( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 544
مناظرة المأمون للفقهاء
وكان يحيى بن أكثم يقول: كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء، فإذا حضر الفقهاء ومَنْ يناظره من سائر أهل المقالات أُدخلوا حجرة مفروشة، وقيل لهم: انزعوا أخفافكم، ثم أحضرت الموائد، وقيل لهم: أصيبوا من الطعام والشراب وجَددوا الوضوء، ومن خُفّه ضيق فلينزعه، ومن ثقلت عليه قَلَنْسوته فليضعها، فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فبخروا وطيبوا، ثم خرجوا فاستدناهم حتى يدنوا منه، ويناظرهم أحسن مناظرة، وأنْصَفَهَا وأبعدَهَا من مناظرة المتجبرين، فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس، ثم تُنْصَبُ الموائد الثانية فيطعمون وينصرفون، قال: فإنه يوماً لَجَالِسٌ إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، رجل واقف بالباب عليه ثياب بيض غلاظ مشمرة، ويطلب الدخول للمناظرة، فقلت: إنه بعض الصوفية، فأردت بأن أشير أن لا يؤذن له، فبدأ المأمون فقال: ائذن له، فدخل رجل عليه ثيابٌ قد شمرها ونعله في يده، فوقف على طرف البساط فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال المأمون: وعليك السلام، فقال: أتأذن لي في الدنو منك. قال: ادْن، فدنا، ثم قال: اجلِسْ، فجلس، ثم قال: أتأذن في كلامك. فقال: تكلم بما تعلم أن للّه فيه رِضاً، قال: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت قد جلسته أباجتماع من المسلمين عليك، ورضاً منك، أم بالمغالبة لهم والقوة عليهم بسلطانك. قال: لم أجلسه باجتماع منهم ولا بمغالبة لهم، إنما كان يتولَّى أمر المسلمين سلطان قبلي أحْمَدَه المسلمون إما على رضا وإما على كره، فعقد لي ولآخر معي ولاية هذا الأمر بعده في أعناق مَنْ حضرهُ من المسلمين، فأخذ على من حضر بيتَ الله الحرام من الحاجِّ البَيْعَةَ لي ولآخر معي فأعطوه ذلك إما طائعين وإما كارهين، فمضى الذي عقد له معي على هذه السبيل التي مضى عليها، فلما صار الأمر إليَّ علمت أني أحتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على الرضا، ثم نظرت فرأيت أني متى تخلّيْتُ عن المسلمين اضطرب حبل الإِسلام ومرج عهدهم، وانتقضت أطرافه، وغلب الهرج والفتنة، ووقع التنازع، فتعطلَتْ أحكام اللّه سبحانه وتعالى، ولم يحجَّ أحد بيته، ولم يجاهد في سبيله، ولم يكن لهم سلطان يجمعهم ويَسُوسهم، وانقطعت السبل، ولم يؤخذ لمظلوم من ظالم، فقمت بهذا الأمر حياطة للمسلمين، ومجاهداً لعدوهم، وضابطاً لسبلهم، وآخذاً على أيديهم إلى أن يجتمع المسلمون على رجل تتفق كلمتهم على الرضا به فأسلِّم الأمر إليه، وأكون كرجل من المسلمين، وأنت أيها الرجل رسولي إلى جماعة المسلمين، فمتى اجتمعوا على رجل ورَضُوا به خرجت إليه من هذا الأمر، فقال: السلام عليكم ورحمة اللهّ وبركاته، وقام، فأمر المأمون علي بن صالح الحاجب بأن ينفذ في طلبه مَنْ يعرف مقصده، ففعل ذلك، ثم رجع وقال: وَجَّهت يا أمير المؤمنين من اتبع الرجل فمضى إلى مسجد فيه خمسة عشر رجلاً في هيئته وزيه فقالوا له: لقيت الرجل. فقال: نعم قالوا: فما قال لك. قال: ما قال لي إلا خيراً، ذكر أنه ضَبَطَ أمور المسلمين إلى أن تأمن سُبُلُهم، ويقوم بالحج والجهاد في سبيل اللّه، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ولا يعطل الأحكام، فإذا رضي المسلمون برجل سلّم الأمر إليه وخرج منه، وقالوا: ما نرى بهذا بأساً، وافترقوا، فأقبل المأمون على يحيى، فقال: كفينا مؤونة هؤلاء بأيسر الخطب، فقلت: الحمد للّه الذي ألهمك يا أمير المؤمنين الصواب والسداد في القول والفعل.
يحيى بن أكثم قاضي البصرة
قال المسعودي: وكان يحيى بن أكثم وقد ولي قضاء البصرة قبل تأكد الحال بينه وبين المأمون، فرفع إلى المأمون أنه أفسد أولادهم بكثرة لواطه، فقال المأمون: لو طعنوا عليه في أحكامه قبل ذلك منهم، قالوا: يا أمير المؤمنين، قد ظهرت منه الفواحش وارتكاب الكبائر، واستفاض ذلك عنه، وهو القائل يا أمير المؤمنين في صفة الغِلْمَان وطبقاتهم ومراتبهم في أوصافهم قوله المشهور فقال المأمون: وما الذي قال. فدفعت إليه القصة فيها جُمَلٌ مما رمى به وحكى عنه في هذا المعنى، وهو قوله:
أربعة تَفْتِنُ ألحاظـهـم فعين من يَعْشَقهم ساهره
فواحد ذنياه في وجـهـه منافق ليست له آخـره
وآخر دنياه مـفـتـوحة من خَلْفِهِ آخره وافـره
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق