( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 540
فجاء من طرب القوم يا أمير المؤمنين ما خشيت أن يخرجوا من عقولهم، فأمسكت ساعة، حتى إذا هدأ القوم اندفعت أغني الثالثة:
هذا محبك مَطْوِيٌّ على كـمـده صَبٌّ مدامعُه تجري على جَسدهْ
له يَدٌ تسأل الرحْمـنَ راحـتـه مما به ويَدٌ أخرى على كـبـده
يا من رأى كَلِفاً مستهتراً أسفـاً كانت منيته فـي عـينِـهِ ويده فجعلت الجارية يا أمير المؤمنين تصيح: السلامة، هذا واللّه الغناء يا مولاي، وسكر القوم، وخرجوا من عقولهم، وكان صاحب المنزل جيد الشراب ونديماه عونه، فأمر غلمانه مع غلمانهم بحفظهم وصرفهم إلى منازلهم، وخلوت معه فشربنا أقداحاً، ثم قال: يا سيدي، ذهب واللّه ما خَلَا من أيامي باطلاً، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولاي. فلم يزل يلح عليّ حتى أخبرته فقام فقبل رأسي، وقال: يا سيدي، وإني أعجب أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وإذا أنا منذ اليوم مع الخلافة ولا أعلم، وسألني عن قصتي وكيف حَمَلْتُ نفسي على ما فعلته، فأخبرته خبر الطعام والكف والمعصم، فقال: يا فلانة، لجارية له، قولي لفلانة تنزل، فجعل ينزل إليَّ جواريه واحدة واحدة، فأنظر إلى كفها وأقول: ليست هي، حتى قال: واللّه ما بقي غير أمي وأختي، ولأنزلِنَّهُما إليك، فعجبت من كرمه وسَعَةِ صدره، فقلت له: جعلت فداك، أبدأ بالأخت قبل الأم، فعسى أن تكون صاحبتي، فقال: صدقت، ففعل، فلما رأيت كفَهَا ومعصمها قلت: هي هي، جعلت فداك، فأمر غلمانه من فَوْرِه فصاروا إلى عشرة مشايخ من جِلّةِ جيرانهم فأحضروا، وجيء ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثم قال: هذه أختي فلانة، وأنا أشهدكم أني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلتُ النكاح، ودفعت إليها البدرة الواحدة، وفرقت الأخرى على المشايخ، وقلت لهم: اعذروا فهذا الذي حضرني في هذا الوقت، فقبضوها وانصرفوا، ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت تنام مع أهلك، فأحْشَمَنِي واللّه يا أمير المؤمنين ما رأيت من كرمه وسعة صدره، فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي، فقال: افعل ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين لقد حمل إلي من الجهاز ما ضاق عنه بعض دوري.
فتعجب المأمون من كرم ذلك الرجل، وأطلق الطفيلي، وأجازه بجائزة حسنة وأمر إبراهيمَ بإحضار ذلك الرجل، فصار بعدُ من خواص المأمون وأهل مودته، ولم يزل معه على أفضل الأحوال السارة في المنادمة وغيرها.
.إسحاق الموصلي وكلثوم العتابي عند المأمون
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق