28
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الأول: الإطـار النظــرى
الجزء الأول: إشكاليات نظرية
الباب الثالث: النزعة الجينية
«النزعة الجنينية» مصـطلح قمنا بصياغته لنصف نزعة نتصور أنها أصلية كامنة في النفس البشرية، وهي نزعة لرفض كل الحدود وإزالة المسافة التي تفصل بين الإنسان وما حوله حتى يصبح كائناً لا حدود له. ولكن حينما تتحقق هذه الرغبة، يجد الإنسان نفسه جزءاً من كل أكبر منه يحتويه ويشمله. وهذه الرغبة في إزالة الحدود هي، في واقع الأمر، رغبة في التخلص من تركيبية الذات الإنسانية وتعيُّنها ومن عبء الخصوصية والوعي الإنساني، وهي محاولة للهرب من الواقع الإنساني بكل ما فيه من ثنائيات وتدافع، وخير وشر، وإمكانيات نجاح وفشل، ونهوض وسقوط، وحرية وحتمية، ومحاولة التجاوز والتكيف، أي أنها نزعة للهروب من الحيز الإنساني المُركّب إلى عالم واحدي أملس بلا حدود.
هذا العالم الذي يهرب إليه الإنسان يشـبه الرحم حيث كان يعيـش الجـنين بلا حدود ولا قيود خارج أي حيز إنساني، لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن رحم أمه ولا توجد مسافة أو حيز تفصل بينهما، أو يشبه حياة الطفل الرضيع في الأشهر الأولى من حياته، حين كان يتصور أنه لا يزال جنيناً في الرحم لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن أمه وأنه جزء لا يتجزأ منها، وحينما يمسك بثديها يتصور أنه قد تحكَّم في العالم بأسره وأنه قد تواصل مع العالم كله، وأن الدائرة قد انغلقت تماماً فيشعر بالطمأنينة الكاملة.
هذه الحالة الجنينية الرحمية حالة دائرة عضوية مطلقة مصمتة لا تتخللها أية مسافات (واحدية عضوية) لا تختلف كثيراً عن حالة وحدة الوجود حين يحل المبدأ الواحد في الإنسان والطبيعة ويمتزج بهما تماماً، فتختفي الثنائيات والخصوصيات ولا يوجد سوى جوهر واحد في العالم أو مركز واحد. ولهذا تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها من خلال مفردات الحلولية الكمونية (الجنس ـ الرحم ـ ثدي الأم ـ الأرض) ومن خلال الصور المجازية العضوية حيث يصبح الجزء جزءاً عضوياً لا يتجزأ من الكل. وهي حالة من التأيقن الكامل حيث يتحد الدال والمدلول، والشكل والمضمون، والصورة والفكرة، والمقدَّس والمدنَّس، وتذوب الجواهر الفردية في جوهر كوني واحد، والجزئيات في كل واحد. فالحالة الجنينية هي الواحدية بامتياز.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق