3401
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
من تاريخ العلامة ابن خلدون
المجلد السابع
من صفحة 503
تاريخ ابن خلدون
فتنة الناصري
وسياقه الخبر عنها بلد تقديم كلام في احوال الدول يليق بهذا الموضع، ويطلعك علي أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج إلي الضخامة والاستيلاء، ثم إلى الضعف والاضمحلال، والله بالغ امره
وذلك أن الدول الكلية، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحداً بعد واحد في مده طويلة، قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلبهم، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب مستحقين آخرين ينرعونه من أيديهم بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى؛ يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلة؛ وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس، والاقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة، وعدم الثروة من قبل. ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها، ويزين حب الشهوات للاقتدار عليها، فيعظم الترف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئاً فشيئاً
بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم، لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كل أحد نظره فيما فيه من ذلك، فيرجع وراءه، ويطلب كفاء خرجه بدخله.
ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم؛ فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن الترف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك؛ فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحق الناس به، وأقربهم إليه؛ فيصير الملك له، وفي عشيره؛ وتصير كأنها دولة أخرى، تمر عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى؛ فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب، أو الولاء. سنة الله في عباده. وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أن بني أيوب لما ملكوا مصر والشام، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقل بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان، وهم قليلون، وإنما كثر منهم جماعة المسلمين، بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه؛ فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه، ونصر الله الذين على يده. وانتزع السواحل كلها من أيدي نصارى الفرنج، حتى مسجد بيت المقدس؛ فانهم كانوا ملكوه وافحشوا فيه بالقتل والسبي؛ فاذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم؛ واقتسموا مدن الشام، ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدين، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدولة، وإقامة رسوم الملك، وان ذلك يحصل باتخاذ المماليك، والاكثار منهم، كما كان
آخراً في الدولة العباسية ببغداد؛ وأخذ التجار في جلبهم إليه، فاشترى منهم أعداداً، وأقام لتربيتهم أساتيذ معلمين لحرفة الجندية، من الثقافة والرمي، بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف؛ وكان مقيما بأحواز دمياط في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلبين على حصنها دمياط. وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سمَّاها المنصورة، وبها توفي رحمه الله، فكان نجم الدين نازلاً بها في مدافعة ساكني دمياط من الفرنج، فأصابه هنالك حدث الموت، وكان ابنه المعظم تورنشاه نائبا ًفي حصن كيفا من ديار بكر وراء الفرات، فاجتمع الجند على بيعته، وبعثوا عنه، وانتظروا. وتفطن الفرنج لشأنهم، فهجموا عليهم، واقتتلوا فنصر الله المسلمين، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس؛ فبعثوا به إلى مصر. وحبس بدار لقمان، إلى أن فادَوْه بدمياط، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب. ونصبوا- للملك، ولهذا اللقاء- زوجة الصالح أيوب واسمها شجرة الدر، فكانت تحكم بين الجند، وتكتب على المراسيم، وركبت بوم لقاء الفرنج، تحت الصناجق، والجند محدقون بها، حتى أعز الله دينه، وأتم نصره. ثم وصل تورنشاه المعظم؛ فأقاموه في خطة الملك مكان أبيه الصالح
أيوب، ووصل معه مماليك يدلون بمكانهم منه، ولهم به اختصاص، ومنه مكان؛ وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجده. اقطاي الجمدار وايبك التركماني، وقلاوون الصالحي، فانفوا من تصرفات مماليك تورنشاه، واستعلائهم بالحظ من السلطان، وسخطوهم وسخطوه، وأجمعوا قتله. فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكو، وقتلوه، ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم، واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها؛ وهلك بعد أيبك ابنه علي المنصور، ثم مولاه قطز، ثم الظاهر بيبرس البندقداري. ثم ظهر أمر الطَّطَر، واستفحل ملكهم. وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان من خراسان إلى بغداد؛ فملكها، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس. ثم زحف إلى الشام؛ فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب، إلى أن استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان، زحف إلى خراسان؛ فامتعض لذلك، وكر راجعاً، وشغل بالفتنة معه إلى أن هلك. وخرج قطز من مصر عندما شغل هولاكو بفتنة بركة؛ فملك الشام كله، أمصاره ومدنه، واضاره للترك موالي بني أيوب.، استفحلت دولة هؤلاء المماليك، واتصلت أيامها واحداً بعد واحد، كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاوون عندما ملك بيبرس الظاهر منهم، فتظاهر به، وأصهر إليه، والترف يومئذ لم يأخذ منهم، والشدة والشكيمة موجودة فيهم، والبأس والرجولة شعار لهم؛ وهلك الظاهر بيبرس، وابناه من بعده، كما في أخبارهم. وقام قلاوون بالأمر، فاتسع نطاق ملكه، وطال ذرع سلطانه، وقصرت أيدي الطَّطَر عن الشام بمهلك هولاكو، وولاية الأصاغر من ولده، فعظم مُلك قَلاَوُون، وحَسُنت آثارُ سياسته، وأصبح حجة على من بعده؛ ثم ملك بعده ابناه: خليل الأشرف، ثم محمد الناصر. وطالت أيامه، وكثرت عصابته من مماليكه،
حتى كَمُل منهم عَدد لم يقع لغيره. ورتَّب للدَّولة المراتب، وقَدَّم منهم في كل رُتبة الأمراء، وأوسع لهم الإقطاع والولايات، حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالتَّرَف أحوالهم. ورحل أربابُ البضائع من العلماءِ والتُّجَّار إلى مصر؛ فأوسَعهم حِباءً وبرّا. وتنافست أمراءُ دَولته في اتخاذ المدارس والرُّبط والخوانق، وأصبحت دولتهم غُرَّة في الزمان، وواسطةً في الدوَل. ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة، فطفِق أمراء دولته ينصبُون بنيه للملك، واحداً بعد آخر، مستبدّين عليهم، متنافسين في الملك، حتى يغلبَ واحد منهم الآخر، فيقتُلَه، ويقتُلَ سلطانه من أولاد الناصر، وينصب آخر منهم مكانه، إلى أن انساق الأمرُ لولده حسن النَّصر؛ فقتَلَ مُستَبدَّه شيخون، وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبُغا؛ فقام بها، ونافسه أقرانُه، وأغروا به سلطانه؛ فاجمع قتله. ونُمي إليه الخبرُ وهو في علوفة البرسيم عند خيله المُرتبطة لذلك؛ فاعتزم على الامتناع، واستعدّ للّقاء. واستدعاه سلطانُه؛ فتثاقل عن القدوم. واستشاط السلطان، وركب في خاصته إليه، فركب هو لمصادمته. وهاجم السلطان ففلَّه، ورجع إلى القلعة، وهو في اتِّباعه، فلم يُلفه بقصره، وأغرى به البحث فتقبَّض عليه، واستصفاه، وقتله؛ ونصب للملك محمد المنصور بن المظفّر حاجي بن الناصر. وقام بالدولة أحسن قيام، وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك، وتهذيبهم بالتَّربية، وتوفير النِّعم عندهم بالاقطاع، والولايات، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم خلع المنصور بن المظفَّر لسنتين، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن النَّاصر؛ فأقام على التخت وهو في كفالته، وهو على أوَّله في إعزاز الدولة، وإظفار التَّرَف والثروة، حتى ظهرت مخايل العزّ والنّعم، في المساكن والجياد والمماليك والزينة؛ ثم بطرُوا النِّعمة؛ وكفروا الحقوق، فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب، فهمّوا بقتله وخلصوا نجيا لذلك في مُتَصيَّدهم الشَّتوي، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم. ولما أحسّ بذلك ركب ناجياً بنفسه إلى القاهرة؛ فدخلوا على السلطان الأشرف، وجاءوا به على إثره، وأجازوا البحر؛ فقبضوا عليه عشيّ يومهم، ثم قتلوه في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرات لم يعهدوها من أول دولتهم، من النّهب والتّخطُّف وطُروق المنازل والحمّامات للعبث بالحُرم، وإطلاق أعنّة الشّهوات والبغي في كل ناحية؛ فمرج أمر النّاس، ورفع الأمر إلى السُّلطان،
وكثر الدعاء واللَّجَأُ إلى الله. واجتمع أكابر الأمر إلى السلطان، وفاوضوه في كفِّ عاديتهم، فأمرهم بالركوب، ونادى في جُنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم، والاحتياط بهم في قَبضَة القهر؛ فلم يكن إلا كلمح البصر، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عُمِّرت بهم السّجُون، وصفِّدوا وطيف بهم على الجمال ينادى بهم، إبلاغاً في الشهرة؛ ثم وُسِّط أكثرهم، وتُتُبِّع البقيَّةُ بالنَّفي والحبس بالثغور القَصِيَّة، ثم أُطلِقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعةٌ منهم بحبس الكرك: فيهم برقوق الذي ملك امرهم بعد ذلك، وبركة الجوباني، وألطُنُبغا الجوباني وجهركس الخليلي.
وكان طشتمر، دوادار يلبغا، قد لطف محلَّه عند السلطان الأشرف، وولي الدوادارية له، وكان يؤمّل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا، فكان يحتال في ذلك بجمع هؤلاء المماليك اليلبغاوية من حيث سقطوا، يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه، ويغري السلطان بها شفاها ورسالة، إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السلطان الأشرف، وجعلهم في خدمة ابنه علي ولي عهده. فما كثروا، واخذتهم أريحية العز بعصبيتهم، صاروا يشتطون على السلطان في المطالب، ويعتزون بعصبية اليلبغاوية. واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين وسبعمائة على قضاء الفرض، فخرج لذلك خروجاً فخماً، واستناب ابنه عليّا على قلعته وملكه في كفالة قرطاي من أكابر اليلبغاوية، وأخرج معه الخليفة والقضاة. فلما بلغ العقبة اشتط المماليك في
طلب جرايتهم من العلُّوفة والزّاد، واشتطَّ الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولّين للجباية. وصار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال، وطشتمر الدوادار يغضي عنهم، يحسب وقت استبداده قد أزف، إلى أن راغمهم السلطان بالزجر؛ فركبوا عليه هنالك، وركب من خيالته مع لفيف من خاصته، فنضحوه بالنبل، ورجع إلى خيامه، ثم ركب الهجن مساء، وسار فصبّح. القاهرة، وعرّس هو ولفيفه بقبّة النّصر.
وكان قرطاي كافل ابنه عليّ المنصور حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه؛ فأغرى عليّا المنصور بن السلطان بالتوثّب على المُلك، فارتاح لذلك وأجابه، وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة؛ وقد أجلس عليَّا مكفوله بباب الاسطبل، وعقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت؛ وبينما هم في ذلك، صبَّحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ، فطاروا إليه زرافات ووحدانا، فوجدوا أصحابه نياما هنالك، وقد تسلل من بينهم هو ويلبغا الناصري من أكابر اليلبغاوية؛ فقطعوا رءوسهم جميعاً، ورجعوا بها تسيل دماً. ووجموا لفقدان الأشرف، وتابعوا النداء عليه، وإذا بامرأة قد دلَّتهم عليه في مكان عرفته؛ فتسابقوا إليه، وجاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم، ومخلّف السلطان، واعتزم على قتالهم طمعاً في الاستبداد الذي في نفسه؛ فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم، فخلعوا عليه بنيابة الشام، وصرفوه لذلك، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميراً آخر من اليلبغاوية قد ساهم قرطاي في هذا الحادث، وأصهر إليه في بعض حرمه؛ فاستنام له قرطاي، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلا صبوحه بغبوقه، ويستغرق في ذلك؛ فركب في بعض أيامه؛ وأركب معه السلطان عليا، واحتاز الأمر من يد قرطاي،
وصيره إلى صفد، واسّتقّلّ بالدولة، ثم انتقض طشتمر بالشّام مع سائر أمرائه؛ فخرج أينبك في العساكر، وسرّح المقدّمة مع جماعة من الأمراء؛ وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك؛ وخرج هو والسلطان في السّاقة؛ فلما انتهوا إلى بلبيس، ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه، ورجع إليه أخوه منهزماً؛ فرجع إلى القلعة. ثم اختلف عليه الأمراء، وطالبوه بالحرب في قبة النصر؛ فسرّح العساكر لذلك؛ فلمّا فصلوا فرّ هو هارباً، وقبض عليه وثقف بالإسكندرية. واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي، ويلبغا الناصري ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق؛ فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق، إلى الاستقلال بالأمر وتغلبوا على سائر الأمراء؛ واعتقلوهم بالاسكندرية. وفوضوا الأمر إلى يلبغا الناصري، وهم يرونه غير خبير، فأشاروا باستدعاء طشتمر، وبعثوا إليه، وانتظروا. فلما جاءه الخبر بذلك ظنها منية نفسه، وسار إلى مصر؛ فدفعوا الأمر إليه، وجعلوا له التولية والعزل وأخذ برقوق، وبركة يستكثران من المماليك، بالاستخدام والجاه، وتوفير الاقطاع، إكثافاً لعصبيتهما؛ فانصرفت الوجوه عن سواهما، وارتاب طشتمر بنفسه، وأغراه أصحابه بالتوثّب؛ ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين وسبعمائة استعجل أصحابه على غير روية، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم، وقاتلوا فانهزموا. وتقبض على طشتمر، وحبس بالإسكندرية، وبعث معه يلبغا الناصري، وخلت الدولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين، وعمروا المراتب بأصحابهما. ثم كثر شغب التركمان والعرب بنواحي الشام، فدفعوا يلبغا الناصري إلى النيابة بحلب ليستكفوا به في تلك الناحية. ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال، وأضمر كل واحد منهما لصاحبه، وخشي معه، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليحض بذلك جناحه؛ فارتاع لذلك بركة، وخرج بعصابته إلى قبة النصر ليواضع برقوقا وأصحابه الحرب هنالك، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الاسطبل، وسرب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياماً يغادونهم ويراوحونهم ثلاثا، إلى أن عضت بركة وأصحابه الحرب؛ فانفضوا عنه، وجيء ببركة، وبعث به إلى
الإسكندرية؛ فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرام نائب الإسكندرية. وارتفع اصحابه إلى برقوق شاكين؛ فثأرهم منه بإطلاق أيديهم في النصفة؛ فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة، بعد ان سمر، وحمل على جمل عقابا له؛ ولم يقنعهم ذلك، فاطلق أيديهم فيما شاءوا منه، ففعلوا ما فعلوا. وانفرد برقوق- بعد ذلك- بحمل الدولة ينظر في اعطافها بالتهديد، والتسديد، والمقاربة، والحرص على مكافأة الدخل بالخرج. ونقص ما أفاض فيه بنو قلاوون من الإمعان في الترف، والسرف في العوائد والنفقات، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الراجح، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها؛ وراقب ذلك كفه برقوق، ونظر في سد خلل الدولة منه، وإصلاحها من مفاسده، يعتد ذلك ذريعة للجلوس على التخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاوون، بما أفسد الترف منهم، وأحال الدولة بسببهم، إلى ان حصل من ذلك على البغية، ورضي به أصحابه وعصابته؛ فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وتلقب بالظاهر. ورتب أهل عصابته في مراتب الدولة؛ فقام وقاموا بها احسن قيام، وانقلبت الدولة من آل قلاوون إلى برقوق الظاهر وبنيه. واستمر الحال على ذلك، ونافسه اليلبغاوية- رفقاؤه في ولاء يلبغا- فيما صار إليه من الأمر، وخصوصا يلبغا نائب حلب، فاعتزم على الانتقاض. وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه؛ فجاء وحبسه مده، ثم رجعه إلى نيابة حلب، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر؛ فبعث سنة تسعين وسبعمائة دواداره للقبض عليه، ويستعين في ذلك بالحاجب. وانتقض، واستدعى نائب ملطية، وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية، وكان قد انتقض قبله، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر؛ فأجابوه، وساروا في جملته، وتحت لوائه؛ وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق؛ فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من اصحابه: وهم الدوادار الأكبر يونس،
وجهركس الخليلي أمير الاسطبل، والأتابكي ايتمش، وايدكار حاجب الحجاب واحمد بن يلبغا أستاذهم. وخرج الناصري من حلب في عسكره، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام؛ ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق، نزع كثير من عسكر السلطان إليهم، وصدقوا الحملة على من بقي فانفضوا. ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق؛ فدخلها، وقتل جهركس، ويونس، ودخل الناصري دمشق؛ ثم أجمع المسير إلى مصر، وعميت أنباؤهم حتى أطلوا على مصر.
وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة انمى عنه، أنه داخله شيطان من شياطين الجند، يعرف بقرط في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين، فلما صح الخبر أمر بقتله، وحبس الخليفة سبعا إلى تلك السنة، فأطلقه عند هذا الواقع؛ ولما وصل إلى قيطا اجتمعت العساكر، ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل، ثم دخل إلى بيته وخرج متنكرا، وتسرب في غيابات المدينة، وباكر الناصري وأصحابه القلعة، وأمير حاج بن الأشرف؛ فأعادوه إلى التخت ولقبوه المنصور. وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وكان فيهم الطنبغا الجوباني الذي كان أمير مجلس، وقبض السلطان الظاهر عليه، وحبسه أياما، ثم أطلقه وبعثه نائبا على دمشق، ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض، وداخل الناصر في نائب حلب في ذلك، وأكد ذلك عند السلطان ما كان بينه وبين الناصري من المصافاة والمخالصة، فبعث عنه. ولما جاء حبسه بالإسكندرية؛ فلما ملك الناصري مصر، وأجلس أمير حاج بن
الأشرف على التخت، بعث عنه ليستعين به على أمره؛ وارتابوا لغيبة الظاهر، وبالغوا في البحث عنه، فاستدعى الجوباني واستنام له، واستحلفه على الأمان؛ فحلف له، وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصر في المضي إليه وتأمينه. وحبسوه في بعض قصور الملك، وتشاوروا في أمره؛ فأشار أمراء اليلبغاوية كلهم بقتله، وبالغ في ذلك منطاش، ووصل نعير أمير بني مهنا بالشام للصحابة بينه وبين الناصري، فحضهم على قتله، ومنع الجوباني من ذلك وفاء بيمينه، فغلت صدورهم منه. واعتزموا على بعثه إلى الكرك، ودافعوا منطاشا بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية، فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه. ووثق بذلك، فقعد له عند المرساة، وخالفوا به الطريق إلى الكرك، وولوا عليها نائبا واوصوه به؛ فأخفق مسعى منطاش، ودبر في اغتيال الدولة، وتمارض في بيته. وجاءه الجوباني عائذا فقبض عليه، وحبسه بالإسكندرية، وركب منتقضا، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة. واستحاش هو بأمراء اليلبغاوية؛ فداهنوا في إجابته، ووقفوا بالرميلة أمام القلعة. ولم يزل ذلك بينهم أياما حتى انفض جمع الناصري، وخرج هاربا؛ فاعترضه اصحاب الطريق بفارسكو، وردوه؛ فحبسه منطاش بالإسكندرية مع صاحبه، واستقل بأمر الملك. وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر؛ فامتنع النائب، واعتذر بوقوفه على خط السلطان والخليفة والقضاة. وبث الظاهر عطاءه في عامة أهل الكرك؛ فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الذي جاء في ذلك؛ فقتلوه؛ وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا. واستألف أفاريق من العرب، واتصل به بعض مماليكه، وسار إلى الشام. واعترضه ابن باكيش نائب غزة، فأوقع به الظاهر، وسار إلى دمشق، واخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج، وسار على التعبئة ليمانع الظاهر عن دمشق. وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق؛ فواقعه، وأقام محاصرا له. ووصل إليه كمشبغا الحمّوي نائب حلب، وكان اظهر دعوته في عمله، وتجهز للقائه بعسكره؛ فلقيه وأزال علله، فأقام له أبهة الملك. وبينا هم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه وعساكره لقتالهم، فلقيهم الظاهر بشقحب، فلما تراءى الجمعان، حمل الظاهر على السلطان أمير حاج وعساكره ففضهم، وانهزم كمشبغا إلى حلب. وسار منطاش في اتباعه؛ فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج؛ ففضها، واحتاز السلطان، والخليفة والقضاة، ووكل بهم. واختلط الفريقان، وصاروا في عمياء من أمرهم، وفر منطاش إلى دمشق. واضطرب الظاهر أخبيته، ونزل على دمشق محاصرا لها. وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه، وجمع القضاة والخليفة؛ فشهدوا على أمير حاج بالخلع، وعلى الخليفة بإعادة الظاهر إلى ملكه. ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر، وتغلب مماليكه عليها؛ وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية، وكان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعد لهم، فتناجوا في التسور منه إلى ظاهره، والتوثب على القلعة والملك، فخرجوا، وهرب دوادار منطاش الذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية. وملك مماليك الظاهر القلعة، ورأسهم
مملوكه بطا، وساس امرهم، وانتظر خبر سلطانه، فلما وصل الخبر بذلك إلى الظاهر، أغذ السير إلى مصر. وتلقاه الناس فرحين مسرورين بعوده وجبره. ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين، وولى بطا دوادارا، وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وأعتبهم، وأعادهم إلى مراتبهم. وبعث الجوباني إلى دمشق، والناصري إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه. وولى سودون على نيابته، وكان ناظرا بالخانقاه التي كنت فيها، وكان ينقم علي أحوالا من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء ازمان كنت عليه، ومن تصرفات دواداره بالخانقاه، وكان يستنيبه عليها؛ فوغر صدره من ذلك؛ وكان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى استدعاها منا منطاش، واكرهنا على كتابها؛ فكتبناها، وورينا فيها بما قدرنا عليه. ولم يقبل السلطان ذلك، وعتب عليه، وخصوصا علي؛ فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عني، فولى فيها غيري وعزلني عنها. وكتبت إلى الجوباني بأبيات أعتذر عن ذلك ليطالعه بها؛ فتغافل عنها، وأعرض عني مدة، ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه وإحسانه، ونص الأبيات:
سيدي والظنون فيك جميلة وأياديك بالأماني كفيله
لا تحل عن جميل رأيك إني ما لي اليوم غير رأيك حيله
واصطنعني كما اصطنعت بإسداء يد من شفاعة أو وسيله
لا تضعني فلست منك مضيعا ذمة الحب، والأيادي الجميله
وأجرني فالخطب عض بنابيه وأجرى إلى حماي خيوله
ولو أني دعا بنصري داع كنت لي خير معشر وفصيله
أنه أمري إلى الذي جعل الله أمور الدنيا له مكفوله
وأراه في ملكه الآية الكبرى فولاه ثم كان مديله
أشهدته عناية الله في التمحيص أن كان عونه ومنيله
العزيز السلطان والملك الظا هر فخر الدنيا وعز القبيله
ومجير الإسلام من كل خطب كاد زلزال بأسه أن يزيله
ومديل العدو بالطعنة النجلا ء تفري ماذيه ونصوله
وشكور لأنعم الله يفني في رضاه غدوه وأصيله
وتلطف في وصف حالي وشكوى خلتي يا صفيه وخليله
قل له والققالُ يَكرمُ من مثْلك في مَحفِل العُلا أن يَقُولَه
يا خوندَ الملوك يا معدل الذَهر إِذا عَدل الزمان فُصُولَه
لا تقصِّر في جَبر كسْرى فما زِلْتُ أرجيك للأيادي الطَويلَة
أنا جارٌ لكم منعتم حماه ونَهجتم إلى المعالي سَبليه
وغريب أنَستَموه على الوَحْشة والحُزْن بالرضى والسُّهولَه
وجَمعتم من شمله فقضى الله فراقاً وما قَضَى مأمولَه
غالَه الدّهرُ في البنين وفي الأهـل وما كان ظنُّه أن يَغُوله
ورمته النَّوَى فقيداً قد اجْتَاحت عليه فُروعَه وأُصولَه
فجذبتم بضَيْعِه وأنَلتُم كل ما شاءت العُلَا أن تُنيلَه
ورفعتم من قدره قبل أن يشكو إِليكم عَياءَه وخُمُولَه
وفرضتم له حقيقةَ وُدٍّ حاش لله أن تُرَى مُسْتَحِيلَه
همةٌ ما عرفتُها لسواكم وأنا من خَبرتُ دَهرِي وجِيلَه
والعِدا نمَّقوا أحاديث إِفْكٍ كلها في طرائق معلولَه
روًجوا في شأني غرائب زور نصبوها لأمرهم أُحبُولَه
ورَموا بالذي أرادوا من البهتان ظناً بأنها مقبولَة
زعموا أنني أتيت من الأقوال ما لا يظنُ بي أن أقولَه
كيف لي أغمطُ الحقوق وأنِّي شكرُ نَعماكم عليّ الجزيله ؟
كيفَ لي أنكرُ الأيادي التي تعرِفها الشمْسُ والظِّلالُ الظليله ؟
إن يكن ذا فقد برئتُ من الله تعالى رخُنتُ جهراً رسولَه
طوقونا أمر الكتاب فكانت لقداح الظنون فينا مُجيلَه
لا ورَبِّ الكتاب أنزله الله على قلب من وعَى تنزيلَه
ما رضينا بذاك فعلاً ولا جئنا طوعاً ولا اقتفينا دليلَه
إِنما سامنا الكتابَ ظَلُوم لا يُرَجَّى دِفاعًه بالحِيلَه
سَخطٌ ناجزٌ وحِلمٌ بَطيءٌ وسلاح للوْخز فينا صَقِيلَه
ودعوني ولست من مَنْصِب الحكم ولا سَاحباً لَدَيهم ذُيولَه
غيرَ أنَي وشَى بذكريَ واش يَتَقَصَّ أوتارَه وذُحُوله
فكتبنا معوِّلين على حلمك تمحو الاصار عَنَا الثَّقيلَه
ما أشرنا بهِ لِزيد ولا عمرو ولا عينوا لنا تفصيله
إِنما يذكرون عمَّن وفيمَن مُبْهماتٍ أحكامُها منقولَه
ويظنُّون أنَ ذاك على ما أضمروا من شناعةٍ أو رذيله
وهْو ظن عن الصًواب بعيدٌ وظلَامٌ لم يُحْسِنُوا تأويلَه
وجناب السُّلطان نزَهه الله عن العاب بالهُدَى والفضيلهَ
وأجَلُّ الملوك قدراً صفوحٌ يَرْتَجي ذنبَ دَهره ليُقِيلَه
فاقبلوا الغذرَ إِنَّنا اليوم نرجُو بحياةِ السُلطان منكُم قبُولَه
وأعينوا على الزمان غريباً يشتكي جَدْب عَيشِه ومُحُولَه
جارُكم ضيفُكم نزيلُ حِماكم لا يُضيعُ الكريمُ يوماً نَزِيلَه
جَدِّدوا عندَه رُسومَ رضاكم فَرُسُومُ الكرام غَيرُ مُحيلَه
داركوه برحمة فلقد أمسَتْ عقودُ اصطباره محلولَه
وانحَلوه جَبْرا فليس يُرجِّي غيرَ إحسانكم لهَذِي النحِيلَه
يا حميدَ الآثار في الدهر يا ألطْنبُغا يا رَوْض العُلاَ ومَقِيلَه
كيفَ بالخانِقاه ينقلُ عنَي لا لذَنب أو جُنْحَةٍ مَنقولَه
بل تقلَّدتُها شَغُوراً بمرسُوم شَريفٍ وخِلعة مَسْدُولَه
ولقد كنت آملًا لسواها وشواها بوْعدِه أن ينِيلَه
وتوثَّقتُ للزمان علَيْها بعقود ما خِلتُها محلولَه
أبلغن قِصَّتي فمثلُك من يقصد فعل الحسنى بمن ينتمي لَه
واغنموا من مثوبتي ودعائي قُربَةً عند ربكم مقبوله
وفي التَّعريض بسَفَره إلى الشام :
واصحَب العزَ ظافرأ بالأماني واترُك العُصبةَ العِدا مَفْلولَه
واعتَمِل في سعادة الملك الظاهر أن تَمحو الأذَى وتُزيِلَه
وتُعيدَ الدُّنيا لأحْسَن شَمْلٍ حين تُضْحِي بسَعْده مشمُولَه
واطلُب النَّصر من سَعادته يصحَبْك داباً في الظعن والحَيلُولَه
وارتَقِب ما يُحِلُّه بالأعادي في جُمادَى أو زد علَيه قَليلَه
وخذوه فألا بحسن قبول صدق الله في الزمان مقوله
فلقد كان يحسن الفال عند المصطفى دائما ويرضى جميله
السعاية في المهاداة والاتحاف بين ملوك المغرب والملك الظاهر:
كثيرا ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضا بالإتحاف بطرف أوطانهم،
للمواصلة والإعانة متى دعا إليها داع. وكان صلاح الدين بن أيوب هادى يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن، واستجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشام حين كان معنيا بإرجاعهم عنها، وبعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ من أمراء شيزر، فأكرم المنصور رسوله، وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه من العدول عن تخطيطه بأمير المؤمنين؛ فوجدها غصة في صدره منعته مي إجابته إلى سؤاله؛ وكان المانع لصلاح الذين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني بما كان يشاوره في أفوره، وكان مقيما لدعوة الخليفة العباسي بمصر؛ فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لإثنين في الملة كما هو المشهور، وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك، لما يرون أن الخلافة ليست لقبا فقط، وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدة والحماية؛ والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحق. فلما انقرضت دولة الموحدين، وجاءت دولة بني مرين من بعدهم، وصار كبراؤهم ورؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقية، فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم، وتسهيل طريقهم؛ فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البر والمواصلة، بالإتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية؛ فسنت لذلك طرائق وأخبار مشهورة، من حقها أن تذكر؛ وكان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ثالث ملوك بني مرين، أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة، وهو يومئذ الناصر بن محمد بن قلاوون، هدية ضخمة، اصحبها كريمة
من كرائم داره، احتفل فيها ما شاء من أنواع الطرف، وأصناف الذخائر، وخصوصا الخيل والبغال.
أخبرني الفقيه أبو إسحق الحسناوي، كاتب الموحدين بتونس، أنه عاين تلك الهدية عند مرورها بتونس، قال: وعددت من صنف البغال الفارهة فيها أربعمائة، وسكت عما سوى ذلك. وكان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب، أبو الحسن التنسي كبير أهل الفتيا بتلمسان ثم كافأ الناصر عن هذه الهدية بأعلى منها وأحفل مع أميرين من أمراء دولته، أدركا يوسف بن يعقوب وهو يحاصر تلمسان، فبعثهما إلى مراكش للنزاهة في محاسنها، وأدركه الموت في مغيبهما، ورجعا من مراكش؛ فجهزهما حافده أبو ثابت المالك بعده، وشيعهما إلى مصر؛ فاعترضتهما قبائل حصين ونهبوهما، ودخلا بجاية، ثم مضيا إلى تونس، ووصلا من هنالك إلى مصر.
ولما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان، اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد، وكانت لها عليه تربية؛ فأرادت الحج في أيامه وبعنايته؛ فأذن لها في ذلك، وبعث في خدمتها وليه عريف بن يحيى من أمراء سويد، وجماعة من أمرائه وبطانته، واستصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء. وانتقى من الخيل العتاق، والمطايا الفره وقماش الحرير والكتان، والصوف ومدبوغ الجلود الناعمة، والأواني المتخذة من النحاس والفخار المخصوص كل مصر من المغرب بأصناف من صنائعها، متشابهة الأشكال والأنواع، حتى لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلىء والفصوص، وكان ذلك وقر خمس مائة بعير، وكانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس، بالسروج الذهبية المرصعة بالجواهر، واللجم المذهبة، والسيوف المحلاة بالذهب واللآلىء؛ كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار،
وتدرجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة؛ فكانت قيمته مائة دينار. تحدث الناس بهذه الهدية دهراً، وعرضت بين يدي الملك الناصر، فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه، وبولغ في كرامة أولئك الضيوف، في إنزالهم وقراهم وأزوادهم إلى الحجاز والى بلادهم؛ وبقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم؛ وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة. ولما فصل أرسال ملك المغرب، وقد قضوا فرضهم، بعث الملك الناصر معهم هدية كفاء هديتهم، وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة بالإسكندرية، تحمل كل عام إلى دار السلطان، قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار، وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور، تشتمل على بيوت للمراقد، واواوين للجلوس والطبخ، وأبراج للإشراف على الطرقات، وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض؛ وفيها تمثال مسجد بمحرابه، وعمده، ومأذنته؛ حوائطها كلها من خرق الكتان الموصولة بحبك الخياطة مفضلة على الأشكال التي يقترحها المتخذون لها. وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل،، عالية السمك، مخروطة الرأس، رحبة الفناء، تظل خمس مائة فارس أو أكثر، وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الضقيلة، ولجمها كذلك؛ ومرت هذه الهدية بتونس، ومعها الخدام القائمون بنصب الأبنية، فعرضوها على السلطان بتونس. وعاينت يومئذ أصناف تلك الهدية، وتوجهوا بها إلى سلطانهم، وبقي التعجب منها دهرا على الألسنة. وكان ملوك تونس من الموحدين، يتعاهدون ملوك مصر بالهدية في الأوقات.
ولما وصلت إلى مصر، واتصلت بالملك الظاهر، وغمرني بنعمه وكرامته، كاتبت السلطان بتونس يومئذ، وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التشوف إلى جياد الخيل، وخصوصا من المغرب، لما فيها من تحمل الشدة والصبر على المتاعب، وكان يقول مثل ذلك، وأن خيل مصر قصرت بها الراحة والتنعم، عن الصبر على التعب؛ فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك والظاهر بما ينتقيه من الجياد الرائعة، فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه، وحملها في البحر في السفين الواصل بأهلي وولدي؛ فغرقت بمرسى الإسكندرية، ونفقت تلك الجياد، مع ما ضاع في
ذلك السفين، وكل شيء بقدر.
ثم وصل إلينا عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة شيخ الأعراب: المعقل بالمغرب، يوسف بن علي بن غانم، كبير أولاد حسين ناجياً من سخط السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم، من ملوك بني مرين بفاس، لروم قضاء فرضه، ويتوسل بذلك لرضى سلطانه؛ فوجد السلطان غائبا بالشام في فتنة منطاش؛ فعرضته لصاحب المحمل. فلمّا عاد من قضاء فرضه، وكان السلطان قد عاد من الشام، فوصلته به، وحضر بين يديه، وشكا بثه؛ فكتب الظاهر فيه شفاعة لسلطان وطنه بالمغرب، وحفله مع ذلك هدية إليه من قماش وطيب وتسي، وأوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب، وانصرف؛ فاقبل سلطانه فيه شفاعة الظاهر، وأعاده إلى منزلته. وانتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك الظاهر، وأحسن في انتقاء أصناف الهدية؛ فعاجلته المنية دون ذلك، وولي ابنه أبو فارس، وبقي أياما ثم هلك، وولى أخوه أبو عامر، فاستكمل الهدبة، وبعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول.
وكان السلطان الملك الظاهر، لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب، أراد أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشراء، فعين لذلك مملوكا من مماليكه منسوبا إلى تربية الخليلي، اسمه قطلوبغا، وبعث عني، فحضرت بين يديه، وشاورني في ذلك فوافقته، وسألني كيف يكون طريقه، فأشرت بالكتاب في ذلك إلى سلطان تونس من الموحدين، وسلطان تلمسان من بني عبد الواد، وسلطان فاس والمغرب من بني مرين، وحمله لكل واحد منهم هدية خفيفة من القماش والطيب والقسي، وانصرف عام تسعة وتسعين وسبعمائة إلى المغرب، وشيعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه. وبالغ في إكرامه بما يتعين. ووصل إلى فاس، فوجد الهدية قد استكملت، ويوسف بن علي على المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب أولا. وأظلهم عيد الأضحى بفاس، وخرجوا متوجهين إلى مصر، وقد أفاض السلطان من إحسانه وعطائه، على الرسول قطلوبغا ومن في جملته بما أقر عيونهم، وأطلق بالشكر ألسنتهم، وملأ بالثناء ضمائرهم، ومروا بتلمسان، وبها
يومئذ أبو زئان، ابن السلطان أبي حمّو من آل يغمراسن بن زيان، فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراكبها، وكان يحوك الشعر، فأمتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته، ونصها من أولها إلى اخرها:
لمن الركاب سيرهن ذميل
يا أيها الحادي رويدك إنها
رفقا بمن حملته فوق ظهورها
لله آية أنجم: شفافة
شهب بآفاق الصدور طلوعها
في الهودج المزرور منها غادة
فكأنها قمر على غصن على
ثارت مطايا فثار بي الهوى
أومت لتوديعي فغالب عبرتي
دمع أغيض منه خوف رقيبها
ويح المحب وشت به عبراته
صان الهوى وجفونه يوم النوى
وتهابه أسد الشرى في خيسها
والصبر- إلا بعدهن- جميل
ظعن يميل القلب حيث تميل
فالحسن فوق ظهورها محمّول
تنجاب عنها للظلام سدول
ولها بأستار الجدول أفول
تزع الدجى بجبينها فيحول
متني كثيب والكثيب مهيل
واعتاد قلبي زفرة وغليل
نظر تخالسه العيون كليل
طورا ويغلبني الأسى فيسيل
فكأنها قال عليه وقيل
لمصون جوهر دمعهن تذيل
ويروعه ظبي الحمى المكحول
تأبى النفوس الضيم إلا في الهوى
يا بانة الوادي ويا أهل الحمى
ما لي إذا هب النسيم من الحمى
خفوا الضبا يخلص إلي نسيمها
ما لي أحلأ عن ورود محله
والباب ليس بمرتج عن مرتج
فالحر عبد والعزيز ذليل
هل ساعة تصغين لي فأقول
أرتاح شوقا للحمى وأميل
إن الصبا لصبابتي تعليل
وأذاد عنه وورده منهول
والظن في المولى الجميل جميل
من لي بزورة روضة الهادي الذي
هو أحمد ومحمد والمصطفى
يا خير من أهدى الهدى وأجل من
وحي من الرحمن يلقيه على
مدحتك آيات الكتاب وبشرت
جملة الصلاة عليك تحلو في فمي
فوربعك المأهول إن بأضلعي
هل من سبيل للسرى حتى أرى
حتام تمطلني الليالي وعدها
ما عاقني إلا عظيم جرائمي
أنا مغرم فتعطفوا أنا مذنب
وأنا البعيد فقربوا والمستجير
يا سائقاً نحو الحجاز حمّولة
لمحمد بلغ سلام سميه
وسل الإله له اغتفار ذنوبه
ما مثله في المرسلين رسول
والمجتبى وله انتهى التفضيل
أثنى عليه الوحي والتنزيل
قلب النبي محمد جبريل
بقدومك التوراة والإنجيل
مهما تكرر ذكرك المعسول
قلبا بحبك ربعه مأهول
خير الورى فهو المنى والسول
إن الزمان بوعده لبخيل
إن الجرائم حملهن ثقيل
فتجاوزوا أنا عاثر فأقيلوا
فأمنوا والمرتجى فأنيلوا
والقلب بين حمّوله محمّول
فذمامه بمحمد موصول
يسمع هناك دعاؤك المقبول
وعن المليك أبي سعيد فلتنب
متحمل لله كسوة بيته
سعد المليك أبي سعيد إنه
فلكم له نحو الرسول رسول
يا حبذاك المحمل المحمّول
سيف على أعدائه مسلول
ملك بجح المغرب الأقصىبه فلهم به نحو الرسول وصول
ملك به نام الأنام وأمنت سبل المخاف فلا يخاف سبيل
فالملك ضخم والجناب مؤمل والفضل جم والعطاء جزيل
والصنع أجمل والفخار مؤثل والمجد أكمل والوفاء أصيل
يا مالك البحرين بلغت المنى قد عاد مصر على العراق يصول
يا خادم الحرمين حق لك الهنا فعليك من روح الإله قبول
يا متحفي ومفاتحي برسالة سلسالة يزهى بها الترسيل
أهديتها حسناء بكرا ما لها غيري، وإن كثر الرجال، كفيل
ضاء المداد من الوداد بصحفها حتى اضمحل عبوسه المجبول
جمعت وحاملها بحضرتنا كما جمعت بثينة في الهوى وجميل
وتأكدت بهدية ودية هي للإخاء المرتضى تكميل
اطلعت فيها للقسي أهلة يرتد عنها الطرف وهو كليل
وحسام نصر زاهيا بنضاره راق العيون فرنده المعسول
ماضي الشبا لمصابه تعنو الظبا فبه تصول على العدا وتطول
وبدائع الحلل اليمانية التي روى معاطفها بمصر النيل
فأجلت فيها ناظري فرأيتها تحفا يجول الحسن حيث تجول
جلت محاسنها فأهوى نحوها بفم القبول اللثم والتقبيل
يا مسعدي وأخي العزيز ومنجدي ومن القلوب إلى هواه تميل
إن كان رسم الود منك مذيلا بالبر وهو بذيله موصول
فنظيره عندي وليس يضيره بمعارض وهم ولا تخييل
ود "يزيد" و"ثابت " شهدابه و "لخالد" بخلوده تذييل
وإليكها تنبيك صدق مودتي صح الدليل ووافق المدلول
فإذا بذاك المجلس السامي سمت فلديك إقبال لها وقبول
دام الوداد على البعاد موصلا بين القلوب وحبله موصول
وبقيت في ندم لديك مزيدها وعليك يضفو ظلها المسدول
ثم مروا بعدها بتونس، فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العباس من ملوك الموحدين، هدية ثالثة انتقى لها جياد الخيل، وعزز بها هدية السلطانين وراءه، مع رسوله من كبار الموحدين أبي عبد الله بن تافراكين؛ ووصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظاهر في آخر الله، وعرضت بين يدي السلطان، وانتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة والسيوف والبسط ومراكب الخيك، وحمل كثيرا منهم على كثير من تلك الجياد وارتبط الباقيات.
وكانت هدية صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج واللجم الذهبية، والسيوف المحلاة، وخمسة وثلاثين حملا من أقمشة الحرير والكتان والصوف والجلد، منتقاة من أحسن هذه الأصناف.
وهدية صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموهة، وأحمالا
من الأقمشة.
وهدية صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشاة ببراقع الثياب من غير مراكب، وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه؛ وجلس السلطان يوم عرضها جلوسا فخما في إيوانه، وحضر الرسل، وأدوا ما يجب عن ملوكهم. وعاملهم السلطان بالبر والقبول، وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة، والأحوال الضخمة. ثم حضر وقت خروج الحاج؛ فاستأذنوا في الحج مع محمل السلطان، فاذن لهم، وارغد أزودتهم. وقضوا حجهم، ورجعوا الى حضرة السلطان ومعهود مبرته. ثم انصرفوا إلى مواطنهم، وشيعهم من بر السلطان وإحسانه، ما ملأ حقائبهم، وأسنى ذخيرتهم، وحصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الباقية على الأبد، خمدت الله على ذلك.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق