إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 6 أغسطس 2014

29 موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري المجلد الأول: الإطـار النظــرى الجزء الأول: إشكاليات نظرية الباب الثالث: النزعة الجينية الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة:



29


موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية

للدكتور عبد الوهاب المسيري

المجلد الأول: الإطـار النظــرى

الجزء الأول: إشكاليات نظرية

الباب الثالث:  النزعة الجينية

الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة:

نمط جينى عام

تعبِّر النزعة الجنينية عن نفسها من خلال نمط أساسي هو نمط التأرجح بين الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة، وبين الصلابة والسيولة الشاملة:

1 ـ الواحدية الذاتية:

يدور الإنسان في الحالة الجنينية في إطار المرجعية الكامنة، فهو داخل الدائرة العضوية المغلقة يظن أنه مكتف بذاته، ومرجعية ذاته، مركز الحلول والقداسة، اللوجوس، الذي لا يُرد إلى شيء خارج محيط دائرته، ولا يمكن أن تُفرَض عليه حدود أو سدود أو قيود. وهو يرفض التجريد، فالتجريد يعني وجود المسافة التي تفصل الجزء عن الكل، وهو الآلية التي يدرك الجزء من خلالها أنه الكل، ويعرف أنه جزء وليس الكل، وأن العالم مختلف عن الذات، ومن ثم فالإنسان في الحالة الجنينية يعيش في عالم الحواس بشكل مباشر. وهو يرفض الرؤية الثنائية الفضفاضة التي تعني وجود الذات ووجود الآخر. وهو يتصور أنه قادراً على أن يتحكم في كل شيء وأن يبتلع كل شيء حتى يصبح كل شيء جزءاً لا يتجزأ منه، أي أن يصبح سوبرمان إذ أنه هو البداية والنهاية، فهو متمركز حول ذاته، تسـود في عالمـه الواحدية الذاتية (والإنسانية الهيومانية والإمبريالية).

في هذا الإطار تظهر الواحدية الإمبريالية ثم يظهر ما يمكن أن نسميه «الإباحية المعرفية». فمع إسقاط الحدود، تسقط الحدود الوجودية (نسبة إلى الوجود) والمعرفية والأخلاقية فلا حرام ولا حلال، ولا محرمات ولا حُرمات. فكل إنسان يوجد داخل قصته الصغيرة لا يبرحها، لا يكترث بالمنظومات التي توجد خارجه، والهدف من وجوده هو تعظيم اللذة (لذته هو) والمصلحة (مصلحته هو) ليحوسل العالم لمصلحته، تماماً كما كان يفعل مع ثدي أمه أو في رحمها. وهو انطلاقاً من هذا يعامل الآخر خارج أي إطار اجتماعي، فإن كان من الجنس الآخر فهو يستهلكه لتحقيق اللذة (دون أي التزام تجاه الأطفال، ثمرة اللذة العابرة)، وإن كان من الأعراق الأخرى فهو يبيدهم أو يستعبدهم (دون اكتراث بحقوقهم وإنسانيتهم)، فهو شخصية إمبريالية توسعية كاملة، لا حدود لها.

2 ـ الثنائية الصلبة:

ولكن رغم هذا الإحساس بالواحدية الذاتية، يظل العالم الموضوعي قائماً صلباً. وقد ترفض الذات المتمركزة حول نفسها أن تتفاعل مع الموضوع، ولكن الموضوع هناك، لا يختفي ولا يتلاشى، فتظهر حالة أولية من الاستقطاب والثنائية الصلبة (الواحدية الذاتية مقابل الواحدية الموضوعية المادية). ولكنها ثنائية وهمية، إذ تتفكك الذات تدريجياً وتدرك مركزية الموضوع فتذوب فيه وتختفي الواحدية الذاتية لتهيمن الواحدية الموضوعية أو الواحدية الطبيعية/المادية أو الواحدية الصلبة.

3 ـ الواحدية الموضوعية المادية:

مع اختفاء الحدود والمسافة التي تفصل الكل عن الجزء، يختفي الحيز الإنساني الذي يفصل الذات عن الموضوع، فيذوب الجوهر الإنساني ويمتزج بالكل الموضوعي، ومن ثم تتحول الذات الإمبريالية المكتفية بذاتها إلى جزء من كل وتُرد في كليتها إلى ما هو خارجها تماماً، أي إلى هذا الكل. وهكذا تختفي الواحدية الذاتية التي نجمت عنها ازدواجية الذات والموضوع، واختفى الجزء وذاب ليظهر الكل (الرحم ـ الطبيعة ـ الإله)، أو أية تنويعات عليه (مثل: الفولك ـ الدولة ـ اللبيدو ـ الحتمية التاريخية ـ البقاء المادي) حيث تتمركز الذات حول الموضوع، الذي يصبح مركز الكون وموضع الحلول، اللوجوس الذي يرتكز إليه الكون، وتظهر الواحدية الموضوعية الصلبة (وهذا ما نسميه «التمركز حول الذات» الذي يؤدي إلى «التمركز حول الموضوع»).

ورغم الاختلاف الظاهر بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع فإنهما يؤديان إلى النتيجة نفسها: إنكار الثنائية والتركيب وإمكانية التجاوز واختفاء الذات الإنسانية، الاجتماعية والمركبة، التي ترضى بالحدود التي تفصلها عن الطبيعة والمجتمع، فهذه الحدود هي التي تخلق لها حيزاً إنسانياً اجتماعياً تاريخياً يمكنها أن تتحرك فيه بقدر من الحرية، وتمارس إرادتها داخل حدوده، فتكتسب منه تعينها وهويتها. ووعيها الإنساني ككيان مستقل حر، يتفاعل مع العالم ويتجاوزه دون أن ينكره، يدرك حدوده دون أن يُرد إليها ودون أن تُطبَّق عليه هذه الحدود.

4 ـ الواحدية السائلة:

الحالة الجنينية سواء في تمركزها حول الذات أو تمركزها حول الموضوع هي حالة صلبة، تدور حول مركز (لوجوسنتريك logo-centric). ولكن ثمة مرحلة جنينية ثالثة هي حالة من السيولة الشاملة والنسبية المطلقة. وإذا كانت الحالة الجنينية في المراحل الأولى تعني إنكار الحدود تماماً والمسافة والحيز الإنساني، فإنها في المرحلة الأخيرة تعني تقبُّل المسافة باعتبارها أمراً قائماً ونهائياً. ولكن المسافة هنا هوة (أبوريا) لا يمكن اجتيازها إذ يختفي مفهوم الإنسانية المشتركة. فرغم اختفاء الرحم الكوني الأكبر ورغم انشطار الجنين الكوني إلى عدة أجنة واختفاء التجسُّد الكوني الأعظم، إلا أن كل جنين يعيش داخل رحمه، يظن أنه لا حدود له ولا قيود عليه، فيذوب بطبيعة الحال فيما حوله. ولذا بدلاً من القصة العضوية الكبرى والنظرية الشاملة التي تنتظم كل شيء، يدور كل إنسان في قصته الجنينية الصغرى دون وجود قصة كبرى. وفي حالة المراحل الأولى (الصلبة) تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها على هيئة التأيقن والتحام الدال بالمدلول. ولكن في المرحلة السائلة ينفصل الدال عن المدلول ويبدأ رقص الدوال. وعلى مستوى النصوص بدلاً من الإيمان بحرفية النص ونهائيته تظهر حالة التناص، وهي أن تتسـاوى كل النصوص وتتـداخل ويحـيل كل نص إلى نص آخر وتحيل كل كلمة إلى كلمة أخرى.

وتعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها في كثير من النماذج المعرفية عبر العصور مثل الغنوصية، والنماذج الاختزالية التي ترد العالم إلى عنصر واحد أو اثنين، ولعل من أهمها نموذج العلمانية الشاملة الذي يمثل انتصاراً للحالة الجنينية (فالإنسان الطبيعي/المادي هو تجسُّد للحالة الجنينية). ويمكن القول بأن كثيراً من النزعات المرتبطة بالعلمانية الشاملة مثل النزعة التعاقدية والرغبة في التحكم التكنولوجي والحلم باليوتوبيا التكنولوجية ونهاية التاريخ والإيمان بوحدة (أي واحدية) العلوم بحيث يسري قانون واحد طبيعي/مادي على كل من الإنسان والحيوان والجماد، هي جميعاً تعبير عن النزعة الجنينية.

وإذا كانت الفلسفة الهيجيلية بواحديتها وعضويتها هي تعبير عن الحالة الجنينية في حالة الصلابة الأولى فإن فلسفة نيتشه هي تعبير عن حالة السيولة. وما بعد الحداثة هو انتصار حالة الجنينية الواحدية السائلة. فحديث دريدا عن عالم بلا إشارات، عالم برئ من الصيرورة الكاملة، عالم لا مركز له non logo-centric، هو وصف لعالم الحالة الجنينية في حالة السيولة الشاملة. وإذا كان النظام الاستعماري القديم تعبيراً عن النزعة الجنينية الغربية في مرحلة الصلابة، فإن النظام العالمي الجديد تعبير عنها في مرحلة السيولة. ونحن نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية والنزعة الربانية.



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق