إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 28 سبتمبر 2014

1458 موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية في اليهودية الباب السادس: اليهودية الحاخامية (التلمودية) التلمــود: تاريــخ Talmud: History


1458

موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية

للدكتور عبد الوهاب المسيري

المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق

الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية في اليهودية

الباب السادس: اليهودية الحاخامية (التلمودية)

التلمــود: تاريــخ

Talmud: History

«التلمود» كلمة مشتقة من الجذر العبري «لامد» الذي يعني الدراسة والتعلم كما في عبارة «تلمود توراه»، أي «دراسة الشريعة». ويعود كل من كلمة «تلمود» العبرية وكلمة «تلميذ» العربية إلى أصل سامي واحد. والتلمود من أهم الكتب الدينية عند اليهود، وهو الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية، أي تفسير الحاخامات للشريعة المكتوبة (التوراة). ويخلع التلمود القداسة على نفسه باعتبار أن كلمات علماء التلمود كان يوحي بها الروح القدس نفسه (روح هقودش) باعتبار أن الشريعة الشفوية مساوية في المنزلة للشريعة المكتوبة. والتلمود مُصنَّف للأحكام الشرعية أو مجموعة القوانين الفقهية اليهودية، وسجل للمناقشات التي دارت في الحلقات التلمودية الفقهية اليهودية حول المواضيع القانونية (هالاخاه) والوعظية (أجاداه). وقد أصبح التلمود مرادفاً للتعليم القائم على أساس الشريعة الشفوية (السماعية). ومن هنا، يطلق المسعودي (المؤرخ العربي الإسلامي) على سعيد بن يوسف اسم «السمعاتي» (مقابل «القرائي» أو من يرفض التراث السماعي ويحصر اهتمامه في قراءة التوراة المكتوبة).

وتتضح الخاصية الجيولوجية اليهودية في التلمود، فهو يضم داخله وجهات نظر شتى متناقضة تماماً، فهو عبارة عن موسوعة تتضمن الدين والشريعة والتأملات الميتافيزيقية والتاريخ والآداب والعلوم الطبيعية. كما يتضمن، علاوة على ذلك، فصولاً في الزراعة وفلاحة البساتين والصناعة والمهن والتجارة والربا والضرائب وقوانين الملكية والرق والميراث وأسرار الأعداد والفلك والتنجيم والقصص الشعبي، بل ويغطي مختلف جوانب حياة اليهودي الخاصة، أي أنه كتاب جامع مانع بشكل لا يكاد يدع للفرد اليهودي حرية الاختيار في أي وجه من وجوه النشاط في حياته العامة أو الخاصة، إن هو أراد تطبيق ما جاء فيه. ويشيرون إلى التلمود بعبارة «كلُّ بو» (أي: كلٌّ به)، فهو يشتمل على كل ما يَعنُّ لليهودي أن يسأل عنه من شريعة دينه.

والواقع أن التلمود ليس من الكتب الباطنية أو تلك التي تحيط بها هالة من السرية والغرابة والإخفاء (كما يتوهم البعض). وهناك نسخ منه في معظم المكتبات الجامعية المتخصصة في الولايات المتحدة وفي بعض مكتبات مراكز البحوث أو الجامعات في الدول العربية. ويُلاحَظ أن التلمود كتاب ضخم متعدِّد الأجزاء، مجلداته كثيرة وضخمة تصل في بعض الطبعات إلى ما يزيد على عشرين مجلداً. لكن هناك طبعة «إفري مانز تلمود Everyman's Talmud» المختصرة.

وهناك تلمودان:

1 ـ التلمودالفلسطيني: وينسبه اليهود خطأً إلى أورشليم (القدس) فيقولون «الأورشليمي»، ذلك مع أن القدس خلت من المدارس الدينية بعد هدم الهيكل الثاني، وانتقل الحاخامات إلى إنشاء مدارسهم في يفنه وصفورية وطبرية. كما أطلق يهود العراق على التلمود الفلسطيني اسم «تلمود أرض يسرائيل»، وأطلقوا عليه أحياناً اسم «تلمود أهل الغرب» نظراً لوقوع فلسطين إلى الغرب من العراق.

2 ـ التلمود البابلي: وهو نتاج الحلقات التلمودية (أكاديمية - يشيفا) في العراق (بابل)، وأشهرها سورا ونهاردعه وبومبديثا. ويُعرَف هذا التلمود في حالات نادرة جداً باسم «تلمود أهل الشرق».

وكلا التلمودين مُكوَّن من المشناه والجماراه. والمشناه في كل منهما واحد لا اختلاف بينهما، أما الجماراه فاثنتان: إحداهما وُضعت في فلسطين، والأخرى في العراق. ولما كانت الجماراه البابلية أكمل وأشمل من الجماراه الفلسطينية، فإن التلمود البابلي هو الأكثر تداولاً، وهو الكتاب القياسي عند اليهود. ولذا، فحين يُستخدَم لفظ «التلمود» بمفرده، محلَّى بأداة التعريف، فإن المقصود به هو التلمود البابلي دون سواه، وذلك على أساس الميزة والأفضلية والتفوق. وفي الكتابات العلمية، يشير اللفظ إلى الجماراه وحدها. ويضاف عادةً تعليق راشي على التلمود عند طبعه، وإن كان هذا التعليق لا يُعَدُّ جزءاً منه. ويبلغ عدد كلمات التلمود البابلي مليونين ونصف مليون كلمة في نسخته الأصلية (تشكل الأجاداه 30% منها)، وعلى هذا فإن حجمه يبلغ ثلاثة أضعاف حجم التلمود الفلسطيني. وقد كُتب التلمود بأكثر من لغة، فالمشناه كُتبت بعبرية خاصة تُسمَّى عبرية المشناه، أما الجماراه فكُتبت بالآرامية (كُتبت الجماراه الفلسطينية باللهجة الآرامية الغربية، أما الجماراه البابلية فكُتبت باللهجة الآرامية الشرقية). وتتسم الشروح الواردة في التلمود الفلسطيني بأنها أقصر وأكثر حرفية وقرباً من النص.

ويُلاحَظ أن بعض المفاهيم القانونية في التلمود البابلي تعكس أثر القانون الفارسي. كما أن التلمودين مختلفان في بعض المواطن، فيُلاحظ مثلاً أن الموقف من الوثنيين في التلمود البابلي أكثر تسامحاً لأن وضع اليهود في بابل كان جيداً، فقد جاء في التلمود البابلي أن الأغيار خارج فلسطين لا يمكن اعتبارهم من الوثنيين. وبينما يُحرِّم التلمود الفلسطيني بيع أية سلع للوثنيين في الأيام الثلاثة التي تسبق أي عيد وثني، فإن علماء بابل حرموا البيع في أيام العيد الوثني وحسب.

ومن أهم التطورات التي دخلت الشريعة اليهودية ما جاء في التلمود البابلي من أن: «شريعة الدولة هي شريعتنا»، بل قد ورد في التلمود البابلي دعاء خاص يُتلى أمام ملوك الأغيار ويطلب لهم البركة، نصه: "مبارك هو الذي منح مخلوقاته شيئاً من جلاله".

وتعود الآراء والفتاوى التي وردت في التلمود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وقد بدأت عملية جمعها وتدوينها مع القرن الثاني الميلادي، واستمرت عملية التفسير والتدوين حتى القرن السادس. وبعد اكتمال نـص التلمود، اسـتمرت الإضافات والتعـليقات، حتى القرن التاسع عشر، حين أضاف إلياهو )فقيه فلنا) تعليقاته. ويمكن تلخيص ظهور التلمود وتطوُّره على النحو التالي:

السنة / الإضافات والتعليقات

400 - 100 ق.م / الكتبة (سوفريم) يكتبون كتب المدراش بالعبرية.

150 ق.م - 30 م / الأزواج (زوجوت).

100 ق.م - 70 م / الفريسيون دعاة الشريعة الشفوية.

70 - 200 / معلموا المشناه (التنائيم)، يهودا الناسي يجمع أقوال العلماء الدينيين السابقين في المشناه المكتوبة بالعبرية.


200 - 400 / الشراح (أمورائيم) الجماراه الفلسطينية بالآرامية، وقليل من العبرية.

200 - 500 / الشراح (أمورائيم) الجماراه البابلية بالآرامية وقليل من العبرية.

500 - 700 / المفسرون (صبورائيم) تدوين المشناه والجماراه. وبذا يكون قد انتهى تدوين التلمود، وتبدأ مرحلة التعليقات.

700 - 1000 / الفقهاء (جاءونيم) في بابل ينشرون التعاليم التلمودية.

1000 / تعليقات راشي (1040 - 1105)، وتعليقات الشراح الإضافيين (توسافوت) - أهم التعليقات بالعبرية.

1200 / موسى بن ميمون (1135 - 1204) يؤلف مشنيه توراه (تثنية الشريعة).

1300 / يعقوب بن آشر يؤلف سفر هاطوريم (كتاب الصفوف).

1600 / جوزيف كارو (1488 -1575) يؤلف الشولحان عاروخ (المائدة المصفوفة) عام 1564 ، ويشير إلى أن الإيمان بالقبالاه فرض ديني.

1850 / إلياهو (فقيه فلنا) يضيف تعليقاته.

ويتكون التلمود من عنصرين؛ فهناك العنصر الشرعي والقانوني (هالاخي) الذي يُذكِّرنا بأحكام الفرائض والتشريعات الواردة في أسفار الخروج واللاويين والتثنية، وهناك العنصر القصصي والروائي والأسطوري (أجادي) بما يشمله من الأقوال المأثورة (والأخبار والخرافات والشطحات والخيال) إلى جانب السحر والتراث الشعبي. ومعظم المشناه تشريع (هالاخاه)، بينما معظم الجماراه قصص وأساطير (أجاداه). ويُلاحَظ أن التفسير يستمد أهميته وثقله من مدى قدمه، فالأقدم أكثر ثقةً وأهمية من الأحدث.

ويشكل التلمود، بسبب ضخامته وطريقة تصنيفه، صعوبة غير عادية في محاولة استخدامه والاستفادة منه. ومن هنا، بدأت جهود تصنيفه بعد الانتهاء منه. وقد كانت أولى هذه المحاولات هي هالاخوت بيسكوت (القوانين المقررة) التي تُنسَب إلى يهوداي جاءون، والقوانين العظمى التي كتبها سيمون كيارا، وكلا العملين يلخصان المادة التلمودية المتعلقة بالشـرائع. وظهـرت عـدة مصـنفات أخرى في القرن الحادي عشر، وخصوصاً في العالم العربي، في شمال أفريقيا وأوربا وأهمها:

1 ـ مشنيه توراه، أي «تثنية التوراة» أو «إعادة الشريعة» التي كتبها موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر. وهي من أهم الأعمال التي صدرت في هذا الحقل. ويختلف منهجه عن التلمود في أنه لا يكتفي بالعرض دون ترجيح. وهو لا يجمع روايات ولا يخوض غمار المناقشات بل نجده يفصل في الأمور حكماً فاصلاً. وقد اتبع ابن ميمون مبدأ عقلانياً، فأقصى عن مادته جميع القواعد الشعبية التي كانت في منزلة الشريعة في زمن التلمود والتي ترجع جذورها إلى الخرافات الشائعة. والموقف الأساسي لديه يتلخص في القول بأن الشريعة والشعائر وُجدت من أجل الإنسان وليس العكس. وقد أعاد موسى بن ميمون توزيع السداريم الستة إلى أربعة عشر كتاباً يُسمَّى الواحد منها «السفر». وقد اشتهر كتابه باسم «يد حزقاه» (أي «اليد القوية») لأن الياء تساوي عشرة والدال تساوي أربعة في حساب الجمل، وفي ذلك ما يرمز إلى الأربعة عشر جزءاً التي يتألف منها الكتاب.

2 ـ وقد أثّر مصنف ابن ميمون في المصنفات التي جاءت بعده. ويظهر هذا في كتاب سـفر هاطوريم، أو كتاب الصفوف الذي وضعه يعقوب بن آشر في الأندلس في القرن الرابع عشر حيث اعتمد على تثنية التوراة في تنسيق الأحكام الشرعية وثيقة الصلة بالحياة العملية، وحذف تلك الشرائع التي أصبحت بالية منذ هدم الهيكل.

3 ـ الشولحان عاروخ. وقد وضعه جوزيف كارو في القرن السادس عشر، وقد اتبع تقسيم سفر هاطوريم، وهو آخر التصنيفات وأصبح أهمها، وخصوصاً بعد أن قام موسى إيسيرلز (موشى يسرائيليتش) بإضافة شروحه. ويُعَدُّ الشولحان عاروخ المستودع الأساسي للأفكار والقيم الحاكمة في اليهودية الحاخامية أو التلمودية.

وقد ظل التلمود مجهولاً تقريباً في أوربا المسيحية، ولم يكتشفه المسيحيون إلا في أواسط القرن الثالث عشر، وذلك عن طريق اليهود المتنصرين. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح التلمود محط سخط السلطات الدينية لأنها كانت تراه كتاب خرافات مسئولاً عن عدم اعتناق اليهود المسيحية، كما كانت ترى أنه يحتوي على ملاحظات مهينة ضد المسيحية كعقيدة، وضد شخص المسيح. ومما يذكره التلمود عن المسيح أنه كان يهودياً كافراً، وأن تعاليمه كفرٌ بيِّن، وأن المسيحيين كَفَرة مثله، وأن أمه حملت به سـفاحاً من جنـدي رومـاني يُدعى بندارا. ويضم التلمود، فضلاً عن ذلك، أجزاء عن محاكمة المسيح في السنهدرين، ويُقر بأن اليهود هم الذين صلبوا المسيح، وأنهم يتحملون المسئولية كاملة عن ذلك. وقد كانت الكنيسة تنظم مناظرات (مجادلات خلافية) علنية يشترك فيها عادةً يهود متنصرون ملمون بالتلمود ويعرفون جوانبه السلبية. ومن أهم المناظرات، وربما آخرها، تلك المناظرة التي تمت في بولندا في يونيه 1757 ويوليه 1759 بين أتباع يعقوب فرانك وممثلي المؤسسة الحاخامية. وقد كانت الكنيسة تحرق نسخ التلمود التي تُضبَط من آونة إلى أخرى.

ويُلاحَظ أن تزايد انتشار التلمود بين اليهود يشكل تزايداً في هيمنة الحلولية الواحدية على الفكر الديني اليهودي. ومما ساهم في عملية شيوع التلمود، تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، لا ترتبط بالوطن الذي تعيش في كنفه، وإنما بوطن وهمي. وهذا الارتباط يحقق لها قدراً من الهوية شبه المستقلة عن مجتمع الأغلبية، وكان هذا أمراً ضرورياً لها كي تضطلع بوظيفتها التي تتطلب عادةً الحياد والانفصال العاطفي وأحياناً الفعلي. وإذا كانت صهيون الوطن الوهمي البعيد، فإن التلمود أصبح الوطن المتنقل. وتنحو الجماعات الوظيفية منحى حلولياً (في إيمانها بأنها موضع القداسة وفي موقفها المنكر للزمان والمكان). وقد ساهم هذا بكل تأكيد في تَزايُد شيوع التلمود بين أعضاء الجماعات اليهودية. ومما ساعد التلمود على اكتساب مركزية في الفكر الديني اليهودي جهل أوربا المسيحية بوجوده حتى القرن الثالث عشر الميلادي، وهو ما يعني أنه أصبح الرقعة اليهودية الخالصة، بعد أن اعتبرت الكنيسة العهد القديم (كتاب اليهود المقدَّس) أحد كتبها المقدَّسة. ولكل هذا، حل التلمود محل التوراة في العصور الوسطى باعتباره كتاب اليهود المقدَّس الأساسي، حتى أن كثيراً من الحاخامات كانوا يعرفون التلمود أساساً ويعرفون العهد القديم بدرجة أقل. وقد تركزت في التلمود، بعد تدوينه، كل السلطة الدينية والروحية في اليهودية، حتى أن كل قرار في الحياة اليهودية، مهما علا شأن هذا القرار أو صَغُر، قد جرى اتخاذه وفقاً للسلطة التلمودية.

ومع هذا، فقد أخذت قبَّالاة الزوهار، والكتب القبَّالية الصوفية الحلولية الأخرى، تحل ابتداءً من القرن السادس عشر محل التلمود، إلى أن اكتسبت الصدارة في القرن السابع عشر. ويُقـال إن اليهود المنتشرين في الشتتلات، بعيداً عن مراكز الدراسات الحاخاميــة، كانــوا يعرفـون الزوهار، ولا يعرفون إلا أقل القليل عن التلمود. وعلى كل، فإن التلمود كان دائماً كتـاب الأرستقراطية الدينية الحاخامية، فهــو مكتوب بأسلــوب مركب وبلغــة لا تعرفها الجمـاهير التـي كانت لا تعــرف العــبرية ولا الآرامـية (بطبيعة الحال). ولهذا، كانت حركات الاحتجاج الشــعبي بين اليــهود (الصــوفية والمشيــحانية) تأخذ شـكل معـاداة التلمود ومعاداة سلطتـه ومعــاداة المؤســسة التي تدرســه وتهيمن باسمه. وأولى هذه الحركات هـي الحركـة القرائيــة التي لم تكن حركـة شعــبية بـقدر ما كانت حركة عقلانية متأثرة بالفكر الإسلامي. ولكن الحركات الصوفية المشيحانية اليهودية كانت شعبية إلى حدٍّ كبير، وقد اتخذت موقفاً سلبياً من التلمود، فكان المتصوفة ينظرون إليه باعتباره المحارة التي يكمن داخلها المعنى الخفي للتوراة. كما أن الحركات المشيحانية، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، رفضته تماماً. ومع هذا، يُلاحَظ أن التفسيرات السائدة داخل كثير من المدارس التلمودية العليا، وداخل الدوائر الحاخامية، كانت تفسيرات قبَّالية.

ولكن الضربة القاضية جاءت مع حركة التنوير، فحركة التنوير بين أعضاء الجماعات اليهودية، في مراحلها الأولى، كانت ذات اتجاه ربوبي إصلاحي يهدف إلى إصلاح اليهودية دون التخلي عنها. ومن هنا وجَّه دعاة الحركة سهام نقدهم إلى التلمود وأنكروا قداسة الشريعة الشفوية ككل، وأصروا على اعتبار التلمود بمنزلة مجموعة من تفسيرات المشرعين والشارحين يرجع عهدها إلى فترة متأخرة، كما نفوا كل سلطة إلزامية، وأنه في واقع الأمر يعبر عن السلطة الحاخامية، وبينوا ما في التلمود من خرافات وحكايات شعبية تتنافى ـ في تصورهم ـ مع العقل.

وكان معظم هؤلاء النقاد ممن تلقوا تعليماً غربياً علمانياً، ولذا لم تكن لديهم الكفاءات الأكاديمية اللازمة لفَهْم التلمود أو تفسيره، ومع هذا استمروا في هجومهم الشرس الذي تصاعد بعد ذلك مع تصاعُد حدة حركة التنوير نفسها، التي انتقلت من مرحلة الربوبية إلى مرحلة إلحادية صريحة معادية لا للتفسيرات البشرية وحسب وإنما لأية نصوص مقدَّسة. وأعلن دعاة حركة التنوير أنه لا أمل يُرجى في تطوُّر اليهود إلا بالإطاحة بسلطة التلمود وبينوا للحكومات الغربية مدى خطورة هذا الكتاب وأنه سبب هامشية اليهود وتخلفهم. ولكن الحاخامات الأرثوذكس، أعضاء المؤسسة الدينية الحاخامية الذين كان يدور عالمهم حول التلمود وحده، والذين كانوا لا يعرفون الكثير عما يدور حولهم، ولا يدركون أهمية الإصلاح، دافعوا دفاعاً مستميتاً عن التراث التلمودي ووقفوا بشراسة ضد كل محاولات التطوير. وحينما حاولت حكومات شرق أوربا ووسطها تحديث اليهود، كان الجهد ينصب دائماً على التلمود فكان يُستبعَد تماماً من مدارس اليهود، كما كان يُحرَّم على اليهود أحياناً قراءته لأبنائهم قبل بلوغهم سن الرشد. وفي الوقت الحالي، فإن الأغلبية العظمى من أعضاء الجماعات اليهودية يرفضون التلمود بل يجهلون ما جاء فيه ولا يعرفون حتى حجمه.

وأثر التلمود والشرع التلمودي واضح في قوانين الأحوال الشخصية في إسرائيل، فالتشريعات التي تضبط قضايا الزواج والطلاق فيها لا تختلف عن الأحكام التلمودية الواردة في أسفار سدر ناشيم. وفي شئون الطلاق، لا يزال سفر جيطين المصدر الأساسي للأحكام المتعلقة بوثيقة الطلاق (جيط) التي يكتبها الزوج. وفي مسائل الزواج وتسجيل المواليد، لا تزال أحكام الشريعة التي حددها التلمود هي الشريعة السائدة، فاليهودي هو المولود لأم يهودية، أو من اعتنق اليهودية على يد حاخام أرثوذكسي. وعملية التهود ليست هينة، إذ يصر الحاخام على التقيد بالشعائر التلمودية، ومن بينها الحمام الطقوسي الذي يجب أن تخضع له الأنثى التي تريد التهود، فتدخل الحمام عارية تماماً، بحضور ثلاثة من الحاخامات وتحت أنظارهم.

وكذلك تُطبَّق في إسرائيل الشرائع التلمودية الخاصة بقوانين الطعام والقـوانين الزراعية التي وردت في سـفر براخوت من سـدر زراعيم. ويُدرَّس التلمود في إسرائيل، وتقتصر الدراسة في المدارس والمعاهد الدينية على دراسته، كما أن جامعة بار إيلان تشترط على طلابها تحصيل معرفة تمهيدية بالتلمود.

وقد طُبع التلمود الفلسطيني في البندقية (1523 ـ 1524). كما أن التلمود البابلي كان قد بدأت طباعته في إسبانيا عام 1482. لكن أقدم طبعة كاملة ظهرت في البندقية أيضاً (1520 ـ 1523)، وأشرف على طبعها دانيال بومبرج. وقد أصبحت هذه الطبعة النموذج الأصلي الذي حذت حذوه مختلف الطبعات التي تلتها. وقد نُشـرت الطبعـة القياسـية في فلــنا عام 1886، وهي تحوي تعليقات، وتعليقات على تعليقات في أكثر من عشرين جزءاً. فكان يتم طبع المشناه والجماراه في العمود الأوسط، وتُطبَع ببنط أسود، ثم تُطبَع في العمود المجاور لها تعليقات راشي على النحو التالي:

وقد تُرجم التلمود إلى معظم اللغات الأوربية الأساسية،




صفحة من سفر ماكوت من سدر نزيقين (طبعة فلنا) ، وهي تناقش مصير إنسان صدر عليه حكم ولكنه فر. وكيف يمكن إصدار حكم آخر عليه.

1- نهاية الجماراهمن مقطوعة المشناه السابقة.

2- المقطوعة داخل المربع هي مقطوعة المشناه موضع النقاش في هذه الصفحة.

3- الجماراه المتعلقة بها.
أ) مدراش تشريعي (هالاخي) يؤيد ما جاء في المشناه.
ب) ثلاثة تعليقات قصيرة من حلقات فلسطين وسورا وبومبديثا التلمودية.

4- علامة تدل على انتهاء الفصل.

5- مقطوعة مشناه أخرى.

6- تعليق راشي.

7- تعليق الشراح الإضافيين (التوسافوت)تناقش نقطة محددة من الجماراه وتعليق راشي.

8- إحالات لمصادر تلمودية وحاخامية أخرى.

9- تعليقات كتبها جويل سيركيس (1561 - 1640).

10- إشارات لمصنفات موسى بن ميمون ، ويعقوب بن آشر.

11- تعليقات أحد حاخامات شرق أفريقيا من القرن الحادي عشر.

12- إشارات للكتاب المقدس.

13- ملاحظات كتبها إلياهو (فقيه فلنا).
وتُرجمت مختارات قصيرة منه إلى العربية لا تمثل الطبيعة الجيولوجية المتناقضة للفكر التلمودي. ولكنه تُرجم بأكمله إلى الإنجليزية (في لندن) وإلى كثير من اللغات الأوربية الأخرى.

ويُلاحَظ أن الرقابة الحكومية كانت تفرض على اليهود أحياناً أن يحذفوا بعض الفقرات التي تُظهر عداءً متطرفاً للأغيار، أو أن يُضيِّقوا المجال الدلالي لبعض الكلمات والعبارات العنصرية المتطرفة. ولذا، حلت كلمة «عكوم» بمعنى «عابد الكواكب وأبراج النجوم»، و«كوتي» بمعنى «سامري»، و«كوشي» بمعنى «زنجي»، أو «حبشي» محل «نكري»، أو «جوي» بمعنى «أجنبي» أو «غريب». وحلت كلمة «بابليم»، أي «البابليين»، و«كنعانيم»، أي «الكنعانيين»، محل «أوموت هاعولام»، التي تعني «أُمّمُ العالم». والواقع أن جميع المحاولات تُضيِّق المجال الدلالي لكلمة «الأغيار» وتخصصها، وتجعلها مقصورة إما على الوثنيين وحسب، أو على جماعة محدَّدة من الناس مثل السامريين أو البابليين. وهذا من قبيل استرداد البُعد التاريخي لمصطلح الأغيار (العام) حتى تتكيف نصوص التلمود مع الواقع الجديد حيث لم يَعُد الأغيار وثنيين بل أصبحوا من عبدة الإله. وكان يُسجَّل في مستهل كل صفحة من التلمود إعلان رسمي يقرِّر أن قوانين التلمود ضد الوثنية لا تنطبق على الأمم التي يعيش اليهود بين ظهرانيها، وأنها لا تنطبق إلا على الوثنيين وحسب (وحينما احتلت إنجلترا الهند، قيل إن المقصود هو الهنود، كما ضُمَّ إلى قائمة المعنيين بالهجوم سكان أستراليا الأصليون). وبعض الطبعات تقرر أن المعني بالهجوم هو «اليشماعيلي» وتعني «المسلم العربي».

وكما يقول الحاخام آجوس، فإن هذه الصيغة التي كانت قوانين الرقابة تتطلبها كان يتم تجاهلها في النصوص المختلفة، لأن كتَّاب التلمود وشارحيه لا يعرفون سوى نوعين من البشر: اليهود، وغير اليهود. وحتى حينما كان بعض الزعماء الدينيين اليهود يعترضون على النزعة الحلولية العنصرية المتعالية، كان اعتراضهم ينطلق من أسباب عملية مثل: الخوف من اعتياد اليهود ممارسة الشر، والخوف من الإساءة إلى سمعة اليهود، أو إثارة حنق الأغيار وكرههم. وكثيراً ما كان يتبادل أعضاء الجماعات اليهودية فيما بينهم، دون علم السلطات، مخطوطات خاصة تضم المحذوفات التلمودية، أي تلك النصوص التي حذفتها الرقابة الحكومية. كما كان يُعاد شرح بعض المصطلحات الجديدة، مثل «بابلي» أو «كوتي»، حتى يُعرَف معناها الأصلي والحقيقي لتكون بمعنى «مسيحي». ويُعاد في إسرائيل طبع النسخة الأصلية من التلمـود دون تعـديل. ولما كانـت عملية الطباعـة مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً، فقد نشروا كتاباً في طبعة شعبية رخيصة بعنوان حسرونوت شاس (أي المحذوفات التلمودية).

وقد صدرت في إسرائيل موسوعة تلمودية ضخمة تُسهِّل عملية الوصول إلى الأحكام الفقهية. ورغم ذلك، ففي إحصاء أُجري عام 1987، قرر 84% من الإسرائيليين أنهم لم يقرأوا التلمود قط ولم يطلعوا على أي جزء منه. وفي الوقت الحالي، يقوم الحاخام آدين ستانيسلاتس بإعداد طبعة جديدة من التلمود (البابلي والفلسطيني) تكون في متناول القارئ العادي، وهي مزودة بترجمة عبرية حديثة للنصوص الآراميـة فضـلاً عن شروح الكلمات الصعبة. وقد طُبعت المشناه والجماراه، وكذلك الشروح المتعلقة بهما ببــنوط طباعية مختـلفة. وقد صدر حتى الآن عشرون جزءاً من التلمود البابلي. ومن المتوقع أن يَصدُر التلمود في أربعين جزءاً خلال خمسة عشر عاماً. وقد ظهرت ترجمة إنجليزية للأجزاء الأولى.



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق