3397
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
من تاريخ العلامة ابن خلدون
المجلد السابع
من صفحة 503
تاريخ ابن خلدون
ولاية الدروس والخوانق :
أهل هذه الدَّولة التركية بمصر والشام مَعنِيُّون - على القِدَم مُنذُ عَهد مَواليهم مُلوك بني أيوب - بإنشاءِ المدارس لتدريس العلم ، والخَوانق لإقامةُ رُسُومِ الفُقراء في التَخلق بآداب الصُّوفية السُّنِّية في مُطارحة الأذكار، ونَوافِل الصَلوات . أخَذُوا ذلك عَمن قَبْلَهم من الدُّول الخِلافِية ؛ فيَخْتَطُّون مَبانِيها ويَقِفُون الأراضِي المُغِلة للإنفاق منها على طلَبَة العِلْم ، ومُتَدَربي الفقراء. وإن استفضَل الريْعُ شَيئاً عن ذلك ، جعلوه في أعقابهم خَوفاً على الذُرية الضِّعاف من العَيْلة . واقْتَدَى بِسُنَّتِهم في ذلك من تَحتَ أيديهم من أهل الرِّياسَة والثَّروة، فكثُرت لذلك المدارسُ والخَوانقُ بمدِينة
القاهرة ، وأصبَحت مَعاشاً للفُقراء من الفُقهاء والصوفية ، وكان ذلك مِن محاسِن هذه الدولة التُركية، وآثارها الجَميلة الخالِدة .
وكنتُ لأول قُدُومي على القاهرة، وحُصولي في كفالَة السلطان ، شَغَرَتْ مَدرسة بِمصْر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب ، وقَفها على المالكية يتدارسَون بها الفِقه ، ووقف عليها أراضي من الفَيُوم تُغِل القمح ، فسُمًيت لذلك القَمْحِيَّة ؛ كما وقَف أُخرَى على الشافعية هنالك ؛ وتُوفي مُدَرّسُها حينئذ، فَولاني السلطانُ تَدْرِيسَها ، وأعقَبه بولاية قضاء المالكية سنةَ ستِ وثمانين وسبعمائة، كما ذكرت ذلك من قَبْل ؛ وحضَرني يومَ جُلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويهاً بذكري ، وعِنايةً من السلطان ومنهم بجانبي ؛ وخطبتُ يومَ جلوسي في ذلك الحفل بخُطبة ألممتُ فيها بذكر القوم بما يُناسِبهم ، وُيوفي حَقَّهم ، ووَصَفْت المَقَام ، وكان نَصُها :
الحمد لله الذي بدأ بالنِّعَم قبل سُؤالها، ووفَّق مَن هَداه للشُكر على مَنَالِها، وجعَل جزاءَ المُحْسِنين في مَحبَّته ، ففازوا بعَظيم نَوالِها. وَعَلمَ الإنسانَ الأسماءَ والبَيان ، وما تم يَعْلَمْ من أمثالِها ، ومَيَّزه بالعَقْل الذي فَضَّله على أصناف الموجُودات وأجْيالها، وهَدَاه لقَبول أمانةِ التَكليف ، وحَمْل أثقالِها . وخَلَق الجنَّ والإنسَ للعِبادة، فَفازَ مِنهُمِ بالسعادة مَنْ جَدَّ في امتثَالها وَيسَّر كلاًّ لما خُلِق لَه ، من هداية نَفْسِه أو إضلالها ؛ وفَرغ ربُّك من خلْقها وخُلقها وأرْزاقها وآجالها . والصَّلاةُ على سَيدنا ومولانا محمد نُكتَةِ الأكوان وجمالها، والحجة البالغة لله على كمالها، الذي رَقَّاه في أطوار الاصْطفاء، وآدم بين الطين والماء؛ فجاء خاتم أنبيائها وأرسالها؛ ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميز حرامها من حلالها؛ ورضي لنا الإسلام ديناً، فأتم علينا النعمة بإكمالها.
والرضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها، وليوث ملاحمه
المشتهرة وأبطالها. وخير أمة أخرجت للناس، في توسطها واعتدالها، و ظهور الهداية والاستقامة في أحوالها، صلى الله عليه وعليهم صلاة تتصل الخيرات باتصالها، وتنال البركات من خلالها.
أما بعد فإن الله سبحانه لما أقر هذه الملة الإسلامية في نصابها، وشفاها من أدوائها واوصابها، وأورث الأرض عباده الصالحين من أيدي غصابها، بعد أن باهلت فارس بتاجها، وعصابها، وخلت الروم إلى تماثيلها وأنصابها؛ وجعل لها من العلماء حفطة وقواما، ونجوما يهتدي بها التابع وأعلاما، يقربونها للدراية تبيانا وإفهاما، ويوسعونها بالتدوين ترتيبا وإحكاما، وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما. ثم اختار لها الملوك يرفعون عمدها، ويقيمون صغاها بإقامة السياسة وأودها، ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها؛ فكان لها بالعلماء الظهور والانتشار، والذكر السيار، والبركات المخلدة والآثار؛ ولها بالملوك العز والفخار، والصولة التي يلين لها الجبار، ويذل لعزة المؤمنين بها الكفار، وتجلل وجوه الشرك معها الصغار؛ ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار، والدول تحتفل والأمصار، والليل يختلف والنهار، حتى أظلت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الترك، الماحين بأنوار أسنتهم ظلم الضلالة والشك، القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك، المصيبين بسهامهم النافذة ثغر الجهالة والشرك، المظهرين سر قوله: "لا تزال طائفة من أمتي " فيما يتناولونه من الأخذ والترك؛ ففسحوا خطة الإسلام، وقاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام، وبثوها في أقصى التخوم من الحجاز والشام، واعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام. واقتعدوا كرسي مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام، على قدم الأيام؛ فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران، وتجاوبت فيها المدارس بترجيع
المثاني والقرآن، وعمرت المساجد بالصلوات والأذان، تكاثر عدد الحصى والشهبان. وقامت المآذن على قدم الاستغفار والسبحان معلنة بشعار الإيمان، وازدان جوها بالقصر والإيوان فالإيوان. ونظم دستها بالعزيز، والظاهر، والأمير، والسلطان. فما شئت من ملك يخفق العز في أعلامه، وتتوقد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنته وسهامه؛ ومن أسرة للعلماء نتناول العلم بوعد الصادق ولو تعلق بأعنان السماء، وتنير سراجه في جوانب الشبه المدلهمة الظلماء؛ ومن قضاة يباهون بالعلم والسؤدد عند الانتماء، ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصماء، ويفصلون الخصومات برأي يفرق بين اللبن والماء.
ولا كدولة السلطان الظاهر، والعزيز القاهر، يعسوب العصائب والجماهر، ومطلع أنواع العز الباهر، ومصرف الكتائب تزري بالبحر الزاخر، وتقوم بالحجة للقسي على الأهلة في المفاخر؛ سيف الله المنتضى على العدو الكافر، ورحمته المتكفلة للعباد باللطف الساتر؛ رب التيجان والأسرة والمنابر، والأواوين العالية والقصور الأزاهر، والملك المؤيد بالبيض البواتر، والرماح الشواجر، والأقلام المرتضعة أحلاف العز في مهود المحابر، والفيض الرباني الذي فاق قدرة القادر، وسبقت به العناية للأواخر. سيد الملوك والسلاطين، كافل امير المؤمنين، أبو سعيد أمده الله بالنصر المصاحب، والسعد المؤازر، وعرفه آثار عنايته في الموارد والمصادر، واراه حسن العاقبة في الأولى وسرور المنقلب في الاخر؛ فإنه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه، وآوى الملك إلى كنفه العزيز وحزمه، أصاب شاكلة الرأي عندما سدد من سهمه، واوقع الرعايا في ظل من أمنه، وعدل من حكمه، وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه؛ ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها، وشدّ
بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها؛ من بين مصرف لعنانها، متقدم القدم على أعيانها، في بساط إيوانها؛ ورب مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها، ولا يذهب الصواب عن مكانها؛ ومنفذ أحكام يشرق الحق في بيانها، ويضوع العدل من أردانها ونجي خلوة في المهم الأعظم من شأنها؛ وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرار، فيشفي الغليل بإعلانها. حفظ الله جميعهم وشمل بالسعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم.
ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحه المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق، وينابيع العلوم والفضائل تمدو شلنا من فراته المغدق؛ أو لوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا بهمتي إيضاحاً، ونكرتي تعريفاً؛ ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف، من حسنات السلطان صلاح الدين أيوب ملك الجلاد والجهاد، وماحي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد، ومطهر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النواقيس والصلبان فيه بمكان العقود من الأجياد. وصاحب الأعمال المتقبلة يسعى نورها بين يديه في يوم التناد؛ فأقامني السلطان- أيده الله- لتدريس العلم بهذا المكان، لا تقدماً على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان؛ وإني موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء؛ وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء، أن يلمحوا بعين الارتضاء، ويتغمدوا بالصفح والاغضاء، والبضاعة بينهم مزجاة، والاعتراف من اللوم- إن شاء الله- منجاة؛ والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في
مدارج القبول أعماله، ويبلغه في الدارين آماله، ويجعل للحسنى والمقر الأسنى، منقلبه ومآله؛ ويُديُم على السادة الأمراء نعمته، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشمل دولتهم ودولته، ويمد قضاة المسلمين وحكامهم بالعون والتسديد، ويمتعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد، بمنِّه وكرمه.
وانفض ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار، وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب؛ وأقمت على الاشتعال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية، فعزله، واستدعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه؛ فتفاديت من ذلك، وأبى إلا إمضاءه. وخلع علي، وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكم في المدرسة الصالحية في رجب ست وثمانين وسبعمائة؛ فقمت في ذلك المقام المحمّود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق، وتحري المعدلة، حتى سخطني من لم تُرْضِه أحكام الله، ووقع من شغب أهل الباطل والمِراء ما تقدم ذكره.
وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس؛ فمنعهم سلطان تونس من اللحاق بي اغتباطاً بمكاني، فرغبت من السلطان أن يشفع عنده في شأنهم، فأجاب، وكتب إليه بالشفاعة؛ فركبوا البحر من تونس في السِّفين؛ فما هو إلا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندرية؛ فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه، وما فيه، وذهب الموجود والمولود؛ فعظم الأسف، واختلط الفكر، وأعفاني السلطان من هذه الوظيفة وأراحني، وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريساً وتأليفاً.
ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته بين القصرين، وجعل فيها مدافن أهله، وعين لي فيها تدريس المالكية، فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التدريس على عادتهم في ذلك ونصها:
"الحمد لله الذي من على عباده، بنعمة خلقه وإيجاده، وصرفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده، وعرفهم أشرار توحيده، في مظاهر وجوده، وآثار لطفه في وقائع
عباده، وعرضهم على أمانة التكاليف ليبلوهم بصادق وعده وإبعاده، ويسر كلا لما خلق له، من هدايته أو إضلاله، وغَيِّه أو رشاده، واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النجدين لصلاحه أو فساده، وعلمه ما لم يكن يعلم، من مدارك سمعه وبصره والبيان عما في فؤاده؛ وجعل منهم أنبياء وملوكاً يجاهدون في الله حق جهاده، ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده؛ ورفع البيوت المقدسة بسبحات الذكر وأوراده.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد سيد البشر من نسل آدم وأولاده، لا. بل سيد الثقلين في العالم من إنسه وجنه وأرواحه و أجساده، لا. بل سيد الملائكة والنبيين، الذي ختم الله، كمالهم بكماله وآمادهم بآماده، الذي شرف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم لنور ولاده؛ وفصل له الذكر الحكيم تفصيلاً، كذلك ليثبت من فؤاده وألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل رب العالمين، ليكون من المنذرين لعباده؛ فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله وجلاده وانزل عليه النصر العزيز، وكانت ملائكة السماء من إمداده، حتى ظهر نور الله على رغم من رغم. بإطفائه وإخماده، وكمل الدين الحنيف فلا تخشى والحمد لله غائلة انقطاعه ولا نفاده؛ ثم أعد له من الكرامات ما أعد في معاده، وفضله بالمقام المحمّود في عرصات القيامة بين أشهاده، وجعل له الشفاعة فيمن انتظم في أمته، واعتصم بمقاده.
والرضى عن آله وأصحابه، غيوث رحمته، ولُيوث إنجاده، من ذوي رحمه
الطاهرة وأهل وداده المتزودين بالتقوى من خير أزواده، والمراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحق وعناده، وأراد في الدين بظلمه وإلحاده، حتى استقام الميسم في دين الله وبلاده، وانتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم، وشعوب الأنام، من عربه وعجمه وفارسه ورومه وتركه وأكراده. صلى الله عليه وعليهم صلاة تؤذن باتصال الخير واعتياده، وتؤهل لاقتناء الثواب وزياده، وسلم كثيراً؛ وعن الأئمة الأربعة، علماء السنة المتبعة، والفئة المجتباة المصطنعة؛ وعن إمامنا من بينهم الذي حمل الشريعة وبينها، وحرر مقاصدها الشريفة وعينها، وتعرض في الآفاق منها والمطالع، بين شهبها اللوامع؛ فزينها. نكتة الهداية إذا حقق مناطها، وشرط التحصيل والدراية إذا روعيت أشراطها، وقصد الركاب إذا ضربت في طلب العلم آباطها؛ عالم المدينة وإمام هذه الأمة الأمينة، ومقبس أنوار النبوة من مشكاتها المبينة، الإمام مالك بن انس. ألحقه الله برضوانه، وعرفنا بركة الاقتداء بهدية وعرفانه؛ وعن سلف المؤمنين والمهتدين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته، ويكفلهم بفضله ونعمته، وييسرهم لأسباب السعادة بآداب دينه وشرعته، و يحملهم في العناية بأمورهم، و الرعاية لجمهورهم، على مناهج سنته ولطائف حكمته. ولذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل وفطرته، وهداهم إلى التمسك بكلمته. ثم فضلهم بما خولهم من سعة الرزق وبسطته واشتقاق التمكين في الأرض من قدرته، فتسابقوا بالخيرات إلى جزائه ومثوبته، وذهبوا بالدرجات العلى في وفور الأجر ومزيته.
وإن مولانا السلطان الملك الظاهر، العزيز القاهر، العادل الطاهر، القائم بأمور الإسلام عندما أعيا حملها الأكتاد، وقطب دائرة الملك الذي أطلع الله من
حاشيته الأبدال وانبت الأوتاد، ومنفق أسواق العز بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد؛ رحمة الله الكافلة للخلق، ويداه المبسوطتان بالأجل والرزق، وظله الواقي للعباد بما اكتنفهم في العدل والحق، قاصم الجبابرة، والمعفي على آثار الأعاظم من القياصرة، وذوي التيجان من التبابعة والأكاسرة، أولي الأقيال والأساورة؛ وحائز قصب السبق في الملوك عند المناضلة والمفاخرة، ومفوض الأمور بإخلاصه إلى ولي الدنيا والآخرة؛ مؤيد كلمة الموحدين، ورافع دعائم الدين، وظهير خلافة المؤمنين، سلطان المسلمين أبو سعيد. صدق الله فيما يقتفي من الله ظنونه، وجعل النصر ظهيره، كما جعل السعد قرينه، والعز خدينه، وكان وليه على القيام بأمور المسلمين ومعينه، وبلغ الأمة في اتصال أيامه، ودوام سلطانه، ما يرجونه من الله ويؤملونه. لما قلده الله هذا الأمر الذي استوى له على كرسي الفلك، وانتظمت عقود الدول في لبات الأيام، وكانت دولته واسطة السلك وجمع له الدين بولاية الحرمين، والدنيا بسلطان الترك. وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال؛ فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ والترك. وجمع عليه قلوب العباد. فشهد سرها بمحبه الله له، شهادة خالصة من الريب، بريئة من الشك. حتى استولى من العز والملك على المقام الذي رضيه وحمده. ثم تاقت نفسه إلى ما عند الله، فصرف قصده إليه واعتمده، وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة، لا يسال عليها أجراً ولا يكدرها بالمنِّة، واحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الإنس والجنة، لا؛ بل النَّسَم والأجنة. ثم آوى الخلق إلى عدله
تصديقاً بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنة، ونافس في اتخاذ المدارس والربط لتعليم الكتاب والسنة، وبناء المساجد المقدسة يبني له بها الله البيوت في الجنة، والله لا يضيع عمل عامل فيما أظهره أو أكنه.
وإن ما أنتجته قرائح همته وعنايته، وأطلعته آفاق عدله وهدايته، ووضحت شواهده على بعد مداه في الفخر وغايته، ونجح مقاصده في الدين وسعايته؛ هذا المصنع الشريف، والهيكل السامي المنيف، الذي راق الكواكب حسنه وظرفه، وأعجز الهمم البشرية ترتيبه ورصفه، لا بل! الكلم السحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة السحب ومناولة الشهب مارِنه العزيز وأنفه، وازدهى بلبوس السعادة والقبول من الله عطفه؛ إن فاخر بلاط الوليد، كان له الفخار أو باهى القصر والإيوان، شهد له المحراب والمنار؛ أو ناظر صنعاء وغمدان، قامت بحجته الآثار. إنما هو بهو ملؤه دين وإسلام، وقصر عليه تحية وسلام، وفضاء رباني ينشأ في جوه للرحمة والسكينة ظلة وغمام، وكوكب شرق يضاحك وجه الشمس منه ثغر بسام؛ دفع إلى تشييد أركانه، ورفع القواعد من بنيانه، سيف دولته الذي استله من قراب ملكه وانتصاه، وسهمه الذي عجم عيدان كنانته فارتضاه، وحسام أمره الذي صقل فرنده بالعز والعزم وأمضاه، فارتضاه، وحسام أمره الذي طالب غريم الأيام، بالأمل العزيز المرام؛ فاستوفى دينه واقتضاه، الأمير الأعزَّ الأعلى جهركس الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع. حرسه الله من خطوب الأيام، وقسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ والسهام؛ فقام بالخطو الوساع، لأمره المطاع، وأغرى بها أيدي الاتقان والابداع. واختصها من اصناف الفعلة بالماهر الصناع، يتناظرون في إجاده الأشكال منها والأوضاع، ويتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم بالامتناع؛ فكأن العبقري، يفري- الفري، أو
العفاريت، قدمت من أماريت. وكأنما حشرت الجن والشياطين، أو نشرت القهارمة من الحكماء الأول والأساطين، جابوا لها الصخر بالأذواد لا بالواد، واستنزلوا صم الأطواد على مطايا الأعواد، ورفعوا سمكها إلى أقصى الآماد، على بعيد المهوى من العماد. وغشوها من الوشي الأزهر، المصاعف الصدف والمرمر، ومائع الفجين الأبيض والذهب الأحمر، بكل مسهم الحواشي حالي الأبراد؛ وقدروه مساجد للصلوات والأذكار، ومقاعد للسبحات بالعشي والإبكار، ومجالس للتلاوة والاستغفار، في الآصال والأسحار، وزوايا للتخلي عن ملاحظة الأسماع والأبصار، والتعرض للفتوح الربانية والأنوار؛ ومدارس لقدح زناد الأفكار، ويتاج المعارف الأبكار، وصوغ اللجين والتضار، في محك القرائح والأبصار. تتفجر ينابيع الحكمة في رياضه وبستانه، وتتفتح أبواب الجنة من غرفه وإيوانه، وتقتاد غر السوابق من العلوم والحقائق، في طلق ميدانه، ويصعد الكلم الطيب والعمل الصالح إلى الله من نواحي اركانه؛ وتوفر الأجور لغاشيته محتسبة عند الله في ديوانه، راجحة في ميزانه.
ثم اختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعياناً، ومن شيوخ الحقائق الصوفية فرساناً؛ تصفح لهم أهل مملكته إنساناً، وأشاد بقدرهم عناية وإحساناً، ودفعهم إلى وظائفه توسعاً في مذاهب الخير وافتناناً. وعهد إليهم برياضة المريدين، وإفادة المستفيدين، احتساباً لله وقرباناً، وتقُّيلا لمذاهب الملوك من قومه واستناناً؛ ثم نظمني معهم تطولا وامتناناً، ونعمة عظمت موقعاً وجفت شاناً؛ وأنا وإن كنت لقصور البضاعة، متأخراً عن الجماعة، ولقعود الهمة، عيالاً على هؤلاء الأئمة، فسمحهم يغطي ويلحف، وبمواهب العفو والتجاوز يمنح ويُتْحف. وإنما هي رحمة من مولانا السلطان- أيده الله- خَصّت كما عفت، ووسمت اغفال النكرة والإهمال وسمَّت؛ وكملت بها مواهب عطفه وجبره وتمت؛ وقد ينتظم الدّر
مع المرجان، وتلتبس العصائب بالتيجان؛ وتراض المسومة العراب على مسابقة الهجان؛ والكل في نظر مولانا السلطان وتصريفه، والأهلية بتأهيله والمعرفة بتعريفه، وقوام الحياة والآمال بلطائف إحسانه وصنوفه؛ والله يوزعنا شكر معروفه، ويوفقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف وتكليفه، ويحمي حماه من غير الدهر و صروفه، ويفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه ورماحه وسيوفه، ويريه قرة العين في نفسه وبنيه، وحاشيته وذويه، وخاصته ولفيفه، بمن الله وفضله.
ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية، القائم للسلطان بأمور مدرسته، وأغروه بصدي عنها، وقطع أسبابي من ولايتها، ولم يمكن السلطان إلا إسعافه فأعرضت عن ذلك، وشغلت بما أنا عليه من التدريس والتأليف.
ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة للحج، واقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف، وزود هو وأمراؤه بما أوسع الحال وارغده؛ وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع؛ ثم صعدت مع المحمل إلى مكة؛ فقضيت الفرض عامئذ. وعدت في البحر؛ فنزلت بساحل القصير؛ ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد، وركبت منها بحر النيل إلى مصر، ولقيت السلطان، وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة، وأعادني إلى ما عهدت من كرامته، وتفيّثىء ظله.
ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني إياها بدلاً من مدرسته وجلست للتدريس فيها في محرم أحد وتسعين وسبعمائة، وقمت ذلك اليوم- على العادة- بخطبة نصها:
" الحمد لله إجلالاً وإعظاماً، واعترافاً بحقوق النعم والتزاماً، واقتباساً للمزيد منها
واغتناماً، وشكراً على الذي أحسن وتماماً، وسع كل شيء رحمة وإنعاماً، وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات واضحة وأعلاماً، وصرف الكائنات في قبضة قدرته ظهوراً وخفاء وإيجاداً وإعداماً، وأعطى كل شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاماً، وأودع مقدور قضائه في مسطور كتابه، فلا يجد محيصاً عنه ولا مراماً.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة الهامية غماماً والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعاً وحطمت أصناماً، والعروة الوثقى، فاز من اتخذها عصاماً، أول النبيين رتبة وآخرهم ختاماً، وسيدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة والرسل إماماً؛ وعلى أله وأصحابه الذين كانوا ركناً لدعوته وسناماً وحرباً على عدوه وسماماً، وصلوا في مظاهرته جداً واعتزاماً، وقطعوا في ذات الله وابتغاء مرضاته أنساباً وأرحاماً، حتى ملأوا الأرض إيماناً وإسلاماً، وأوسعوا الجاحد والمعاند تبكيتاً وإرغاماً فأصبح ثغر الدين بساماً ووجه الكفر والباطل عبوساً جهاماً. صلى الله عليه وعليهم ما عاقب ضياء ظلاماً، صلاة ترجح القبول ميزاناً، وتبوىء عند الله مقاماً.
والرضى عن الأئمة الأربعة، الهداة المتبعة، مصابيج الأمان ومفاتيح السنة الذين أحسنوا بالعلم قياما وكانوا للمتقين إماماً.
أما بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء والطهور، والعز الخالد على الظهور، وانفساح خطته في آفاق المعمور، فلم يزل دولة عظيمة الآثار، غزيرة الأنصار، بعيدة الصيت عالية المقدار جامعة- بمحاسن آدابه وعزة جنابه- معاني الفخار، منفقة بضائع علومه في الأقطار، مفجرة ينابيعها كالبحار، مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق أضوأً من النهار؛ ولا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام ومنابره، وفاخرت بحرمات الله وشعائره واعتمدت بركة الإيمان وأواصره ، في خدمة الحرمين الشريفين- بالمتين من أسباب الدين وأواصره، واعتملت في إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره، وشاهدا بالكمال لأوَّله وآخره.
وإن مولانا السلطان الملك الظاهر، العزيز القاهر، شرف الأوائل والأواخر، ورافع
لواء المعالي والمفاخر، رب التيجان والأسرة والمنابر، والمجلي في ميدان السابقين من الملوك الأكابر، في الزمن الغابر، حامل الأمة بنظره الرشيد ورأيه الظافر، وكافل الرعايا في ظله المديد وعدله الوافر، ومطلع أنوار العز والسعادة من أفقه السافر؛ واسطة السلك من هذا النظام، والتاج المحلى في مفارق الدول والأيام، سيد الملوك والسلاطين، بركة الإسلام والمسلمين، كافل أمير المؤمنين، أبو سعيد. أعلى الله مقامه، وكافأ عن الأمة إحسانه الجزيل وإنعامه، وأطال في السعادة والخيرات المبداة المعادة لياليه وأيامه؛ لما أوسع الدين والملك نظراً جميلاً من عنايته، وأنام الخلق في حجر كفالته، ومهاد كفايته، وأيقظ لتفقد الأمور، وصلاح الخاصة والجمهور، عين كلاءته، كما قلده الله رعايته وأقام حكام الشريعة والسياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته، ويطلعون وجه العدل سافراً عن آيته. ونصب في دست النيابة من وثق بعدله وسياسته، ورضي الدين بحسن إيالته، وأمنه على سلطانه ودولته، وهو الوفي- والحمد لله- بأمانته؛ ثم صرف نظره إلى بيوت الله يعنى بإنشائها وتأسيسها، ويعمل النظر الجميل في إشادتها وتقديسها، ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبث العلم من يؤهله لوظائفها ودروسها؛ فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها، حتى زهت الدولة بملكها ومصرها، وفاخرت الأنام بزمانها الزاهر وعصرها. وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها؛ فابتهج العالم سروراً بمكانها، واهتزت الأكوان للمفاخرة بشأنها، وتكفل الرحمن، لمن اعتز به الإيمان، وصلح على يده الزمان، بوفور المثوبة ورجحانها.
وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء الترك، خفف الله حسابه وثقل في الميزان- يوم يعرض على الرحمن- كتابه، وأعظم جزاءه في هذه الصدقة الجارية وثوابه، عناية جدد لي لباسها، وإيثاراً بالنعمة التي صححت قياسها، وعرفت منه أنواعها وأجناسها، فامتثلت المرسوم، وانطلقت أقيم الرسوم، وأشكر من الله وسلطانه الحظ المقسوم. وأنا مع هذا معترف بالقصور، بين أهل العصور، مستعيذ بالله وبركة هؤلاء الحضور،
السادة الصدور، أن يجمح بي مركب الغرور، أو يلج شيطان الدعوى والزور، في شيء من الأمور. والله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله، ويعرفه الحسنى وزيادة الحظ الأسنى في عاقبته ومآله، ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه قرة عينه ورضى آماله، ويديم على السادة الأمراء ما خولهم من رضاه وإقباله، ويحفظ المسلمين في هذا الأمر السعيد بدوامه واتصاله، ويسدد قضاتهم وحكامهم لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله.
وقد رأيت أن أقرر للقراءه في هذا الدرس، كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، فإنه من أصول السنن، وأمهات الحديث، وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله، ومناط أحكامه، وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه.
فلنفتتح الكلام بالتعريف بمؤلفه- رضي الله عنه- ومكانه من الأمانة والديانة، ومنزلة كتابه "الموطأ" من كتب الحديث. ثم نذكر الروايات والطرق التي وقعت في هذا الكتاب، وكيف اقتصر الناس منها على رواية يحيى بن يحيى، ونذكر أساندي فيها، ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب.
أما الإمام مالك- رضي الله عنه- فهو إمام دار الهجرة، وشيخ أهل الحجاز في الحديث والفقه غير منازع، والمقلد المتبوع لأهل الأمصار وخصوصا أهل المغرب.
قال البخاري: مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي. كنيته أبو عبد الله، حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي ابن أخي طلحة بن عبيد الله. كان إماماً، روى عنه يحيى بن سعيد. انتهى كلام البخاري.
وجده أبو عامر بن الحرث بن عثمان ويقال: غيمان بغين معجمة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة؛ ابن جثيل بجيم مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة؛ ويقال حثيل أوخثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة، عوض الجيم؛ ويقال حسل بحاء مهملة مكسورة، وسين مهملة ساكنة، ابن عمرو بن الحرث؛ وهو ذو أصبح. وذو اصبح بطن من حمير، وهم إخوة يحصب، ونسبهم معروف؛ فهو حميري صليبة، وقرشي حلفا. ولد سنة إحدى وتسعين-
فيما قال ابن بكير، واربع وتسعين- فيما قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ونشأ بالمدينة، وتفقه بها. إخذ عن ربيعة الرأي، وابن شهاب وعن عمه أبي سهيل، وعن جماعة ممن عاصرهم من التابعين وتابعي التابعين؛ وجلس للفتيا والحديث في مسجد رسول الله شاباً يناهز العشرين، وأقام مفتياً بالمدينة ستين سنة. واخذ عنه الجم الغفير من العلماء الأعلام، وارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة؛ وأعظم من أخذ عنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وابن وهب، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وابن المبارك- في أمثال لهم وانظار. وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق من الناقلين لوفاته، وقال الواقدي: عاش مالك تسعين سنة، وقال سحنون عن ابن
نافع: توفي مالك ابن سبع وثمانين سنة، ولم يختلف أهل زمانه في أمانته، وإتقانه، وحفظه وتثبته وورعه، حتى لقد قال سفيان بن عيينة: كنا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله : "تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم اعلم من عالم المدينة" أنه مالك بن أنس.
وقال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم، وقال: إذا جاءك الحديث فمالك أمير المؤمنين.
وقد ألف الناس فضائله كتباً، وشأنه مشهور.
وأما الذي بعثه على تصنيف "الموطأ"- فيما نقل أبو عمر بن عبد البر- فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عمل كتاباً على مثال "الموطأ"، ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة، ولم يذكر فيه شيئاً من الحديث، فأتي به مالك، ووقف عليه وأعجبه، وقال: ما أحسن ما عمل هذا! ولو كنت أنا الذي عملت لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام. وقال غيره: حج أبو جعفر المنصور، ولقيه مالك بالمدينة، فأكرمه وفاوضه. وكان فيما فاوضه: يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وقد شغلتني الخلافة، فصغ أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس
توطئة. قال مالك: فلقد علمني التأليف؛ فكانت هذه وأمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب، فصنفه وسماه "الموطأ" أي المسهل. قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطاءة، أي صار وطيئاً؛ ووطأته توطئة؛ ولا يقال وطيته. ولما شغل بتصنيفه أخذ الناس بالمدينة يومئذ في تصنيف فوطات، فقال لمالك أصحائه: نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه الناس؛ وأتي ببعضها فنظر فيه، ثم طرحه من يده وقال: ليعلمن أن هذا لا يرتفع منه إلا ما أريد به وجه الله؛ فكأنما ألقيت تلك الكتب في الابار، وما سمع لشيء منها بعد ذلك ذكر، وأقبل مالك على تهذيب كتابه وتوطئته؛ فيقال إنه أكمله في أربعين سنة. وتلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها، ومن لدن ضنف إلى هلم. وطال ثناء العلماء في كل عصر عليه، ولم يختلف في ذلك إثنان. قال الشافعي، وعبد الرحمن بن مهدي: ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أنفع، وفي رواية أصح، وفي رواية أكثر صواباً، من "موطأ" مالك. وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت كتاباً ألف في العلم أكثر صواباً من "موطأ" مالك.
وأما الطرق والروايات التي وقعت في هذا الكتاب، فإنه كتبه عن مالك جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية، وقيل موطأ فلان لرواية عنه فمنها موطأ الإمام محمد بن
إدريس الشافعي، ومنها موطأ عبد الله بن وهب، ومنها موطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي، ومنها موطأ مطرف بن عبد الله اليساري نسبة إلى سليمان بن يسار، ومنها موطأ عبد الرحمن بن القاسم رواه عنه سحنون بن سعيد؛ ومنها موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي. رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس وأخذ عنه الفقه والحديث، ورجع بعلم كثير وحديث جم؛ وكان فيما أخذ عنه "الموطأ"، وأدخله الأندلس والمغرب؛ فأكب الناس عليه، واقتصروا على روايته دون ما سواها، وعولوا على نسقها وترتيبها في شرحهم لكتاب "الموطأ" وتفاسيرهم، ويشيرون إلى الرويات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها، فهجرت الروايات الأخرى، وسائر تلك الطرق، ودرست تلك الموطآت إلا موطأ يحيى ابن يحيى، فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقاً وغرباً.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق