228
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء السابع والاخير
ذكر وفاة أسد الدين شيركوه
لما ثبت قدم أسد الدين وظن أنه لم يبق له منازع أتاه أجله «حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة» «الأنعام:44» . فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام.
وأما ابتداء أمره واتصاله بنور الدين فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا الشاذي من بلد دوين وأصلهما من الأكراد الروادية وهذا النسل هم أشرف الأكراد فقدما العراق وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فرأى من نجم الدين عقلًا ورأيًا وافرًا وحسن سيرة وكان أكبر من شيركوه فجعله مستحفظًا لقلعة تكريت وهي له فسار إإليها ومعه أخوه شيركوه فلما انهزم أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر بالعراق من قراجة الساقي على ما ذكرناه سنة ست وعشرين وخمسمائة وصل منهزمًا إلى تكريت فخدمه نجم الدين وأقام له السفن فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه فأحسن أيوب صحبتهم وسيرهم.
ثم إن شيركوه قتل إنسانًا بتكريت لملاحة جرت بينهما فأخرجهما بهروز من القلعة فسارا إلى الشهيد زنكي فأحسن إليهما وعرف لهما خدمتهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا فلما ملك قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظًا عليها فلما قتل الشهيد حصر عسكر دمشق بعلبك وهو بها فضاق عليه المر وكان سيف الدين غازي بن زنكي مشغولًا عنه بإصلاح البلاد فاضطر إلى تسليمها إليهم فسلمها على إقطاع ذكره فأجيب إلى ذلك وصار من اكبر الأمراء بدمشق.
واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بنور الدين محمود بعد قتل زنكي وكان يخمه في أيام والدهن فقربه وقدمه ورأى منه شجاعة يعجز عنها غيره فزاده حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما وجعله مقدم عسكره فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمره فراسل أخاه أيوب وهو بها وطاب منه المساعدة على فتحها فأجاب إلى ما يراد منه على إقطاع ذكره له ولأخيه وقرى يتملكانها فأعطاهما ما طلبا وفتح دمشق على ما ذكرناه ووفى لهما وصارا أعظم أمراء دولته.
فلما أراد أن يرسل العساكر إلى مصر لم ير لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره فأرسله ففعل ما ذكرناه.
لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين ابن أخيه أيوب ابن شاذي قد سار معه على كره منه للمسير.
حكى لي عنه بعض أصدقائنا ممن كان قريبًا إليه خصيصًا به قال: لما وردت كتب العاضد على نور الدين يستغيث به من الفرنج ويطلب إرسال العساكر أحضرني وأعلمني الحال وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر وتحثه أنت على الإسراع فما يحتمل الأمر التأخير ففعلت وخرجنا من حلب فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادمًا في هذا المعنى فأمره نور الدين بالمسير فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي: تجهز يا يوسف! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبدًا.
فقال لنور الدين: لا بد من مسيره معي فتأمر به فأمرني نور الدين وأنا أستقيل وانقضى المجلس.
وتجهز أسد الدين ولم يبق غير المسير قال لي نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك فشكوت إليه الضائقة وعدم البرك فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت فسرت معه وملكها ثم توفي فملكني الله ما لم اكن أطمع في بعضه.
وأما كيفية ولايته فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة العاضدية بعده منهم عين الدولة الياروقي وقطب الدين وسيف الدين المشطوب الهكاري وشهاب الدين محمود الحارمي وهو خال صلاح الدين وكل واحد من هؤلاء يخطبها وقد جمع أصحابه ليغال عليها فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضره عنده وخلع عليه وولاه الوزارة بعد عمه.
وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سنًا من يوسف والرأي أن يولى فإنه لا يخرج من تحت حكمنا ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.
فلما خلع عليه لقب الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه.
وكان الفقيه عيسى الهكاري معه فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه وقال له: إن هذا الأمرلا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما ثم قصد الحارمي وقال: هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك فمال إليه أيضًا ثم فعل مثل هذا بالباقين وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء وثبت قدم صلاح الدين ومع هذا فهو نائب عن نور الدين.
وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيمًا عن أن يكتب اسمه وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وجميع الأمراء بالديار والمصرية يفعلون كذا.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه أخوته وأهله فأرسلهم إليه وشرع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته وكلهم فعل ذلك وأخذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه وزادهم فازدادوا له حبًا وطاعة.
قد اعتبرت التواريخ فرأيت كثيرًا من التواريخ الإسلامية التي يمكن ضبطها ورأيت كثيرأ ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه منهم أول الإسلام: معاوية بن أبي سفيان أول من ملك من أهل بيته فنقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه ثم السامانية أول من استبد منهم نصر بن أحمد فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه ثم يعقوب الصفار وهو أول من ملك من أهل بيته فانتقل الملك إلى أخيه عمرو وأعقابه ثم عماد الدولة بنبويه أول من ملك من أهله انتقل الملك عنه إلى أخويه ركن الدولة وعز الدولة ثم خلص في أعقاب ركن الدولة ومعز الدولة ثم خلص في أعقاب ركن الدولة ثم الدولة السلجوقية أول من ملك منهم طغرل بك انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود ثم شيركوه هذا
كما ذكرناه انتقل الملك إلى أعقاب أخيه أيوب ثم إن صلاح الدين لما أنشأ الدولة وعظمها وصار كأنه أول لها نقل الملك إلى أعقاب أخيه العادل ولم يبق بيد أعقابه غير حلب.
وهذه اعظم الدول الإسلامية ولولا خوف التطويل لذكرنا أكثر من هذا والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر ويأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرمه الله أعقابه ومن يفعل ذلك من أجلهم عقوبة له.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق