1014
تاريخ ابن خلدون ( ابن خلدون )
تاريخ ابن خلدون
المجلد الرابع
صفحة 56 - 267
دولة السليمانيين
الخبر عن دولة السليمانيين من بني الحسن بمكة ثم بعدها
باليمن ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم
مكة هذه أشهر من أن نعرف بها أو نصفها، إلا أنه لما انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلوية مرة بعد أخرى فأقفرت من قريش، ولم يبق بها إلا أتباع بني حسن أخلاط من الناس، ومعظمهم موال سود من الحبشة والديلم. ولم يزل العمال عليها من قبل بني العباس وشيعتهم، والخطبة لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين والمعتز وما بعدهما فحدثت الرياسة فيها لبني سليمان بن داود بن حسن المثنى بن الحسن السبط. وكان كبيرهم آخر المائة الثانية محمد بن سليمان، وليس هو سليمان بن داود لأن ذلك ذكره ابن حزم أنه قام بالمدينة أيام المأمون، وبين العصرين نحو من مائة سنة، سنة إحدى وثلاثمائة أيام المقتدر، وخلع طاعة العباسية، وخطب في الموسم فقال: الحمد الله الذي أعاد الحق إلى نظامه، وابرز زهر الإيمان من أكمامه وكمل دعوة خير الرسل بإسباطه لابني أعمامه ? وعلى آله الطاهرين، وكف عنا ببركته أسباب المعتدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين ثم أنشد:
لأطلبن بسيفي ما كان للحق دينا
واسطون بقوم بغوا وجاروا علينا
يعدون كل بلاد من العراق علينا
وكان يلقب بالزيدي نسبة إلى نحلته من مذاهب الإمامية، وبقي ركب العراق يتعاهد مكة إلى أن اعترضه أبو طاهر القرمطي سنة اثنتي عشرة، وأسر أبا الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة وجماعة معه، وقتل الحجاج وترك النساء والصبيان بالقفر فهلكوا وانقطع الحاج من العراق بسبب القرامطة. ثم أنفذ المقتدر سنة سبع عشرة منصورا الديلمي من مواليه، فوافاه يوم التروية بمكة أبو طاهر القرمطي فنهب الحاج، وقتلهم حتى في الكعبة والحرم، وامتلأ زمزم بالقتل، والحجاج يصيحون كيف يقتل جبران الله فيقول ليس بجار من خالف أوامر الله ونواهيه. ويتلو: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) الآية. وكان يخطب لعبيد الله المهدي صاحب إفريقية. ثم قلع الحجر الأسود وحمله إلى الاحساء، وقلع باب البيت وحمله، وطلع رجل يقلع
الميزاب فسقط ومات فقال اتركوه فإنه محروس، حتى يأتي صاحبه يعني المهدي فكتب إليه ما نصه: والعجب من كتبك إلينا ممتنا علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا، من حرم الله وجيرانه، بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرم إراقة الدماء فيها وإهانة أهلها. ثم تعديت ذلك، وقلعت الحجر الذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك ورجوت أن نشكرك فلعنك الله ثم لعنك، والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفعل في يومه ما عمل فيه حساب غده انتهى. فانحرفت القرامطة عن طاعة العبيديين لذلك. ثم قتل المقتدر على يد مؤنس سنة عشرين وثلاثمائة، وولى أخوه القاهر، وحج بالناس أميره تلك السنة. وانقطع الحج من العراق بعدها إلى أن كاتب أبو علي يحيى الفاطمي سنة سبع وعشرين من العراق، أبا طاهر القرمطي، أمراء يطلق السبيل للحجاج على مكس يأخذه منهم. وكان أبو طاهر يعظمه لدينه ويؤمله فأجابه إلى ذلك، واخذ المكس من الحجاج لم يعهد مثله في الإسلام. وخطب في هذه السنة بمكة للراضي بن المقتدر. وفي سنة تسع وعشرين لأخيه المقتفي من بعده، ولم يصل ركب العراق في هذه السنين من القرامطة. ثم ولي المستكفي بن المكتفي سنة ثلاث وثلاثين على يد توروز أمير الأمراء ببغداد فخرج الحاج في هذه السنة لمهادنة القرامطة بعد أبي طاهر. ثم خطب للمطيع ابن المقتدر بمكة مع معز الدولة سنة أربع وثلاثين عندما استولى معز الدولة ببغداد، وقلع عين المستكفي واعتقله. ثم تعطل الحاج بسبب القرامطة وردوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين بأمر المنصور العلوي صاحب إفريقية، وخطابه في ذلك لأميرهم احمد بن ابي سعيد.ثم جاء الحاج إلى مكة سنة اثنتين وأربعين مع أمير من العراق، وأمير من مصر فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، وابن الأخشيد صاحب مصر فانهزم المصريون وخطب لابن بويه، واتصل ورود الحاج من يومئذ. فلما كانت سنة ثمان وأربعين وجاء الحاج من بغداد، ومصر، كان أمير الحاج من العراق، ومحمد بن عبيد الله (1) فأجابه إلى ذلك. ثم جاء إلى المنبر مستعدا، وأمر بالخطبة لابن
بويه فوجم الآخر، وتمت عليه الحيلة وعاقبه أميره كافور ويقال قتله. ووقع ابن بويه لمحمد بن عبيد الله باتصال إمارته على الحاج. ولما كانت سنة ست وخمسين، وصل بركب العراق أبو أحمد الموسوي، نقيب الطالبيين، وهو والد الشريف الرضي، ليحج بالناس، ونهب بنو سليم حاج مصر، وقتل أميرهم. وفي سنة ست وخمسين حج بالناس أبو أحمد المذكور، وخط بمكة لبختيار بعد موت أبيه معز الدولة، والخليفة يومئذ المطيع. واتصل حج ابي أحمد بركب العراق. وفي سنة ثلاث وخمسين خطب للقرمطي بمكة، فلما قتل أحمد وقعت الفتنة بين ابي الحسن القرمطي وخلع طاعة العبيديين، وخطب للمطيع وبعث إليه بالرايات السود، ونهض إلى دمشق فقتل جعفر بن فلاح قائد العلويين، وخطب للمطيع. ثم وقعت الفتنة بين ابي الحسن وبين جعفر، وحصلت بينهم دماء. وبعث المعز العلوي من اصلح بينهم، وجعل دية القتلى الفاضلة في مال المعز. وهلك بمصر أبو الحسن فولي أخوه عيسى. ثم ولي بعده أبو الفتوح الحسن بن جعفر سنة أربع وثمانين. ثم جاءت عساكر عضد الدولة ففر الحسن بن جعفر إنى المدينة ولما مات العزيز بالرملة، وعاد بنو ابي طاهر، وبنو أحمد بن ابي سعيد إلى الفتنة فجاء من قبل الطائع أمير علوي إلى مكة، وأقام له بها خطبة.وفي سنة سبع وستين بعث العزيز من مصر باديس بن زيري الصنهاجي، وهو أخو بلكين صاحب إفريقية، أميرا على الحاج فاستولى على الحرمين وأقام له الخطبة، وشغل عضد الدولة في العراق بفتنة بختيار ابن عمه فبطل ركب العراق. ثم عاد في السنة بعدها وخطب لعضد الدولة أبو أحمد الموسوي، وانقطعت بعدها خطبة العباسيين عن مكة وعادت لخلفاء مصر العبيديين إلى حين من الدهر. وعظم شأن ابي الفتوح واتصلت إمارته في مكة، وكتب إليه القادر سنة ست وتسعين في الأذن لحاج العراق فأجابه على أن الخطبة للحاكم صاحب مصر. وبعث الحاكم إلى ابن جراح أمير طيىء باعتراضهم وكان على الحاج الشريف الرضي، وأخوه المرتضى فلاطفهم ابن الجراح وخلى سبيلهم على أن لا يعودوا. ثم
اعترض حاج العراق سنة أربع وتسعين الأصيغر الثعلبي عندما ملك الجزيرة فوعظه قارئان كانا في الركب. ثم اعترضهم في السنة بعدها أعراب خفاجة ونهبوهم. وسار في طلبهم علي بن يزيد أمير بني أسد فأوقع بهم سنة اثنتين وأربعمائة. ثم عادوا إلى مثل ذلك من السنة بعدها فعاد علي بن يزيد وأوقع بهم، وسما له بذلك ذكر، وكان سببا لملكه وملك قومه.ثم كتب الحاكم سنة اثنتين وأربعين إلى عماله بالبراءة من ابي بكر وعمر، ونكر ذلك أبو الفتوح أمير مكة، وانتقض له، وحمل الوزير أبو القاسم المغربي على طلب الأمر لنفسه. وكان الحاكم قتل أباه وأعمامه فخطب أبر الفتوح لنفسه، وتلقب الراشد بالله، وسار إلى مدينة الرملة لاستدعاء ابن الجراح أمير طيىء لمغاضبة بينه وبين الحاكم. ثم سرب الحاكم أمواله في بني الجراح فانتقضوا على ابي الفتوح وأسلموه، وفر الوزير المغربي إلى ديار بكر من أرض الموصل، ومعه ابن سبابة. وفر التهامي إلى الري، وكان معه. وقطع الحاكم الميرة عن الحرمين، ثم راجع أبو الفتوح الطاعة فعفا عنه الحاكم وأعاده إلى إمارته بمكة. ولم يحج من العراق في هذه السنين أحد. وفي سنة اثنتي عشرة حج بأهل العراق أبو الحسن محمد بن الحسن الافساسي فقيه الطالبيين، واعترضهم بنو نبهان من طيىء، وأميرهم حسان بن عدي، وقاتلوهم فهزموهم، وقتل أميرهم حسان. وخطب في هذه السنة للظاهر بن الحاكم بمكة. ولما كان الموسم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ضرب رجل من قوم مصر الحجر الأسود بدبوس فصدعه وثلمه، وهو يقول: كم تعبدكم تقبل فتبادر إليه الناس فقتلوه، وثار أهل العراق بأهل مصر فنهبوهم وفتكوا فيهم. تم حج بركب العراق سنة أربع عشرة النقيب بن الافساسي، وخشي من العرب فعاد إلى دمشق الشام وحج في السنة التي بعدها، وبطل حج العراق. ولما بويع القائم العباسي سنة اثنتين وعشرين رام أن يجهز الحاج فلم يقدر لاستيلاء العرب وانحلال أمر بني بويه. ثم خطب بمكة للمستنصر بن الظاهر. ثم توفي الأمير أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن محمد بن سليمان رئيس مكة، وبني سليمان، سنة ثلاثين وأربعمائة، لأربعين سنة من إمارته، وولى بعده إمارة مكة ابنه شكر، وجرت له مع أهل المدينة خطوب ملك في أثنائها المدينة وجمع بين الحرمين وعليه انقرضت دولة بني سليمان سنة ثلاثين بمكة،
وجاءت دولة الهواشم كما يذكر. وشكر هذا هو الذي يزعم بنو هلال بن عامر أنه تزوج الجازية بنت سرحان من أمراء الأثبج منهم، وهو خبر مشهور بينهم في أقاصيصهم، وحكايات يتناقلونها ويطرزونها بأشعار من جنس لغتهم، ويسمونه الشريف بن هاشم. وقال ابن حزم: غلب جعفر بن أبي هاشم على مكة أيام الأخشيديين، وولي بنوه من بعده عيسى بن جعفر وأبو الفتوح وابنه شكر بن ابي الفتوح وقد انقرض لأن شكرا لم يولد له، وصار أمر مكة إلى عبد كان له. انتهى كلام ابن حزم. وليس أبو هاشم الذي نسب جعفر إليه أبا الهواشم الذي يأتي ذكرهم، لأن هذا كان أيام الأخشيديين، وذلك أيام المستضيء العبيدي وبينهما نحو من مائة سنة.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق