3394
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
من تاريخ العلامة ابن خلدون
المجلد السابع
من صفحة 503
تاريخ ابن خلدون
السفر لقضاء الحج
ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة؛ فودعت السلطان والأمراء، وزودوا وأعانوا فوق الكفاية. وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، إلى مرسى الطور بالجانب الشرقي من بحر السويس؛ وركبت البحر من هنالك، عاشر الفطر، ووصلنا إلى اليَنْبُع لشهر، فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي الحجة، فقضيت الفريضة في هذه السنة، ثم عدت إلى الينبع، فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح، فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي. ونزلنا بساحل القصير، ثم بَذْرَقْنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد، فأرحنا بها أياماً، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا، ودخلتها في جمادى سنة تسعين؛ وقضيت حق السلطان في لقائه، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبل ذلك (مني) بقبول حسن، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظل إحسانه.
وكنت لما نزلت بالينبع، لقيت بها الفقيه الأديب المتفنن، أبا القاسم بن محمد ابن شيخ الجماعة، وفارس الأدباء، ومنفق سوق البلاغة، أبي إسحق إبراهيم الساحلي المعروف جدّه بالطُّوَيْجن، وقد قدم حاجاً، وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم، كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظي لديه، أبي عبد الله بن زمرك؛ خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوق، ويذكر بعهود الصحبة نصه
:
# سلوا البارق النجدي من علمي نجد تبسم فاستبكى جفوني من الوجد
# أجاد ربوعي باللوى بورك اللوى وسح به صوب الغمائم من بعدي
# ويا زاجري الأظعان وهي ضوامر دعوها ترد هيما عطاشفا على نجد
# ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا فإن زفير الشوق من مثلها يعدي
# يراها الهوى بري القداح وخطها حروفا على صفح من القفر ممتد
#عجبت لها أني تجاذبني الهوى وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي
#لئن شاقها بين العذيب وبارق مياه بفيء الظل للبان والرند
#فما شاقني إلا بدور خدورها وقد لحن يوم النفر في قصب ملد
#فكم في قباب الحي من شمس كلة وفي فلك الأزرار من قمر سعد
#وكم صارِم قد سُل من لَحظِ أحْوَرٍ وكم ذابلٍ قد هُزَّ من ناعم القَدِّ
# خُذوا الحِذر من سُكَّان رامَة إِنْها ضعِيفات كرِّ اللَّحْظِ تَفتكُ بالأسْدِ
# سِهام جُفونٍ عن قِسِّيَ حواجِبٍ يُصَابُ بها قَلبُ البَريء على عَمْدِ
# وروض جَمال ضاعَ عَرْفُ نَسِيمِه وما ضاع غيرُ الوَرْد في صَفحة الخدِّ
ونرجِس لَخظٍ أرسل الدَّمعَ لؤْلؤاً فَرَشَّ بماءِ الوَرْد رَوضاً من الوَردِ
وكم غُصُنٍ قد عانَق الغُصْنَ مثلَهُ وكلٌّ على كلٍّ من الشًوْق يَسْتَعْدي
قبيحُ وداعُ قد جَلَا لعُيُونِنا محاسِنَ من روضِ الجمال بلا عَدِّ
رعَى الله لَيْلَى لو عَلمتُ طريقَها فَرَشْتُ لأخفاف المَطِيِّ به خَذي
وما شاقني والطَيْفُ يُرهِبُ أدْمُعى وَيسْبَح في بحرٍ من الئَيْل مزْبَذ
وقد سُلَّ خفَّاقُ الذُّؤابة بارقٌ كما سُلَّ لَمَّاع الصِّقالِ من الغِمْدِ
وهُزتْ مُحَلاَّةً يدُ الشوقِ في الدُّجى فَحُلَّ الذي أبْرَمْتُ للصَّبْرِ من عَقْدي
وأفلق خفَّاقُ الجوانح نسْمَةً تَنِتُم مع الإصباح خافقَة البُردِ
وهبَّ عليلٌ لَفَّ طيّ بُرُودِهِ أحاديثَ أهْداها إلى الغَور من نَجْدِ
سَوَى صادِحٍ في الأيكِ لم يَدْرِ ما الهَوَى ولكن دعا مِنِّي الشُجُونَ على وعدِ
فهَلْ عِندَ لَيْلَى نَعَّم الله لَيْلَها بانَّ جُفوني ما تَمَل من السهْدِ
وليلةَ إِذْ ولَّى الحَجِيجُ على مِنىً وفَت لي المُنَى منها بما شئتُ من قَصْدِ
فَقضيتُ منها-فوقَ ما احسَبُ –المُنَى وبُرْدُ عَفافي صانَه الله من بُردِ
وليْسَ سوى لَحظٍ خفيّ نُجِيلُهُ وشَكْوى كما آرفضق الجُمانُ من العِقْد
غَفَرْتُ لِدَهْري بعدها كلّ ما جَنى سِوَى ما جَنَى وفْدُ المَشِيبِ على فَوْدِي
عرفْت بهذا الشَّيب فضْلَ شَبِيبتي وما زال فَضْل الضِّدِّ يُعرَفُ بالضدِّ ومن نامَ في ليْلِ الشاب ضَلَالَةً
سَيُوقظُهُ صُبْح المَشِيب إلى الرُشْدِ أما والهَوى ما حُلتُ عن سَنَن الهَوَى ولا جُرْتُ في طُرْقِ الصَّبابة عنٍ قَصْدِي
تَجاوزتُ حدَّ العاشقين الألى قَضَوْا وأصبَحْتُ في دِينِ الهَوَى أُمَّة وحدي نَسِيتُ وما أنسَى وفائي لخلَّتي وأقفَر رَبْع القلْب إِلا منَ الوَجْد
* * * *
إليكَ أبا زيْد شَكاةً رفعْتُها وما أنتَ من عَمْرو لدَيّ ولا زَيْد
بعَيشِكَ خَبِّرني وما زلتَ مفْضِلا أعِندَك من شَوقٍ كمِثل الذي عِندي
فكمِ ثارَ بي شَوْق إليك مُبرِّحٌ فظَلّت يَدُ الأشواق تَقْدَح من زَنْدي
وصَفقَ حتى الرِّيحُ في لُمَمِ الرُّبَى وأشفَق حتى الطَفْلُ في كَبدِ المَهْدِ
يُقابِلُني منكَ الصَّباحُ بوَجْنَةٍ حَكَى شفقاً فيه الحَياءُ الذي تُبْدي
وتُوهِمُني الشمْسَ المنيرةَ غُرَّةٌ بوَجْهك صان الله وجهَكَ عن رَدِّ
مُحيَّاك أجْلَى في العُيون من الضُحى وذِكرُكَ أحْلَى في الشِّفاهِ من الشهْدِ
وما أنتَ إِلّاَ الشَّمسُ في عُلْو أُفْقِها تُفيدُك من قُرْب وتُلحَظُ من بُعْدِ
وفي عَمَةٍ من لا تَرَى الشَّمسَ عينُه وما نَفْعُ نُورِ الشَّمًسِ في الأعين الرُّمْدِ
مَن القَوْم صانوا المَجْدَ صَوْنَ عُيُونهِم كما قد أباحُوا المَال يُنْهَب لِلرِّفْدِ
إِذا ازدَحَمت يوْماً على المال أُسْرةٌ فما ازدَحمّوا إِلَّا مَوْرِد المَجْدِ
ومَهْما أغارُوا مُنجِدينَ صَرِيخَهم يَشُبُّونَ نارَ الحَرْبِ في الغَوْر والنَّجْد
ولم يَقْتَنُوا بَعْدَ البِناءِ ذَخِيرَة سِوَى الصَّارم المَصْقُول والصَافِنِ النَّهْدِ
وما اقتَسمَ الأنفالَ إِلآَ مُمَدَّحٌ بَلاَها بأعْرافِ المُطَهَّمَةِ الجُرْدِ
أتَنسَى ولا تَنْسَى ليالينَا التي خَلَسْنا بِهنَ العَيْشَ في جَنةِ الخُلْدِ
ركِبنا إلى اللَّذاتِ في طَلَق الصِّبا مَطايا اللَّيالي وادِعينَ إلى حَدّ
فإِن لم نَرِدْ فيها الكُؤُسَ فإنَنا ورَدْنا بها للأنْسِ مُسْتَعْذَبَ الوِرْدِ
أتيتُك في غَرْب وأنتَ رئيسُهُ وبابُكَ للأعْلاَم مُجْتَمَع الوَفْدِ
فآنسْتَ حتى ما شَكَوْتُ بِغُرْبَة ووالَيْت حتى لم أجِد مَضَضَ الفَقْدِ
وعُدت لقطْرِي شاكراً ما بَلَوْتُه مِنَ الخُلُق المَحمّودِ والحَسَبِ العِدّ
إلى أن أجَزْتَ البَحْر يا بَحْرُ نَحْوَنا وزُرتَ مَزار الغَيْثِ في عَقِب الجَهْد
ألذّ منَ النُّعْمَى على حالِ فاقَةٍ وأشْهَى من الوَصْلِ الهَنيً على صَدِّ
وإِن ساءني أن قَوَضَتْ رِحْلَك النوَى وعُوِّضتَ عَنا بالذَمِيلِ وبالوَخْدِ
لقَد سَرَّني أن لُحْت فيِ أفُقِ العُلا على الطَّائِر المَيْمُونِ والطَّالِعِ السَّعد
طَلَعتَ بأفْقِ الشَّرقِ نجْمَ هِدايةٍ فجئْت معَ الأنْوار فيه على وعد
* * * *
يَميناً بمَن تَسْرِي المَطِيُّ سَواهِماً عَليها سِهامٌ قَد رَمَت هَدفَ القَصدِ
إِلى بيْتِه كيْما تَزُورَ معاهداً أبان بها جِبْرِيلُ عَن كَرَم العَهْدِ
لأنتَ الذي مَهْما دَجا لَيْلُ مشْكِلٍ قَدَحْتَ به للنّور واريِةَ الزَّنْدِ
وحيثُ استقلَّت بي ركابٌ لِطِية فأنتَ نَجيُّ النَفْس في القُرْبِ والبُعْدِ
* * * *
وإني ببَابِ المُلْك حيث عَهِدتَني مديدَ ظِلال الجاه مُسْتَحْصَفَ العَقْد
أُجَهِّز بالإنشاءِكُ كل كَتِيبةٍ منَ الكُتْبِ ؛ والكُتَّابى في عَرْضِها جُنْدي
نَلوذُ مِنَ المولَى الإمام محمَّدٍ بظل على نَهْر المَجرَّة مُمتَدِّ
إِذا فاض من يُمناه بحرُ سَماحةٍ وعمَّ به الطّوفانُ في النجْد والوَهْد
رَكبنا إلى الإحْسان في سفُن الرَّجَا بحورَ عطاءٍ ليس تجزُرُ عن مَدِّ
فَمَن مُبلِغُ الأمصار عني ألوكةً مغَلْغَلَةً في الصِّدق مُنْجَزَةَ الوَعْد
بآيةِ ما أعطى الخليفةَ رَبُّهُ مفاتيحَ فَتْحٍ ساقها سائقُ السعدِ
ودُونك من رَوض المحامِدِ نَفحْةً تفوت إذا اصطفَّ النَّديُّ عن النِّدِّ
ثناءً يَقولُ المِسْك إِن ضاعَ عرفُه أيا لك من نَدٍّ أما لك من نِدِّ
وما الماءُ في جَوف السَّحابُ مُرَوَّقاً بأطهر ذَاتاً منكَ في كَنفِ بالمَهْدِ
فكيْفَ وقد حَلَتْك أسْرابَها الحُلى وباهَت بكَ الأعلاَم بالعَلَم الفَرد
وما الظَلُ في ثَغْرٍ منَ الدَّهر ِباسِمٍ بأصْفَى وأذكَى مِن ثَنائِي ومِن وُدِّي
ولا البَدْرُ مَعْصُوباً بتاجِ تَمامِهِ بأبهر من وُدِّي وأسْيَرَ مَنْ حَمْدِي
بَقيتُ ابنَ خَلْدُون إِمامَ هِدايهَ ولا زِلْت من دُنْياك في جَنَةِ الخُلْدِ
ووصَلها بقولة : سَيِّدي علَم الأعلام ، كبير رؤساءِ الإسلام ، مُشرِّف حَمَلة السُّيوِف والأقْلام ، جمال الخَواصّ والظُّهَراء ، أثير الذُّوَل ، خالِصَة المُلُوك ، مُجْتَبَى الْخُلفاء ، نيِّر أفُق العَلاء، أوْحَد الفُضَلاء، قُدْوة العُلَماء، حجَّة البلَغاء .
أبقاكم اللّه
بقاءً جميلاً يَعْقِد لوَاء الفَخْر، وُيعْلىِ منارَ الفَضْل ، ويَرفَع عِمادَ المَجْد، ويوَضِح مَعالم السُّؤدُد ، وُيرسِل أشِعَّة السّعادة ، وُيفِيض أنوارَ الهِداية ، وُيطلق ألسنَة المحامد ، ويَنشُرُ أفُقَ المَعارِف ، وُيعْذِب مَوارِد العِناية وُيمْتِعُ بعُمُر النِّهاية ولا نهايةَ .
بآيّ التَّحِيات أفاتحُك وقدرُك أعلى ، ومَطْلِع فَضْلِكَ أوْضَحُ وأجْلى ؛ إِن قُلْتُ تحيَّةُ كِسرى في السناء وتبّع فأثرك لا يقتفى ولا يتبع، تلك تحية عجماء لا تبينُ ولا تُبين، وزمزمةٌ نافَرَها اللسان العربي المبين، وهذه جهالة جهلاء، لا ينطبق على حروفها الاستعلاء، قد محا رسومها الجفاء، وعلى آثار دمنتها العفاء؛ وإن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد، ولكن أين يقعان مما أريد.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق