( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 539
قال: يا أمير المؤمنين، خرجت يوماً فمرت في سِكَكِ بغداد متطرفاً، حتى انتهيت إلى موضع، فشممت رائحة أبازير من جناح في دار عالية، وقدور قد فاح قتارها، فتاقت نفسي إليها، فوقفت على خيّاط فقلت: لمن هذا الدار. فقال: لرجل من التجار من البزازين، قلت: ما اسمه. قال: فلان بن فلان، فرفعت طرفي إلى الجناح، فإذا فيه شباك، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك وَمِعْصَم ما رأيت أحْسَنَ منهما قط، فشغلني يا أمير المؤمنين حُسْنُ الكف والمعصم عن رائحة القدور، فبقيت باهتاً وقد ذُهِلَ عقلي، ثم قلت للخياط: هو ممن يشرب النبيذ. قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، ولا ينادم إلا تجاراً مثله مستورين فأنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الحرب، فقال لي الخياط: هذان منادماه، قلت: ما أسماهما. وما كُنَاهُمَا. فقال: فلان وفلان، فحركت دابتِي حتى دخلت بينهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأ كما أبو فلان أعَزَّه اللّه، وسايرتهما حتى انتهينا إلى الباب، فَقَدَّمَانِي، فدخلت وَدَخَلا، فلما رآني صاحبُ المنزل لم يَشُك إلا أني منهما بسبيل، فرحَّبَ وأجلسني في أجَلَ موضع، فجيء يا أمير المؤمنين بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها، وبقي الكف والمعصم، ثم رفع الطعام فغسلنا أيدينا، ثم صرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا هو أنْبَلُ مجلس وَأجَلُ فرش، وجعل صاحب المجلس يلطف بي ويقبل عليَّ بالحديث، والرجلان لا يشكان أنه مني بسبيل، وإنما كان ذلك الفعل منه بي لمَا ظَنَّ أني منهما بسبيل، حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية تتثنى كأنها غُصْنُ بَانٍ، فسلّمت غير خَجِلَة، وهيئت لها وسادة، وأتي بعُودٍ فوضع في حجرها، فجسًتْهُ فتبينت الحذق في جسها، ثم اندفعت تغني:
توهَّمها طَرْفِي فـآلَـمَ خَـدَّهـا فصار مكان الوهم من نظري أثْرُ
وَصافحها كَفِّي فـآلـم كـفـهـا فمن لَمْس كفي في أناملها عقـرُ
ومَرَّتْ بقلبي خاطراً فجرحتـهـا ولم أر شيئاً قَط يَجْرحُه الفكـر فهيجت واللّه يا أمير المؤمنين عليّ بلابلي، وطربت لحسن غنائها وحذقها، ثم اندفعت تغني:
أشَرْتُ إليها: هل علمـت مـودتـي فردَّتْ بطرف العين: إني على العهد
فحدث عن الإِظهار عمداً لسـرهـا وحادت عن الإِظهار أيضاً على عمد فصحت: السلامة، وجاءني من الطرب ما لا أملك معه النفس ولا المصبر، واندفعت تغني:
أليس عجيباً أن بيتاً يضـمـنـي وإياك لا نخلو ولا نـتـكـلَّـمُ
سوى أعْيُنٍ تشكو الهوى بجفونها وترجيع أحشاء على النار تضرم
إشارة أفواه وغَمْـزً حـواجـب وتكسير أجفان وكـفّ يسـلّـم فحسدتها واللّه يا أمير المؤمنين على حِذْقها، ومعرفتها بالغناء، وإصابتها معنى الشعر، وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأته، فقلت: بقي عليك يا جارية شيء، فغضبت وضربت بعودها الأرض، ثم قالت: متى كنتم تُحْضِرُون مجالسكم البُغَضَاء. فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم قد تغيروا إليَّ، فقلت: أليس ثَمَّ عُودٌ. قالوا: بلى يا سيدنا، فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه ما أردت، واندفعت أغني:
ما للمنازل لا يُجِبْنَ حزينـا. أصممن أم بَعُدَ المَدَى فبلينا.
رَاحُوا العشيَّةَ روحة مذكورة إن متن متن، وإن حيين حيينا فما استتممته جيداً حتى خرجت الجارية فأكَبَّتْ على رجلي تقبلها، وهي تقول: المعذرة واللهّ لك يا سيدي، فما سمعت مَنْ يغني هذا الصوت مثلك، وقام مولاها وكل من كان عنده فصنعوا كصنعها، وطرب القوم، واستحثوا الشرب فشربوا بالطاسة ثم اندفعت أغني:
أبا للّه هل تُمْسِينَ لا تذكـرينـنـي وقد سَجمَتْ عيناي من ذكرك الدَمَا
إلى اللّه أشكو بُخْلَهَا وسَمَاحـتـي لها عسل مني وتبذل عـلـقـمـا
فردِّي مصَاب القلب أنت قتلـتـه ولا تتركيه ذاهل العقل مغـرمـا
إلى اللّه أشكو أنـهـا أجـنـبـية وأنِّي لها بالود ما عشت مكرمـا
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق