحف بالعساكر المجتمعة إلى بلد اسمه كرمة فأخرج إليه أبو عبد الله خيلًا اختارها ليختبر نزوله فوافاها بالموضع المذكور فلمّا رأى إبراهيم الخيل قصد إليها بنفسه ولم يصحبه إليها أحدٌ من جيشه وكانت أثقال العسكر على ظهور الدوابّ لم تحطّ ونشبت الحرب واقتتلوا قتالًا شديدًا.
واتّصل الخبر بأبي عبدالله فزحف بالعساكر فوقعت الهزيمة على إبراهيم ومَن معه فجُرح وعُقر فرسه وتمّت الهزيمة على الجيش جميعه وأسلموا الأثقال بأسرها فغنمها أبو عبدالله وقتل منهم خلقًا كثيرًا وتمّ أمر إبراهيم إلى القَيروان فشاشت بلاد إفريقية وعظم أمر أبي عبد الله واستقرّت دولته وكتب أبو عبد الله كتابًا إلى المهديّ وهو في سجن سِجِلماسة يبشّره وسيّر الكتاب مع بعض ثقاته فدخل السجن في زيّ قصّاب يبيع اللحم فاجتمع به وعرّفه وسار أبو عبد الله إلى مدينة طُبْنَة ونصب عليها الدبابات ونقب برجًا وبدنة فسقط السور بعد قتال شديد وملك البلد فاحتمى المقدّمون بحصن البلد فحصرهم فطلبوا الأمان فأمّنهم وأمّن أهل البلد وسار إلى مدينة بَلَزْمة وكان قد حصرها مرارًا كثيرة فلم يظفر بها فلمّا حصرها الآن ضيّق عليها وجدّ في القتال ونصب عليها الدبابات ورماها بالنار فأحرقها وفتحها بالسيف وقتل الرجال وهدم الأسوار.
واتّصلت الأخبار بزيادة الله فعظم عليه وأخذ في الجمع والحشد فجمع عسكرًا عدّتهم اثنا عشر ألفًا وأمرّ عليهم هارونَ بن الطُّبنيّ فسار واجتمع معه خلق كثير وقصد مدينة دار ملوك وكان أهلها قد أطاعوا أبا عبدالله فقتل هارون أهلها وهدم الحصن ولقيه في طريقه خيل لأبي عبدالله كان قد أرسلها ليختبروا عسكره فلمّا رآها العسكر اضطربوا وصاحوا صيحة عظيمة وهربوا من غير قتال فظنّ أصحاب أبي عبدالله أنّها مكيدة فلمّا ظهر أنّها هزيمة استدركوا الأمر ووضعوا السيف فما يحصى مَن قتلوا وقُتل هارون أمير العسكر وفتح أبو عبدالله مدينة تيجس صلحًا فاشتدّ الأمر حينئذ على زيادة الله وأخرج الأموال وجيّش الجيوش وخرج بنفسه إلى محاربة أبي عبدالله فوصل إلى الأُرْبُس في سنة خمس وتسعين ومائتين فقال له وجوه دولته: إنّك تغرّر بنفسك فإن يكن عليك لا يبقى لنا ملجأ والرأي أن ترجع إلى مستقرّ ملكك وترسل الجيش مع مَن تثق به فإن كان الفتح لنا فنصل إليك وإن كان غير ذلك فتكون ملجأ لنا.
ورجع ففعل ذلك وسيّر الجيش وقدّم عليه رجلًا من بني عمّه يقال له إبراهيم بن أبي الأغلب وكان شجاعًا وبلغ أبا عبدالله الخبر وكان أهل باغاية قد كاتبوه بالطاعة فسار إليهم فلمّا قر منها هرب عاملها إلى الاُربُس فدخلها أبو عبدالله وترك بها جندًا وعاد إلى إنكِجَان ووصل الخبر إلى زيادة الله فزاده غمًّا وحونًا فقال له إنسان كان يضحّكه: يا مولانا لقد عملتُ بيت شعر فعسى تجعل من يلحّنه وتشرب عليه واترك هذا الحزن فقال: ما هو فقال المضحك للمغّنين: غنّوا شعرًا كذا وقولوا بعد فراغ كلّ بيت: اشرب واسقينا من القرن يكفينا فلمّا غنّوا طرب زيادة الله وشرب وانهمك في الأكل والشرب والشهوات فلمّا رأى ذلك أصحابه ساعدوه على مراده.
ثمّ إنّ أبا عبدالله أخرج إلى مدينة مَجَانةَ فافتتحها عنوةً وقتل عاملها وسيّر عسكرًا آخر إلى مدينة تيفاش فملكها وأمّن أهلها.
وقصد جماعة من رؤساء القبائل أبا عبدالله يطلبون منه الأمان فأمّنهم وسار بنفسه إلى
مسكيانة ثمّ إلى تَبِسّةَ ثم إلى مدبرة فوجد فيها أهل قصر الإفريقي ومدينة مَرمَجَنّة ومدينة مَجَانَة وأخلاطًا من الناس قد التجأوا إليها وتحصّنوا فيها وهي حصينة فنزل عليها وقاتلها فأصابه علّة الحصى وكانت تعتاده فشغل بنفسه وطلب أهلها الأمان فأمّنهم بعض أهل العسكر ففتحوا الحصن فدخلها العسكر ووضعوا السيف وانتهبوا.
وبلغ ذلك أبا عبدالله فعظم عليه ورحل فنزل على القصرين من قمودة وطلب أهلها الأمان فأمّنهم وبلغ إبراهيم بن أبي الأغلب أمير الجيش الذي سيره زيادة الله أنّ أبا عبدالله يريد أنت يقصد زيادة الله برَقّادةَ ولم يكن مع زيادة الله كبير عسكر فخرج من الأُربُس ونزل دردمين وسيّر أبو عبدالله سرّية إلى دردمين فجرى بينهما وبين أصحاب زيادة الله قتال فقُتل من أصحاب أبي عبدالله جماعة وانهزم الباقون.
واستبطأ أبو عبدالله خبرهم فسار في جميع عساكره فلقي أصحابه منهزمين فلمّا رأوه قويت قلوبهم ورجعوا وكرّوا على أصحاب إبراهيم وقتلوا منهم جماعة وحجز الليل بينهم.
ثمّ سار أبو عبدالله إلى قَسطيلة فحصرها فقاتله أهلها ثمّ طلبوا الأمان فأمّنهم وأخذ ما كان لزيادة الله فيها من الأموال والعُدد ورحل إلى قَفْصَةَ فطلب أهلها الأمان فأمّنهم ورجع إلى باغاية فترك بها جيشًا وعاد إلى جبل إنكِجَان.
فسار إبراهيم بن أبي الأغلب في جيشه إلى باغاية وحصرها فبلغ الخبر أبا عبدالله فجمع عسكره وسار مجدًّا إليها ووجّه اثني عشر ألف فارس وأمر مقدّمهم أن يسير إلى باغاية فإن كان إبراهيم قد رحل عنها فلا يجاوز فجّ العَرعار فمضى الجيشُ وكان أصحاب أبي عبد الله الذين في باغاية قد قاتلوا عسكر إبراهيم قتالًا شديدًا فلمّا رأى صبرهم عجب هو وأصحابه منهم فأرعب ذلك قلوبهم ثمّ بلغهم قرب العسكر منهم فعاد إبراهيم بعساكره فوصل عسكر أبي عبدالله فلم يرَ واحدًا فنهبوا ما وجدوا وعادوا.
ورجع إبراهيم إلى الأُربُس.
ولمّا دخل فصل الربيع وطاب الزمان جمع أبو عبدالله عساكره فبلغت مائتَيْ ألف فارس وراجل واجتمع من عساكر زيادة الله بالأُربُس مع إبراهيم ما لا يُحصى وسار أبو عبدالله أوّل جُمادى الآخرة سنة ستّ وتسعين ومائتين فالتقوا واقتتلوا أشدّ قتال وطال زمانه وظهر أصحاب زيادة الله فلمّا رأى ذلك أبو عبدالله اختار من أصحابه ستّمائة راجل وأمرهم أن يأتوا عسكر زيادة الله من خلفهم فمضوا لما أمرهم في الطريق الذي أمرهم بسلوكه.
واتّفق أنّ إبراهيم فعل مثل ذلك فالتقى الطائفتان فاقتتلوا في مضيق هناك فانهزم أصحاب إبراهيم ووقع الصوت في عسكره بكمين أبي عبدالله وانهزموا وتفرّقوا وهرب كلّ قوم إلى جهة بلادهم وهرب إبراهيم وبعض من معه إلى القَيروان وتبعهم أصحاب أبي عبدالله يقتلون ويأسرون وغنموا الأموال والخيل والعُدَد ودخل أصحابه مدينة الأُربُس فقتلوا بها خلقًا عظيمًا ودخل كثير من أهلها الجامع فقُتل فيه أكثر من ثلاثة آلاف ونهبوا البلد وكانت الوقعة أواخر جمادى الآخرة وانصرف أبو عبدالله إلى قمودة.
فلمّا وصل خبر الهزيمة إلى زيادة الله هرب إلى الديار المصريّة وكان من أمره ما تقدّم ذكره ولمّا هرب زيادة الله هرب أهل مدينة رقّادة على وجوههم في الليل إلى القصر القديم وإلى القيروان وسُوسة ودخل أهل القَيروان رقّادة ونهبوا ما فيها وأخذ القويُّ الضعيفَ ونُهبت قصور بني الأغلب وبقي النهب ستّة أيّام.
ووصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القَيروان فقصد قصر الإِمارة واجتمع إليه أهل القَيروان ونادى مناديه بالأمان وتسكين الناس وذكر لهم أحوال زيادة الله وما كان عليه حتّى أفسد ملكه وصغّر أمر أبي عبد الله الشيعيّ ووعدهم أن يقاتل عنهم ويحمي حريمهم وبلدهم وطلب منهم المساعدة بالسمع والطاعة والأموال فقالوا: إنّما نحن فقهاء وعامّة وتجار وما في أموالنا ما يبلغ غرضك وليس لنا بالقتال طاقة فأمرهم بالانصراف فلمّا خرجوا من عنده وأعلموا الناس بما قاله صاحوا به: اخرج عنّا فما لك عندنا سمع ولا طاعة! وشتموه فخرج ولمّا بلغ أبا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سَبِيبَةَ ورحل فنزل بوادي النمل وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير في ألف فارس إلى رقّادة فوجدوا الناس ينهبون ما بقي من الأمتعة والأثاث فأمّنوهم ولم يتعرّضوا لأحد وتركوا لكلّ واحد ما حمله فأتى الناس إلى القَيروان فأخبروه الخبر ففرح أهلها.
وخرج الفقهاء ووجوه البلد إلى لقاء أبي عبدالله فلقوه وسلّموا عليه وهنّأوه بالفتح فردّ عليهم ردًّا حسنًا وحدّثهم وأعطاهم الأمان فأعجبهم ذلك وسرّهم وذمّوا زيادة الله وذكروا مساوئه فقال لهم: ما كان إلاّ قويًّا وله مَنَعة ودولة شامخة وما قصرّ في مدافعته ولكنّ أمر الله لا يُعانَد ولا يُدافَع! فأمسكوا عن الكلام ورجعوا إلى القَيروان.
ودخل رقّادة يوم السبت مستهلّ رجب من سنة ستّ وتسعين ومائتين فنزل ببعض قصورها وفرّق دورها على كُتامة ولم يكن بقي أحد من أهلها فيها وأمر فنودي بالأمان فرجع الناس إلى أوطانهم وأخرج العمّال إلى البلاد وطلب أهلَ الشرّ فقتلهم وأمر أن يجمع ما كان لزيادة الله من الأموال والسلاح وغير ذلك فاجتمع كثير منه وفيه كثير من الجواري لهنّ مقدار وحظّ من الجمال فسأل عمّن يكفلهنّ فذكر له امرأة صالحة كانت لزيادة الله فأحضرها وأحسن إليها وأمر بحفظهنّ وأمر لهنّ بما يصلحهنّ ولم ينظر إلى واحدة منهنّ.
ولمّا حضرت الجمعة أمر الخطباء بالقَيروان ورَقّادة فخطبوا ولم يذكروا أحدًا وأمر بضرب السكّة وأن لا يُنقش عليها اسمٌ ولكنّه جعل مكان الاسم من وجه: بلغت حجّة الله ومن الوجه الآخر: تفرّق أعداء الله ونقش على السلاح: عُدّةٌ في سبيل الله ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله وأقام على ما كان عليه من لبس الدون الخشن والقليل من الطعام الغليظ.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق