( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 556
فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وتَرْقُوتهِ فبلّتْ ثوبه، ثم انحدر الفراش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب، فقال المأمون: تُقْلَى الساعة، ثم أخذته رعدة من ساعته، فلم يقدر يتحرك من مكانه، فغطى باللحف والدواويج، وهو يرتعد كالسعفة، ويصيح: البرد البرد، ثم حول إلى المضرب ودثر وأوقدت النيرانُ حوله، وهو يصيح: البرد البرد، ثم أتى بالسمكة وقد فرغ من قلبها فلم يقدر على الذوق منها، وشَغَله ما هو فيه عن تناول شيء منها، ولمَّا اشتد به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه في ذلك الوقت عن المأمون وهو في سكرات الموت، وما الذي يدل عليه علم الطب من أمره. وهل يمكن برؤه وشفاؤه. فتقدم ابن ماسويه، فأخذ إحدى يديه وبختيشوع الأخرى، وأخذا المجسة من كلتا يديه، فوجدا نبضة خارجاً عن الاعتدال، مُنْنِراً بالفناء والإِنحلال، والتزقت أيديهما ببشرته لِعَرَقٍ كان يظهر منه من سائر جسمه، كالزيت، أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبر المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك، فأنكرا معرفته، وأنهما لم يجدا في شيء من الكتب، وأنه دال على انحلال الجسد، وأفاق المأمون من غَشْيته، وفتح عينيه من رَقْدته، فأمر بإحضار أناس من الروم، فسألهم عن اسم الموضع والعين، فأحضر له عدة من الأساري والأدلة، وقيل لهم: فسروا هذا الاسم القشيرة، فقيل له: تفسيره مُدّ رجليك، فلما سمعها اضطرب من هذا الفال وتَطَيَّرَ به، وقال: سَلُوهم ما أسم الموضع بالعربية، فقالوا: الرقة، وكان فيما عمل من مولد المأمون أنه يموت بالموضع المعروف بالرقة، وكان المأمون كثيراً ما يحيد عن المقام بمدينة الرقة فرقا من الموت، فلما سمع هذا من الروم علم أنه الموضع الذي وُعِدَ فيه فيما تقم من مولده، وأن فيه وفاته، وقيل: إن اسم البديدون تفسير مُدَ رجليك، والله أعلم بكيفية ذلك، فأحضر المأمون الأطباء حوله يؤمل خلاصه مما هو فيه، فلما ثقل قال: أخرجوني اشْرِفُ على عسكري، وأنظر إلى رجالي، وأتبين ملكي، وذلك في الليل، فأخرج فأشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد أوقد من النيران، فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ثم رُدَّ إلى مرقدي وَأجْلَسَ المعتصم رَجُلاً يشهده لما ثقل، فرفع الرجل صوته ليقولها، فقال له ابن ماسوية: لا تَصِحْ فواللّه ما يفرق بين ربه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح المأمون عينيه من ساعته، وبهما من العظم والكبر الاحمرار ما لم يُرَ مثله قط، وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسوية، ورام مخاطبته، فعجز عن ذلك، فرمي بطرفه نحو السماء، وقد امتلأت عيناه دموعاً، فانطلق لسانه من ساعته، وقال: يا مَنْ لا يموت أرحم مَنْ يموت، وقضى من ساعته، وذلك في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بَقِيَت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وحمل إلى طرطوس، فدفن بها، على حسب ما قدمنا في أول أخباره من هذا الكتاب.
قال المسعودي: وللمأمون أخبار حسان وَمَعَانٍ وسير ومجالسات وأشعار وأخلاق جميلة، قد أتينا على مبسوطها فيما سلف من كتبنا، فأغنى ذلك عن ذكرها.
وفي المأمون يقول أبو سعيد المخزومي:
هل رأيت النجوم أغنت عَنِ المأ مُون شيئاً وَمُلْكِهِ المَـأْنُـوس
خلفوهً بعرصتي طـرسـوس مِثل ما خَلّفُوا أبـاه بِـطُـوس وكان المأمُون كثيراً ما ينشد هذه الأبيات:
وَمَنْ لا يزل غَرَضَاَ للمنو ن يَترُكْنَهُ ذات يوم عميدا
فإن هن أخطأنـه مـرة فيوشك مخطئها أن يعودا
فبينا يحيد وتخـطـينـه قصدن فأعجلنه أن يحيدا
ذكر خلافة المعتصم
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق