3388
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
من تاريخ العلامة ابن خلدون
المجلد السابع
من صفحة 503
تاريخ ابن خلدون
فضل الوزير ابن الخطيب:
وكان الوزير ابن الخطيب آيةً من آيات الله في النظم والنثر، والمعارف والأدب؛
لا يساجل مداه، ولا يهتدى فيها بمثل هداه.
فمما كتب عن سلطانه إلى سلطان تونس جواباً عن كتاب وصل إليه مصحوباً بهدية
من الخيل والرقيق، فراجعهم عنه بما نصه إلى آخره:
الخلافة التي ارتفع في عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مباني فخرها الشائع، وعزها الذائع، على ما أسسه الأسلاف ووجب لحقها الجازم، وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والاكناف؛ فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا
على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض. الأفواف، لما زارها الغمام الوكاف؛ ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحق والإنصاف. خلافة وجهة تعظيمنا إذ توجهت الوجوه ومن نؤثره إذا أهمنا ما نرجوه، ونفديه ونبديه إذا استمنح المحقوب واستدفع المكروه السلطان الكذا بن أبي اسحق ابن السلطان الكذا، أبي يحى بن أبي بكر ابن السلطان الكذا، أبي زكرياء ابن السلطان الكذا، أبي اسحق ابن الأمير الكذا، أبي زكرياء ابن الشيخ الكذا، أبي محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص، أبقاه الله ومقامه مقام إبراهيم رزقاً وأمانا. لا يخض جلب الثمرات إليه وقتاً ولا يعين زماناً؛ وكان على من يتخطف الناس من حوله مؤيداً بالله معانا. معظم.قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقه بالابتدار، المثنى على معاليه المخلدة الاثار، في أصونة النظام والنثار، ثناء الروضة المعطار، على الأمطار، الداعي إلى الله بطول بقائه في عصمة منسدلة الأستار، وعزة ثابتة المركز مستقيمة المدار، وأن يختم له بعد بلوغ غايات الحال، ونهاية الأعمال، بالزلفى وعقبى الدار.
عبد الله الغني بالته أمير المسلمين، محمد بن مولانا أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر.
سلام كريم كما حملت أحاديث الأزهار نسمات الأسحار، وروت ثغور الأقاحي والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلى على منصة الاشتهار، وجه عروس البهار؛ يخص خلافتكم الكريمة النجار، العزيزة الجار ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن قياسها، وجعل الأرواح "أجناداً مجندة"- كما ورد في الخبر- تحن إلى أجناسها، منجد هذه الملة من أوليائه الجلة بمن يروض الآمال بعد شماسها، وييسر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودات في ذاته وابتغاء مرضاته على حين أخلاق لباسها؛ الملك الحق، واصل الأسباب بحوله بعد انتكاث أمراسها ومغني النفوس بطوله، بعد إفلاسها- حمداً يدر أخلاف النعم بعد إبساسها، وينشر رمم الأموال من أرماسها، ويقدس النفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها عند اقتناء الأنوار واقتباسها، فطهر الأرض من أوضارها وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيد الرسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها، الآتي مهيمناً على آثارها، في حين فترتها ومن بعد نصرتها واستيئاسها، مرغم الضراغم في أخياسها، بعد افترارها وافتراسها، ومعفر أجرام الأصنام وفصمت أجراسها.
والرضا عن آله وأصحابه وعترته وأحزابه، حماة شرعته البيضاء وحراسها، وملقحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام مراسها، ورهبان الدجى تتكفل مناجاة السميع العليم، في وحشة الليل البهيم بإيناسها، وتفاوح نسيم الأسحار، عند الإستغار، بطيب أنفاسها.
والدعاء لخلافتكم العلية المستنصرية بالصنائع التي تشعشع أيدي العزة القعساء
من أكواسها، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها، وأنباء الفتوح، المؤيدة بالملائكة والروح، ريحان جلاسها وآيات المفاخر التي ترك الأول للآخر، مكتتبة الأسطار بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وبأسها، والعز والعدل منسوبين لفسطاطها وقسطاسها، وصفيحة النصر العزيز تقبض كفها، المؤيدة بالته، على رياسها، عند اهتياج أضدادها، وشره أنكاسها، لانتهاب البلاد وانتهاسها وهبوب رياح رياحها وتمرد مرداسها.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من كتائب نصره أمداداً تذعن أعناق الأنام، لطاعة ملككم المنصور الأعلام، عند إحساسها، وآتاكم من آيات العنايات، آية تضرب الصخرة الصماء، ممن عصاها بعصاها، فتبادر بانبجاسها،- من
حمراء غرناطة، حرسها الله، وأيام الإسلام، بعناية الملك العلام تحتفل وفود الملائكة الكرام، لولائمها وأعراسها، وطواعين الطعان، في عدو الدين المعان، تجدد عهدها بعام عمواسها.
والحمد لله حمداً معاداً يقيد شوارد النعم، ويستدر مواهب الجود والكرم ويؤمن من انتكاث الجدود وانتكاسها، ولي الامال ومكاسها؛ وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها، زهو الرياض بوردها وآسها، وتستمد أضواء الفضائل من مقباسها، وتروي رواة الإفادة، والإجادة غريب الوجادة، عن ضحاكها وعباسها. وإلى هذا اعلى الله معارج قدركم، وقد فعل، وأنطق بحجج فخركم من احتفى وانتعل، فإنه وصلنا كتابكم الذي حسبناه، على صنائع الله لنا، تميمة لا تلقع بعدها عين، وجعلناه – على حلل مواهبه- قلادةً لا يحتاج معها زين، ودعوناه من جيب الكنانة آيةً بيضاء الكتابة، لم يبق معها شك ولا مين، وقرأنا منه وثيقة ودً هضم فيها عن غريم الزمان دين، ورأينا منه إنشاءً، خدم اليراع بين يديه وشاءً، واحتزم بهميان عقدته مشاءً، وسئل عن معانيه الإختراع فقال: (إنا انشأناهن إنشاءً)؛ فأهلاً به من عربي أبيً يصف السانح والبانة، ويبين فيحسن الإبانة، أدى الأمانة، وسئل عن حيه فانتمى إلى كنانة، وافصح وهو لا ينبس، وتهللت قسماته وليل حبره يعبس؛ وكأن خاتمه المقفل على صوانه، المتحف بباكر الورد في غير اوانه، رعف من مسك عنوانه؛ ولله من قلم دبج تلك الحلل، ونقع بمجاج الدواة المستمدة من عين الحياة الغلل؛ فلقد تخارق في الجود، مقتدياً بالخلافة التي خلد فخرها في الوجود، فجاد بسر البيان ولبابه، وسمح في سبيل الكرم حتى بماء شبابه، وجمع لفرط بشاشته وفهامته، بند شهادة السيف بشهامته، فمشى من الترحيب، في الطرس الرحيب، على أم هامته.
وأكرم به من حكيم، أفصح بملغوز الإكسير، في اللفظ اليسير، وشرح بلسان الخبير، سر صناعة التدبير، كأنما خدم الملكة الساحرة بتلك البلاد، قبل اشتجار الجلاد، فآثرته بالطارف من سحرها والتلاد، أو عثر بالمعلقة، وتيك القديمة المطلقة، بدفينة دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني
الحنايا، قبل أن تقطع به عن أمانيه المنايا، ببديعة، أو خلف جرجير الروم، قبل منازلة القروم، على وديعة، أو أسلمه ابن أبي سرح، في نشب للفتح وسرح، أو حتم له روح بن حاتم ببلوغ المطلب، أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب، أو خصه زيادة الله بمزيد، أو شارك الشيعة في أمر أبي يزيد، أو سار على منهاج، في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كل هاج. وأعجب به، وقد عزز منه مثنى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع، واسترقاق الطباع، بين مثانٍ للإبداع ومثالث، كيف اقتدر على هذا المحيد، وناصح مع التثليث فقام التوحيد؛ نستغفر الله ولي العون، على الصمت والصون، فالقلم هو الموحد قبل الكون، والمتصف من صفات السادة، أولي العبادة، بضمور الجسم
وصفرة اللون؛ إنما هي كرامة فاروقية، واثارة من حديث سارية وبقية؛ سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب، عن كريم جناب؛ وإصابة السهم لسواه محسوبة، وإلى الرامي الذي سدده منسوبة؛ ولا تنكر على الغمام بارقة، ولا على المتحققين بمقام التوحيد كرامةً خارقة، فما شاءه الفضل من غرائب بر وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشكر فيها وسجد؛ حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع من مهبها، واستزارت غمائم الطباع من مصبها، فآتت أكلها مرتين بإذن ربها؛ لا. بل كتيبة عزً طاعنت بقنا الألفات سطورها، فلا يرومها النقد ولا يطورها، ونزعت عن قسي النونات خطوطها، واصطفت من بياض الطرس، وسواد النقس، بلق تحوطها.
فما كأس المدير، على الغدير، بين الخورنق والسدير، تقامر بنرد الحباب، عقول
ذوي الألباب، وتغم ق كسرى في العباب، وتهدي،- وهي الشمطاء- نشاط الشباب؛ وقد اسرج ابن سريج وألجم، وافصح
الغريض بعد ما جمجم، وأعرب التاي الأعجم، ووقع معبد بالقضيب، وشرعت في حساب العقد بنان الكف الخضيب؛ وكأن الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثقيل بثانية، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه، المراود تشرع في الوشي، أو العناكب تسرع في المشي؛ وما المخبر بنيل الرغائب، أو قدوم الحبيب الغائب؛ لا. بل إشارة البشير، بكم المشير، على العشير، بأجلب للسرور، من زائره المتلقى بالبرور، وادعى للحبور، من سفيره المبهج السفور؛ فلم نر مثله من كتيبة كتاب تجنب الجرد، تمرح في الأرسان، وتتشوف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهز معاطف الارتياح، من صهيلها الصراح، بالنغمات الحسان؛ إذا أوجست الصريخ نازعت أفناء الأعنة، وكاثرت بأسنة آذانها مشرعة الأسنة؛ فإن ادعى الظليم أشكالها فهو ظالم، أو نازعها الظبي هواديها واكفالها فهو هاذٍ أو حالم، وإن سئل الأصمعي عن عيوب الغرر والأوضاح، قال مشيراً إلى وجوهها الصباح:
"جلدة بين العين والأنف سالم "
من كل عبل الشوى، مسابق للنجم إذا هوى، سامي التليل، عريض ما تحت الشليل، ممسوحة أعطافه بمنديل النسيم البليل.
من أحمر كالمدام، تجلى على الندام، عقب الفدام، أتحف لونه بالورد، في زمن
البرد، وحبي أفق محياه بكوكب السعد، وتشوف الواصفون إلى عذ محاسنه فأعيت على العد؛ بحر يساجل البحر عند المد، وريح تباري الريح عند الشد، بالذراع الأشد؛ حكم له مدير فلك الكفل باعتدال فصل القد، وميزه قدره المميز عند الاستباق، بقصب السباق، عند اعتبار الحد، وولد مختط غرته أشكال الجمال، على الكمال، بين البياض والحمرة ونقاء الخد؛ وحفظ الخلق الوجيه، عن جده الوجيه، ولا تنكر الرواية على الحافظ ابن الجد.
وأشقر، أبى الخلق، والوجه الطلق أن يحقر، كأنما صيغ من العسجد، وطرف بالدر وأنعل بالزبرجد، ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة، واختص بفلج الخصام، عند اشتجار المعركة، وانفرد بمضاعف السهام، المنكسرة على الهام، فم الفرائض المشتركة؛ واتصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطبع من أصناف الحركة، أصغى إلى السماء بأذن ملهم؛ وأغرى لسان الصهيل- عند التباس معاني الهمز والتسهيل- ببيان المبهم؛ وفتنت العيون من ذهب جسمه، ولجين نجمه، بالدينار والدرهم؛ فإن انقض فرجم، أو ريح لها حجم، وإن اعترض فشفق لاح به للنجم نجم.
وأصفر قيد الأوابد الحرة، وأمسك المحاسن وأطلق الغرة؛ وسئل من أنت في قواد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب؟ فقال: أنا المهلب بن أبي صفرة؛ نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحثى به وجوه الحرب العوان؛ أغار بنخوة الصائل، على معصفرات الأصائل، فارتداها، وعمد إلى خيوط شعاع الشمس، عند جانحة الأمس، فألحم منها حفته وأسداها، واستعدت عليه تلك المحاسن فما أعداها؛ فهو أصيل تمسك بذيل الليل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من القتام ليله، فيحسده فرقد الأفق وسهيله.
وأشهب تغشى من لونه مفاضة، وتسربل منه لأمةً فضفاضة، قد احتفل زينه، لما
رقم بالنبال لجينه، فهو الأشمط، الذي حقه لا يغمط، والذارع المسارع، والأعزل الذارع، وراقي الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع. وأكرم به من مرتاض سالك، ومجتهد على غايات السابقين الأولين متهالك، وأشهب يروي من الخليفة، ذي الشيم المنيفة، عن مالك.
وحباري كلما سابق وبارى، استعار جناح الحبارى؛ فإذا أعملت الحسبة، قيل من هنا جاءت النسبة، طرد النمر، لما عظم أمره وامر، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزه الفروة ملطخةً بدمه؛ وكأن مضاعف الورد نثر عليه من طبقه، أو الفلك، لما ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه.
وقرطاسيٍ حقه لا يجهل، "متى ما ترقى العين فيه تسفل "؛ إن نزع عنه جله، فهو نجم كله؛ انفرد بمادة الألوان، قبل أن تشوبها يد الأكوان، أو تمزجها اقلام الملوان؛ يتقدم الكتيبة منه لواء ناصع، أو أبيض مناصع؛ لبس وقار المشيب، في ريعان العمر القشيب، وانصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب؛ وإن تعتب منه للتأخير متعتب، قلنا: الواو لا ترتب، ما بين فحل وحرة، وبهرمانةٍ ودرة؛ ويا لله
من ابتسام غزة، ووضوح يمنن في طرة، وبهجة للعين وقرة؛ وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصوا الحديث بفري الأديم، واوجب المتعصب، وإن أبى المنصب، مرتبة التقديم، وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقورن المثري بالعديم، وبخس في شوق الكسد الكيل، ودجا الليل، وظهر في فلك الإنصاف الميل، لما تذوكرت الخيل؛ فجيء بالوجيه والخطار، والذائد وذي الخمار، وداحس والسكب، والأبجر وزاد الركب، والجموح واليحمّوم، والكميت ومكتوم، والأعوج وحلوان، ولاحق والغضبان، وعفزر والزعفران والمحبر واللعاب، والأغر والغراب، وشعلة والعقاب، والفياض واليعبوب، والمذهب واليعسوب، والصموت والقطيب، وهيدب والصبيب، وأهلوب وهداج،
والحرون وخراج، وعلوى والجناح، والأحوى ومجاح، والعصا والنعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وخوصاء والعرادة؛ فكم بين الشاهد والغائب، والفروض والرغائب، وفرق ما بين الأثر والعيان، غني عن البيان؛ وشتان بين الضريح والمشتبه؛ ولله درالقائل:
"خذ ما شراه ودع شيئاً سمعت به "
والناسخ يختلف به الحكم، وشر الدواب عند التفضيل بين هذه الدواب الضم البكم، إلا ما ركبه نبي، أو كان له يوم الافتخار برهان خفي ومفضل ما سمع على ما رأى غبي؛ فلو أنصفت محاسنها التي وصفت، لأقضمت حب القلوب علفا، وأوردت ماء الشبيبة نطفاً؛ واتخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشية، وعللت بصفير ألحان القيان كل عشية؛ وأنعلت بالأهلة، وغطيت بالرياض بدل الأجلة.
إلى الرقيق، الخليق بالحسن الحقيق، يسوقه إلى مثوى الرعاية روقة الفتيان رعاته، ويهدي عقيقها من سبجه أشكالاً تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقفت ناظر الاستحسان لا يريم، لما بهره منظرها الوسيم، وتخامل
الظليم، وتضاؤل الريم وأخرس مفوه اللسان، وهو بملكات البيان، الحفيظ العليم؛ وناب لسان الحال، عن لسان المقال، عند الاعتقال، فقال يخاطب المقام الذي اطلعت أزهارها غمائم جوده، واقتضت اختيارها بركات وجوده: لو علمنا أيها الملك الأصيل، اللأي كرم منه الإجمال والتفضيل، أن الثناء يوازيها، لكلنا لك بكيلك، أو الشكر يعادلها ويجازيها، لتعرضنا بالوشل إلى نيل نيلك، أو قلنا هي التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر بقوله: "أدرك بخيلك "، حين شرق بدمعه الشرق، وانهزم الجمع واستولى الفرق، واتسع فيه – والحكم لله- الخرق ورأى إن مقام التوحيد بالمظاهرة على التثليث، وحزبه الخبيث، الأولى والأحق.
والآن قد أغنى الله بتلك النية، عن اتخاذ الطوال الردينية، وبالدعاء من تلك المثابة الدينية إلى رب البنية، عن الأمداد السنية والأجواد تخوض بحر الماء إلى بحر المنية، وعن الجرد العربية، في مقاود الليوث الأبية؛ وجدد برسم هذه الهدية، مراسيم العهود الودية، والذمم الموحدية، لتكون علامة على الأصل، ومكذبة لدعوى الوقف والفصل، وإشعاراً بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل، ولأمها حراماً على النصل.
وحضر بين يدينا رسولكم، فقرر من فضلكم ما لا ينكره من عرف علو مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم؛ واجبناه عنه بجهد ما كنا
لنقنع من جناه المهتصر، بالمقتضب المختصر، ولا لنقابل طول طوله بالقصر، لولا طرو الحصر. وقد كان بين الأسلاف- رحمة الله عليهم ورضوانه- ود أبرمت من اجل الله معاقده، ووثرت للخلوص، الجلي النصوص، مضاجعه القارة ومراقده، وتعاهد بالجميل يوجع لفقده فاقد، أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده؛ فنحن الآن لا ندري أفي مكارمكم نذكر، أو أفي فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي في الحقيقة عندنا فتح، أم هديتكم، وفي وصفها للأقلام سبح، ولعدو الإسلام بحكمة حكمتها كبح، إنما نكل الشكر لمن يوفي جزاء الأعمال البرة، ولا يبخس مثقال الذرة ولا ادنى من مثقال الذرة، ذي الرحمة الثرة، والألطاف المتصلة المستمرة، لا إله إلا هو.
وإن تشوفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر الواهية- بقدرة الله- الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها؛ وهو أننا لما أعادنا من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرر على من قبلنا وعلينا- أن الدنيا- وإن غر الغرور وأنام على سرر الغفلة السرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب والمرور-
جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يحبر، إنما هو خبر يخبر؛ وأن الحسرة بمقدار ما على تركه يجبر، وأن الأعمار أحلام، وأن الناس نيام؛ وربما رحل الراحل عن الخان، وقد جلله بالأذى والدخان، أو ترك به طيباً، وثناء يقوم بعد للآتي خطيباً، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا، والتفقد للثغور مسواكا، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} من حجج الاستشهاد؛ وبادرنا رمق الحصون المضاعة وجنح التقية دامس، وعواريها لا ترد يد لامس، وساكنها بائس، والأعصم في شعفاتها من العصمة يائس؛ فزينا ببيض الشرفات ثناياها، وافعمنا بالعذب الفرات ركاياها وغشينا بالصفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفي الأجور ثوابها، وبيضنا بناصع الكلس أثوابها؛ فهي اليوم توهم حس العيان، أنها قطع من بيض العنان، وتكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفلة للمؤمنين من فزع الدنيا والآخرة بالأمان؛ وأقرضنا الله قرضا، واوسعنا مدونة الجيش عرضا، وفرضنا إنصافه مع الأهلة فرضا؛ واستندنا من التوكل على الله الغني الحميد إلى ظل لواء، ونبذنا إلى الطاغية
عهده على سواء وقلنا: ربنا أنت العزيز، وكل جبار لعزك ذليل، وحزبك هو الكثير، وما سواه قليل؛ أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض علينا مدارع الصابرين، واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظافرين، وثبت أقدمنا وانصرنا على القوم الكافرين.
فتحركنا أول الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خف من الحشود، واقتصار على ما بحضرتنا من العساكر المظفرة والجنود، إلى حصن آشر البازي المطل، وركاب العدو الضال المضل، ومهدي نفثات الصل، على امتناعه وارتفاعه، وسمو يفاعه، وما بذل العدو فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده؛ فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة، وجلامده الملمومة وأحجاره، حتى فرعنا- بحول من لا حول ولا قوة الا به- أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن البلاد والعباد أضراره، بعد أن استضفنا إليه حصن السهلة جاره؛ ورحلنا عنه بعد أن شحناه رابطة وحامية، وأزوادا نامية، وعملنا بيدنا في رم ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسابقة الرجال، واقتدينا بنبينا- صلوات الله عليه وسلامه- في الخندق لما حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول حديثة والارتجال؛ وما كان ليقر للإسلام مع تركه القرار، وقد كثب الجوار،
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق