إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 24 فبراير 2015

3393 تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون ) من تاريخ العلامة ابن خلدون المجلد السابع من صفحة 503 تاريخ ابن خلدون الرحلة الى المشرق، وولاية القضاء بمصر:


3393

تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
  
من تاريخ العلامة ابن خلدون
   
المجلد السابع

من صفحة 503

تاريخ ابن خلدون


الرحلة الى المشرق، وولاية القضاء بمصر:

ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر. ولعشر ليالٍ من جلوس الملك الظاهر على التخت، واقتعاد كرسى الملك دون أهله بني قلاوون؛ وكنا على ترقب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك، وتمهيده له. وأقمت بالإسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج ولم يقذر عامئذ، فاننقلت إلى القاهرة أول ذي



 القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الحوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطىء بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجه؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نحدث عن هذا البلد، وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال؛ ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا، حاجهم وتاجرهم، بالحديث عنه. سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس، وكبير العلماء بالمغرب؛ أبا عبد الله المغربي، مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة، فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال  من لم يرها لم يعرف عز الإسلام.

وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من الحساب؛ يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب.

وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس، الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر، وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم، سنة ست وخمسين وسبعمائة وسأله عن القاهرة فقال:

أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إن الذي يتخيله الإنسان، فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها، لاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون لذلك.

ولما دخلتها، أقمت أياماً، وانثال علي طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قفة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً؛ فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها.

ثم كان الاتصال بالسلطان، فأبر مقامي اللقاء، وأنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، شأنه 



مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر، اغتباطا بعودي إليه، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه في تخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك بما نصه.

بسم الله الرحمن الرحيم.

عبد الله ووليه أخوه برقوق <…………..>

السلطان الأعظم، المالك الملك الظاهر، السيد الأجل، العالم العادل، المؤيد المجاهد، المرابط المثاغر، المظفر، الشاهنشاه، سيف الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، مولي الاحسان، مملك أصحاب التخوت والأسرة والتيجان، واهب الأقاليم والأقطار، مبيد الطغاة والبغاة والكفار، ملك البحرين، مسلك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، سلطان البسيطة مؤمن الأرض المحيطة، سيد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين، أبو سعيد برقوق ابن الشهيد شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس. خلد الله سلطانه، ونصر



 جيوشه وأعوانه- يخص الحضرة السنية السرية، المظفرة الميمونة، المنصورة المصونة، حضرة السلطان العالم، العادل المؤيد، المجاهد الأوحد، أبي العباس، ذخر الإسلام والمسلمين، عدة الدنيا والدين، قدوة الموحدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول. لا زالت مملكته بقوته عامرة، ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة، ومعدلته تبوئه غرفات العز في الدنيا والآخرة. سلام صفا ورده وضفا برده، وثناء فاح نده، ولاح سعده، ووداد زاد وجده، وجاد جده.

أما بعد حمد الله الذي جعل القلوب أجناداً مجندة، وأسباب الوداد على البعاد مؤكدة، ووسائل المحبة بين الملوك في كل يوم مجددة؛ والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الذي نصره لله بالرعب مسيرة شهر وأيده وأعلى به منار الدين وشئده؛ وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده، صلاة دائمة مؤبده. فإننا نوضح لعلمه الكريم، ان الله- وله الحمد- جعل جبلتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف وأهله، ورفعة شأنه، ونشر أعلامه، ومحبة أهله وخذامه، وتيسير مقاصدهم، وتحقيق أملهم، والإحسان إليهم، والتقرب إلى الله بذلك في السر والعلانية؛ فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، وهداة خلق الله في أرضه؛ لاسيما من رزقه الله الدراية فيما علمه من ذلك، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك، مثل من سطرنا هذه المكاتبة بسببه: المجلس السامي، الشيخي، الأجلي، الكبيرى، العالمي، الفاضلي، الأثيلي، الأثيري، الإمامي، 1لعلامي ا لقدوة،  المقتدي، الفريدى؛ المحققي، الأصيلي، الأوحدي، الماجدي، الولوي، جمال الإسلام والمسلمين، جمال العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة البلغاء، علامة الأمة، إمام الأئمة، مفيد





الطالبين، خالصه الملوك والسلاطين عبد الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته؛ فإنه أولى بالإكرام، وأحرى، وأحق بالرعاية وأجل قدراً؛ وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة، وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية، لا رغبة عن بلاده، بل تحبباً إلينا، وتقرباً إلى خواطرنا، بالجواهر النفيسة، من ذاته الحسنة، وصفاته الجميلة؛ ووجدنا منه فوق ما في النفوس، مما يجل عن الوصف ويُربي على التعداد. ياله من غريب وصف ودار، قد أتى عنكم بكل غريب؛ وما برح- من حين ورد علينا- يبالغ في شكر الحضرة العلية، ومدح صفاتها الجميلة، إلى أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حُبَّها، وآثرنا المُكاتبة إليها

"والعين تعشق قبل الأذن أحياناً"

وذكر لنا في أثناء ذلك، أن أهله وأولاده، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العليّة، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده، ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا، فاقتضت آراؤنا الشريفة، الكتابة إلى الحضرة العليّة لهذين السببين الجميلين؛ وقد آثرنا إعلام الحضرة العليّة بذلك، ليكون على خاطره الكريم، والقصد من محبته، يُقدَّمُ أمرَه العالي بطلب أهل الشيخ وليَّ الدين المشار إليه، وإزاحة أعذارهم، وإزالة عوائقهم، والوصيَّة بهم، وتجهيزهم إليه مُكرَّمين، محترمين، على أجمل الوجوه صُحبة قاصِده الشيخ الصالح، العارف السالك الأوحد، سعد الدين مسعود المكْناسي، الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله؛ ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة العلية، مع تَوصيةَ من بها من البحرية بمضاعفة إِكرام المشار إليهم وَرِعايتهم، والتَّأكيد عليهم في هذا المعنى، وإذا وصَل من بها مَن البحرية، كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفُسهم، ويُرْبي على أملهِم؛ بحيثُ يَهتَمُّ بذلك على ما عُهد من محبَّتِه، وجميل اعتمادِه، مع ما يُتحفُ به من مراسلاته، ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يَحرسُهُ بملائكته وآياته، بِمَنّه ويُمْنِه إن شاء الله.





كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف.الحمد لله وصلواته على سيّدنا محمَّد وآله وصَحبه وسلّم. 

ثم هلك بعضُ المدرَّسين بمدرسة القمحية بمصر، من وَقْف صلاح الدين بن أَيُّوب، فولاَّني تدريسها مكانه، وبَينا أَنا في ذلك، إِذ سَخِط السلطان قاضي المالكية في دولته، لبعض النَّزَعات فعزله، وهو رابعُ أربعة بعدد المذاهب، يُدعى كلُّ منهم قاضي القُضاة، تمييزاً عن الحُكَّام بالنيابة عنهم، لاَّتساع خُطَّة هذا المعْمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفعُ من الخصومات في جوانبه؛ وكبيرُ جماعتهم قاضي الشَّافعية، لِعُموم ولايته في الأعمال شرقاً وغرباً، وبالصَّعيد والفيوم، واستقلاله بالنظر في أموال الأيتام، والوصايا؛ ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديماً بالولاية إنّما كانت تكون له.

فلما غزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة، اختصنى السلطان بهذه الولاية، تأهيلاً لمكاني، وتنويهاً بذكري، وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلاّ إمضاءه؛ وخلع علي بإيوانه، وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقصت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمّود، ووفّيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزغبني عنه جاه ولا سطوة، مسّوياً في ذلك بين الخصمين، آخذاً بحقَّ الضعيف من الحكمين، مُعْرِضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين؛ جانحاً إلى التثّبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل





الشهادات؛ فقد كان البرّ منهم مختلطاً بالفاجر، والطيّب ملتبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة؛ فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنّون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء؛ والتوسّل لهم؛ فاعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفتُ على بعضِها فعاقبت فيه بموجع العِقَاب، ومؤلم النِكال؛ وتأدّى لعلمى الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل الشهادة؛ وكان منهم كتاب الدواوين القضاة، والتوقيع في مجالسهم، قد درّبوا على إملاء الدعاوي، وتسجيل الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها؛ فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويهٌ على القضاة بجاههم، يدّرعون به مما يتوقعونه من مغبتهم، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم؛ وقد يسلّط بعضٌ منهم قَلَمَهُ على العقود المُحْكَمَة، فيُوجِدُ السبيلَ إلى حلّها بوجة فِقهيّ، أو كتابيّ؛ ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاَه أو منحة؛ وخصوصاً في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه؛ فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضةً للبُطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعاً أو تمليكاً شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا فيه سدّ الحظر والمنع حمايةً عن التّلاعب؛ وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر في العقود والأملاك.

فعاملتُ الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم؛ ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الحيرة، لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم؛ وإذا فيهم أصاغر، بيناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون؛ إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها، وتناولوها بالخزاف، وأجازوها من غير مرتّب ولا مستند للأهلية ولا مرشح؛ إذ



 الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقّة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مُرْسَلَ، يتجاذب كل الخصوم منها رَسَناً، ويتناول من حافته شِقّاً، يروم به الفتح على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المُفتي من ذلك ملءَ رضاه، وكَفاءَ أمنيته، متتبعاً إياه في شغب الخلاف؛ فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم؛ والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذَّر، وأهلية المفتي و شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي؛ فلا يكاد هذا المدى ينحسم، ولا الشغب ينقطع. 

فصدعت في ذلك بالحق، وكبحتُ أعنّة أهل الهوى والجَهْل، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب؛ يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك،ولا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب فى فنّ، قد اتخذوا الناس هزواً، وعقدوا المجالس مثلبةً للأعراض، ومأبنه للحرم؛ فارغمهم ذلك مني، وملأهم حسدا وحقداً عليّ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، ليشترون بها الجاه ليجيروا به على الله؛ وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخّصون به الإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرّض لأحكام الله بالجهل؛ فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيتُ حكم الله فيمن أجازوه، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة. وانطلقوا يراطؤن السفهاء من النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك، وقول الزور، ويبثّونه في الناس، ويدسّون إلى السلطان التظلّم مني فلا يصغي إليهم؛ وأَنا في ذلك مُحْتسِبٌ عند الله ما منيت به من هذا الأمر، ومُعْرِضٌ فيه عن الجاهلين، وماضٍ على سبيل سويّ من الصرامة، وقوّة الشكيمة، وتحرّي العدَالة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأعراض متى غمزني لامِسُها؛ ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه مني،  ودعوني إلى تبعهم فيما





يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الآعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذرّت، بناءً على أن الحاكم لا يتعيّن علبه الحكم مع وجود غيره، وهم يعملون أن قد تمالؤا عليه.

وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة، إذا علموا خلافها؛ والنبي  صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك: <<من قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقضي له من النار>>.

فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقّها؛ والوفاء لها ولمن قلّدنيها، فأصبح الجميع علىّ ألبا، ولمن ينأدي بالتأفّف مني عوناً، وفي النكير عليّ أمّة؛ وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحق، لاعتمادي على عِلْمي في الجَرْح، وهي قضية إجماع؛ وانطلقَتِ الألسنُ، وارتفع الصخبُ، وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فتوقفت، وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان؛ وجمع القضاة وأهل الفتياء في مجلس حفل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز، وتبين امرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله إرغاماً لهم، فغدوا على حَرَد قادرين، ودسوا لأولياء السلطان وعظماء الدولة، يقبحون لهم إهمال جاههم، ورد شفاعتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح، وينفقون هذا  الباطل بعظائم ينسبونها إلي، تبعث الحليم، وتغري الرشيد، يستثيرون حفائظهم علي، ويشربونهم البغضاء لي؛ والله مجازيهم وسائلهم.

فكثر الشغب علي من كل جانب، وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشية من نكير السلطان وسخطه؛ فوقفت بين الورْد والصَدْر، وعلى صراط الرجاء واليأس؛ وعن قريب تداركني اللطف الربّاني، وشملتني نعمة السلطان- أيده الله- في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت- كما زعموا- مصطلحها؛ فردها إلى صاحبها الأول، وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد 



الأثر، مشيعاً من الكإفة بالأسف والدعاء وحميد الثناء؛ تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في بالعودة؛ ورَتَعْتُ فيما كنت راتعاً فيه قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته، قانعا بالعافية التي سألها رسول الله من ربه، عاكفاً على تدريس علم، أو قراءة كتاب، أو أعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤمّلاً من الله؛ قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته.



يتبع 

يارب الموضوع يعجبكم 
تسلموا ودمتم بود 
عاشق الوطن 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق